واشنطن: إذا ما وقف شخص بمفرده في مواجهة عدة أشخاص، فعادة ما تكون الغلبة للكثرة. ولكن الحال ليس دائما هكذا في العلاقات الدولية والاستراتيجيات الكبرى، ففي بعض الأحيان قد يسود الشخص “الواحد”، بشرط أن يكون لديه من القسوة ما يكفي للإبقاء على “الكثيرين” منقسمين.
وانطلاقا من هذه الفكرة، تناول المحلل السياسي أندرياس كلوث في تحليل لوكالة بلومبرغ للأنباء تطورات تصاعد النزاع بين روسيا، وأوكرانيا، وتوقع غزو روسي للأراضي الأوكرانية. وتحظى أوكرانيا بدعم قوي من الغرب ضد موسكو. فالرئيس الروسي فلاديمير بوتين هو “الشخص الواحد” والغرب هو “الكثيرون”.
ويقول كلوث إنه حال فكر بوتين في التحرش بأوكرانيا وتدمير النظام القائم بها، وإخضاعها وغزوها مجددا، عليه أن يضع في اعتباره دائما رد فعل عدوه الرئيسي، الغرب. والميزة التي يتمتع بها بوتين تتمثل في إنه بإمكانه أن يقرر ما إذا كان سيتحرك، وأين ومتى يحدث ذلك. وعلى العكس من ذلك، من سيتخذ للغرب قراره؟ أو ما إذا كان سيتم اتخاذ قرار من الأساس.
واستخدم كلوث في تحليلاته السابق لهذا الصرع الجيوسياسي تعبير “الغرب” عل نحو متكرر، للإشارة إلى تجمع جيوسياسي، يتكون من حلف شمال الأطلسي (الناتو) والذي يضم 30 دولة، والاتحاد الأوروبي، 27 دولة، 21 منها أعضاء في الحلف العسكري. وأحيانا ما يشير المصطلح إلى دول ليست ضمن الناتو أو الاتحاد الأوروبي، مثل اليابان وأستراليا، رغم أنهما يقعان في الشرق الجغرافي من العالم.
ويقول كلوث إن إطلاق مصطلح “الغرب” على هذه الدول، يتجاوز حقيقة أنها بعيدة تمام البعد عن أن تكون تكتلا متماسكا، فهي تختلف في كيفية تصورها للتهديد القادم من روسيا، ومواطن ضعفها هي نفسها- ومن هنا جاءت فكرة المصالح الوطنية التي تجمعها. ولم يقر سوى الرئيس الأمريكي جو بايدن، الزعيم الأقوى للغرب من الناحية النظرية، هذه الإمكانية وراء الانقسام.
وقال بايدن إن الغرب سيرد بالطبع على أي اعتداء ينفذه بوتين، ولكن ما هو بالتحديد معنى الاعتداء؟ يقول الرئيس الأمريكي: “سيكون الأمر مختلفا لو كان توغلا بسيطا، وسينتهي بنا الحال إلى نزاع بشأن ماذا يتعين علينا أن نفعله، وما لا نفعله”. ويقول كلوث مازحا إن في موسكو من استمع لذلك بإنصات وبهجة.
وكما هي عادتهم، استغل الأوروبيون الفرصة ليجعلوا حالة الارتباك أكثر سوءا. فقد فاجأ الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، الجميع أمام البرلمان الأوروبي بدعوته الأوروبيين إلى “إجراء حوارهم الخاص” مع روسيا. وتساءل المحلل كلوث إذا ماكان ذلك يعني وقف التنسيق مع أمريكا والناتو، وقال إن ذلك ينسجم بالتأكيد مع ما يردده ماكرون من مزاعم “الديجولية الجديدة” بشأن “الاستقلال الذاتي” الأوروبي و”السيادة” الأوروبية، في إشارة للتصرف بشكل مستقل عن الأمريكيين. ولكن ذلك ليس له بالتأكيد تأثير بالنسبة لبوتين.
كما أن الدور الذي تقوم به، ألمانيا، أكبر دول الاتحاد الأوروبي، غير محدد، فالائتلاف الحكومي الجديد في البلاد منقسم: في الجانب المؤيد لأوكرانيا، دون مواربة، والمعادي لبوتين، يقف الخضر والديمقراطيون الأحرار. ولكن الحزب الاشتراكي الديمقراطي، بزعامة المستشار أولاف شولتس، فيعاني من انقسام داخلي، لإنه يضم فصيلا كبيرا من أصدقاء روسيا والساعين لاسترضاء بوتين، والذين يظلون مرتبطين بخط غاز “نورد ستريم” الجديد لنقل الغاز الروسي إلى ألمانيا.
وفي ترديد لصدى ما ذكره ماكرون، يريد دبلوماسيون ألمان إحياء “صيغة نورماندي” الخاصة بالمحادثات المنفصلة، والتي تضم روسيا وأوكرانيا وفرنسا وألمانيا. ومن شأن ذلك أن يكون مفيدا حال جرى تنسيق المحادثات مع الولايات المتحدة والناتو- و ربما يكون ضارا حال عدم التنسيق.
ويرى كلوث أن الاتحاد الأوروبي هو نفسه السبب فيما يعانيه من انقسام، ويبدأ ذلك مع القرارات المقبلة بشأن فرض عقوبات. ومن الناحية الاسمية، للاتحاد سياسة خارجية أمنية مشتركة، ولكن يتعين إقرار هذه السياسة بالإجماع، ما يعني أن أي دولة عضو تستطيع الاعتراض على أي شئ.
وفي أعقاب ضم بوتين شبه جزيرة القرم من أوكرانيا في عام 2014، التزم الاتحاد الأوروبي بخط مشترك إلى حد معقول، و لكن في ظل العداء المتنامي من قبل روسيا، واستمرار الصراع، قد تحدث انقسامات. وتنظر دول أعضاء، مثل بولندا، ودول البلطيق واسنكندنافيا، إلى تهديد بوتين على أنه أمر وجودي، وستسعى إلى تبني خط متشدد. وربما تشدد دول آخرى، مثل اليونان والمجر وقبرص، على أولويات مختلفة.
ويدرك بوتين هذا كله، ويستطيع أن يجتاح أوكرانيا في استعراض صارخ للقوة، ولكن المحلل السيسي كلوث يراهن على أن الرئيس الروسي سيكون أكثر مكرا من هذا، ويرى أنه سوف يشن هجوما محدودا ضد أوكرانيا، وفي نفس الوقت سيزعج الغرب في كل مكان، في آن واحد وفي كل آن، عبر الفضاء الخارجي، والفضاء الإلكتروني، من خلال حملات تضليل إعلامي، وتشويه للحقائق، وإرسال المهاجرين اليائسين إلى الاتحاد الأوروبي، والقيام بعمليات سرية، وأيضا بنشر قوات.
ويتساءل كلوث في ختام تحليله: ماذا سنطلق على هذه الهجمات المختلفة والمتنوعة؟ عمليات توغل، أم مناوشات، أم غزو؟ أو ربما نقضي الشهور في خلاف بشأن تحديد مثل هذه المصطلحات، كما قال بايدن، لنصل إلى نتائج مختلفة للغاية. وهذا هو أكبر ضعف يعاني منه الغرب. وتعني القيادة- سواء في أمريكا الشمالية أو في أوروبا، حاليا الاعتراف بذلك، ثم القيام بكل ما هو ممكن لتحويل “الكثيرين” إلى “واحد”.
(د ب ا)