أنثربولوجيا بلا مدن: الأنثربولوجيون المغاربة أمام مأزق «المفاهيم الحارسة»

في سياق إعداده لقراءة حول تاريخ حقل الأنثروبولوجيا في المغرب، لم يخف حسن رشيق، الأنثروبولوجي المحلي ومؤلف إحدى أهم الأطروحات الجديدة في حقل الفكر البري المغربي «سيدي شمهروش»، قلقه على مستقبل هذا الحقل في المغرب، فرغم أن هذا البلد عرف أسماء عديدة مثل فاطمة المرنيسي ورحمة بورقية وعبد الله حمودي وعلي أمهان وبول باسكون، غير أن عدم تطور مواضيع الأنثروبولوجيا في المغرب، بقي مصدر قلق أو حيرة لدى عالِمنا. فقد بقيت بعض العناوين والمداخل هي التي تحكم اهتمامات الباحثين المغاربة، مثل القبيلة والهوية والأضحية والطقوس المغربية. وهي مواضيع غالباً ما فُسِّر الاهتمام بها كونها تمثل الموضوعات الرئيسية للأنثروبولوجيا التقليدية، في حين يعتقد رشيق أن هذا الاهتمام لم يأتِ جراء كون الأنثروبولوجيا اهتمّت منذ ولادتها بدراسة طقوس وعادات المجتمعات البرية (وفي حالتنا تمثّل القبيلة هذا المجتمع)، بل يعود إلى تأثير الرهانات السياسية المحلية على التاريخ الكوني للأنثروبولوجيا.
إذ تُبين لنا مثلاً بدايات السير المهنية لعدد من الأنثربولوجيين المغاربة، أن بداياتهم البحثية لم تأت جراء رغبة باقتحام هذا العالم المعرفي، بل تولّدت في أحيان عديدة بفعل توجّه حكومي لإرسالهم إلى الريف المغربي، من خلال وزارة الزراعة مثلاً لدراسة أحوال القرويين في سياق مشروع تنمية الريف؛ ورغم حيوية حقل الأنثروبولوجيا واهتماماته، وعدم ركونه للسكون، وهو ما تبينه مثلاً وصايا الأنثروبولوجية الأمريكية مارغريت ميد (التي انشغلت في ثلاثينيات القرن العشرين بدراسة المجتمعات البدائية في غينيا الجديدة) لطلابها في جامعة كولومبيا في عام 1957 بضرورة تجهيز أنفسهم، بعد صعود القمر الاصطناعي «سبوتنيك» للسفر إلى الفضاء، مــــع ذلك يــــرى رشيق أن الباحث المحلي المغربي، لــــم يبد اهتماماً كبيراً بتغير مجتـــمعاته المدروســـة (مجتمعات صغيرة وقبلـــية) لصالح اهتمام أوسع بدراســة المدن، على الرغم مما شهدته المدن المغربية والعربية في القرن العشرين من تحولات عديدة.
سيصدر، في موازاة دعوة رشيق لدفع الأنثروبولوجيا إلى أماكن أخرى، وفي الوقت تقريباً 2012، كتاب آخر بعنوان «كيف نقرأ العالم العربي اليوم؟» الذي ضم عددا من الأبحاث لباحثين أنثروبولوجيين في جامعات غربية ومتخصصين بدراسة الإسلام والشرق الأوسط، من أمثال جانيت أبي لغد وسامي زبيدة وأرجون أبادوري وطلال أسد. ورغم تعدد مقاربات هذا الكتاب، بيد أن ما ميزه ربما هو اختيار المحررين أن تكون مقالة أبادوري «النظرية في الأنثروبولوجيا: المركز والمحيط» افتتاحية للكتاب، حيث ناقش أبادوري، في هذه المقالة، ذات الفكرة التي طرحها رشيق، المتمثلة في أن أنثروبولوجيا المجتمعات المعقدة غير الغربية ظلت إلى وقت قريب مواطناً من الدرجة الثانية في الخطاب الأنثروبولوجي، فالنسب والقبيلة والإسلام بقيت هي المفضلة للأنثروبولوجيين (كما ترى جانيت أبي لغد في الكتاب ذاته)، وهو أمر لا يرده أبادوري وأبي لغد إلى نوايا استشراقية (كما يحلو للباحثين ما بعد الكولونياليين تخيله) وإنما يعود إلى سياق التفضيلات الأنثروبولوجية العامة، التي رغم وصايا مارغريت ميد بقيت تميل للتركيز على الآخر «الصغير والبسيط والأولي».


أما فكرة التوجه نحو أنثروبولوجيا المجتمعات المعقدة، فستكون محل دعوة جديدة بالنسبة للقارئ العربي، وربما بالصدفة، مع ترجمة كتاب آخر لأبادوري «المستقبل واقعا ثقافياً» ترجمة الراحل طلعت الشايب..(من المفارقات في هذا الشأن أن الكتاب صدر بنسخته الإنكليزية سنة 1988 وصدرت ترجمته العربية سنة 2017).. ولن تقتصر دعوات أبادوري، في هذا الكتاب، على ضرورة التأسيس لأنثروبولوجيا حضرية، وإنما ضرورة إرساء فهم جديد للمستقبل، يعتمد على دراسة ثلاثة هموم إنسانية كبيرة هي التي تشكّله باعتباره واقعاً ثقافياً. هذه الهموم هي الخيال والتوقع والطموح.
وبالعودة إلى ملاحظات أبي لغد، فإن أي مراجعة سريعة لبعض الدراسات الأنثروبولوجية الغربية حول الشرق الأوسط، التي حظيت بترجمة عربية في السنوات القلية الأخيرة، تُظهِر لنا تحولاً في اهتماماتها وأماكن دراستها، وهذا ما يمكن ملاحظته بشكل خاص في عدد من الدراسات الصادرة عن مدينة القاهرة، وأخص بالذكر هنا كتاب الأنثروبولوجية الهولندية أنوك دي كوننغ عن الأحلام العولمية في مدينة القاهرة ومجتمع الستاربكس، وأيضاً نشير لكتاب «القاهرة: مدينة عالمية» (صدر بالإنكليزية 2009) وحاول فيه عدد من الباحثين دراسة مواضيع حول العنف في المدينة والسينما والمقاومة الساخرة والشبكات الدينية الجديدة في المدينة.

على صعيد المشرق العربي، فيلاحظ حمودي أن تأثير الدراسات الأنثروبولوجية بقي ضعيفاً، ويرد ذلك للارتياب العام الذي عبرت عنه النخب الأكاديمية والاجتماعية، ولاحقاً الموجة النقدية الشديدة الأبستمولوجية للبحث الأنثروبولوجي (جيرار ليكرك وطلال أسد) بوصفه ذا أرومة استعمارية.

وعلى صعيد سوريا، نعثر على اهتمامات أنثروبولوجية جديدة تتعلق بتطور بعض الأحياء الجديدة ، كما في دراسة الأمريكية دان تشاتي حول حي الشعلان الدمشقي في القرن العشرين. كما بينت الأنثروبولوجية الفرنسية سوفي آن سوفغران، من خلال جولاتها الإثنوغرافية في حيين داخل مدينة حلب (العزيزية والموكامبو)، إن المدينة كانت قد شهدت في السنوات الأخيرة التي سبقت الأحداث الدامية حالة من الانفتاح الواسع على السوق العالمية، وإن هذا الانفتاح خلق أنماطاً سلوكية جديدة حيال الانتماء والتقسيم الحضري، ففي مقابل الانقسام الطائفي السابق للمدينة، كما في حالة حي العزيزية الذي كان في السابق يتسم بطابع مسيحي محافظ وشبه منعزل، تحول هذا الحي لاحقاً إلى مكان للتجوال والمطاعم الجديدة والمجمعات التجارية ولمكونات اجتماعية وطائفية جديدة؛ وقد خلق هذا التحول في طابع الحي انقساماً طبقياً ومطبخياً (مطاعم الوجبات السريعة والكافيهات الجديدة في العزيزية والموكامبو) بين أهالي المدينة «الحقيقيين» والطبقات الميسورة من جهة، والسكان ذوي الأصول الريفية أو البدو المقيمين في المدينة، الذين سكنوا في الضواحي الشرقية للمدينة من جهة أخرى. لكن في موازاة هذه الحيوية الأنثروبولوجية الغربية، التي نردها لعدد من الظروف أهمها توفر بيئة أكاديمية وبرامج بحثية، فإن ما يُلاحظ أنه منذ صدور توصيات رشيق حول ضرورة مغادرة الباحث المحلي المغاربي لمغارته القديمة، فإن عناوين الأبحاث المنشورة أو الكتب الصادرة في المغرب لا توحي بتجديد أماكن البحث إلا ما ندر، كما في مثال أطروحة الباحث المغربي عبد الرحيم بورقيا (أشرف عليها رشيق) حول ظاهرة مجموعات مشجعي فرق كرة القدم في مدينة الدار البيضاء، في حين بقيت جلّ الدراسات تبدي اهتماماً بالطقوس والقبيلة والسلطة، والتي يدعوها أبادوري بـ«المفاهيم الحارسة» لأبواب النظريات الأنثروبولوجية التقليدية. وسيتوصل إلى النتيجة ذاتها ربما، التقريرُ الجديدُ الصادر عن مجلس العلوم الاجتماعية حول واقع العلوم الاجتماعية والأنثروبولوجيا وعلم النفس الاجتماعي في العالم العربي خلال الفترة الممتدة بين عام 2000/2016. إذ يلاحظ عالم الأنثروبولوجيا المغربي عبد الله حمودي/معدّ التقرير، وبالاستناد إلى ورقة خلفية أعدتها أمينة المكاوي وهشام آيت منصور، حول الإنتاج المغاربي في مجال الأنثروبولوجي باللغة العربية خلال الفترة المذكورة سابقاً، استمرار مواضيع وثيمات مثل الطقوس، والمقدس، وقبيلة، وقرية، وولي، وفلكور، وجسد، كمداخل مركزية في الكتابات الأنثروبولوجية المغربية، لدرجة وصلت إلى حد الملل. أما التطور الوحيد الذي يسجله حمودي في هذا المسار، فيتعلق بالاهتمام بعلاقة الشباب مع الطقوس، وكيف يؤثر الشباب في إعادة إنتاجها، وهو ما يرده إلى توجهات مرتبطة بـ«الربيع العربي».
أما على صعيد المشرق العربي، فيلاحظ حمودي أن تأثير الدراسات الأنثروبولوجية بقي ضعيفاً، ويرد ذلك للارتياب العام الذي عبرت عنه النخب الأكاديمية والاجتماعية، ولاحقاً الموجة النقدية الشديدة الأبستمولوجية للبحث الأنثروبولوجي (جيرار ليكرك وطلال أسد) بوصفه ذا أرومة استعمارية. وقد أدى هذا الأمر إلى شبه حالة قطيعة مع هذا الحقل في المشرق العربي، لكن وبالتركيز على الفترة المدروسة، فإنه ما يلاحظه حمودي، رغم هذا الفقر، بروزَ محاولات واعدة: الأولى تنقل لنا صورة إثنوغرافية عن الحياة اليومية في جو الحرب والعنف والدمار (في إشارة لعمل محمد أبي سمرا وصبر درويش عن رسائل المحاصرين في حلب)، أما المحاولة الثانية فتتعلق ببعض الأبحاث التي أُجريت بواسطة الكاميرا، ما يُعدُّ، وفقاً لحمودي، تجديداً من بين التجديدات التي اضطلع بها أنثروبولوجيون في بلدان أخرى بوساطة التصوير والفيلم، كما لا يتناسى حمودي في هذا السياق الإشادة بالجهود الإثنوغرافية للراحل فالح عبد الجبار ولدراسات وكتب المؤرخ السوري عبد الله حنا حول الرواية الشفوية للفلاحين والعمال في سوريا.
إلا أن هذه الجهود القليلة المتميزة، لا تدفع بحمودي إلى إبداء تفاؤله كثيراً بمستقبل هذا الحقل، في ظل «التعاطي مع مواضيع جديدة، حيث غلبت على معظم الدراسات المندرجة في عينة الكتب المختارة مواضيع تقليدية تمت معالجة غالبيتها في إطار الدراسات الكولونيالية».

٭ كاتب من سوريا

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية