أول ما يرد على الخاطر عند ذكر الموسيقى والغناء في تونس، اسم الهادي الجويني، فهو من أعظم فنانيها، ومن أهم الموسيقيين العرب في القرن العشرين، وكان ذلك القرن كريماً مع الموسيقى العربية، حيث جاد عليها بالكثير من المواهب والعبقريات، خصوصاً في النصف الأول منه. في بدايات القرن العشرين، كان مولد الهادي الجويني على أرض تونس سنة 1909، وحتى وفاته سنة 1990 لم يفارق تلك الأرض، ولم يهاجر فنياً إلى القاهرة، أو إلى أي عاصمة عربية أخرى. وكرس الجهد والعمر من أجل الإبداع التونسي، وفي سبيل العمل على تحديث موسيقى بلاده وتوسيع آفاقها، مع الحرص على تأصيل الجذور، وتلوين الطرب بالعديد من الألوان، ونظم الشعر الغنائي، وكتابة الكلمة المعبرة عن القلب والوجدان والمخيلة، وهو ما يصف في النهاية جانباً من الهوية التونسية والثقافة العامة هناك.
المطرب الشاعر
ليس من الشائع في عالم الغناء العربي، أن يكون المطرب شاعراً يؤلف بنفسه كلمات أغانيه، فالمعتاد والمألوف أن يكون المطرب ملحناً وعازفاً، لكن الهادي الجويني يكاد أن يكون ظاهرة نادرة فريدة، في أنه كان يقوم بكتابة أغانيه، وكان هذا الأمر أكثر ندرة وفرادة في الزمن القديم، حين بدأ الغناء في الثلاثينيات والأربعينيات من القرن الماضي. عندما نستمع إلى الهادي الجويني ونصغي إلى غنائه، نكون في الوقت ذاته أمام ما كتبه من كلمات، وما صنعه من صور شعرية، وما صاغه من معان عاطفية، كان الفنان الراحل يجمع بين أكثر من موهبة، فهناك الغناء والكتابة والتلحين، وكذلك العزف على آلة العود، ويقال إنه كان يعزف أيضاً على آلة الماندولين في بداية مسيرته الفنية، وكان أسلوبه في العزف على آلة العود جميلاً ذا ضربات رشيقة، يتنوع بين التراثي القديم والحديث العصري.
على مدى أكثر من نصف قرن، شكّل الهادي الجويني وجهاً من أجمل وجوه الموسيقى التونسية، وفي إبداعه الموسيقي نجد الأصالة، والألوان القديمة من فنون الغناء التونسي، كالمالوف والعتيق والموشحات الأندلسية، كما نجد الأثر المشرقي الواضح، والشمال افريقي، بالإضافة إلى الانفتاح على الموسيقى الغربية، تحديداً الأنغام والإيقاعات الإسبانية، ويمكن وصف موسيقاه بأنها موسيقى تونسية عربية، شمال افريقية، بحر متوسطية.
يطلق البعض على الهادي الجويني لقب عبد الوهاب تونس، نظراً لتشابه ما قد يلحظه السامع، بين تجربة محمد عبد الوهاب في مصر، وتجربة الهادي الجويني في تونس. لا يخفى تأثر الهادي الجويني بمحمد عبد الوهاب، وهناك من أعماله ما يذكرنا بأغنية «جفنه علم الغزل»، أو بأغنية «سهرت منه الليالي» على سبيل المثال. وكان الهادي الجويني يقول، إنه وجد الكثير مما كان يبحث عنه في الموسيقى المصرية، ويبدو أنه استمد منها ما أكمل به الشكل الفني الذي أراد صناعته، وفي حوار تلفزيوني أجراه عندما كان في عمر متقدم، يذكر الهادي الجويني أول لقاء جمعه بمحمد عبد الوهاب، عن طريق الفنانة التونسية حسيبة رشدي التي اصطحبته إليه، وكان محمد عبد الوهاب قد أثنى على ألحان الهادي الجويني قبل أن يراه، حينما سمع حسيبة رشدي تغني بعضاً من تلك الألحان. بتواضع مدهش وحماس يفوق حماس الشباب، يذكر الموسيقار الهادي الجويني ترحيب محمد عبد الوهاب به، وفرحته برؤيته وكلماته التي استقبله بها: «تعال يا حبيبي.. يا سلام عليك وعلى ألحانك». من يستمع إلى كلام الهادي الجويني، عن ذلك اللقاء الذي جمعه بمحمد عبد الوهاب، يظن أنه ينتمي إلى جيل متأخر عن جيل محمد عبد الوهاب، أو أن محمد عبد الوهاب يكبر الهادي الجويني بسنوات وعقود، لكن الحقيقة أن الهادي الجويني يكبر محمد عبد الوهاب بعام واحد، وتوفي قبله بعام واحد أيضاً، فالهادي الجويني كان معاصراً لمحمد عبد الوهاب، ربما تأخر الهادي الجويني قليلاً في انطلاقته الفنية، على العكس من البداية المبكرة لمحمد عبد الوهاب، التي جعلت منه مرجعاً للهادي الجويني، يستلهم منه بعض الأفكار الموسيقية.
لكن إذا رجعنا إلى لقب عبد الوهاب تونس، هل يعني ذلك أن الهادي الجويني كان مقلداً لمحمد عبد الوهاب، أو أنه كان نسخة أخرى منه، لا يضيف سماعه شيئاً إلى سماع الأصل، الحق أن التوصيف في الأصل قد لا يكون دقيقاً، فإذا كان هناك تأثير واضح لموسيقى محمد عبد الوهاب في موسيقى الهادي الجويني، فإن ذلك الأمر نراه في جانب واحد فقط، من جوانب كثيرة أخرى تشكل في مجموعها موسيقى الهادي الجويني. حتى أشد عشاق محمد عبد الوهاب، عندما يستمعون إلى أعمال الهادي الجويني، التي يتضح فيها تأثير محمد عبد الوهاب، لا يشعرون بأنهم أمام عمل مقلد، بل يجدون شيئاً جديداً مختلفاً، مثيراً للسماع ومحرضاً على الاكتشاف، ويلتقون بإبداع له شخصيته المستقلة وجمالياته الخاصة. وبعيداً عن ذلك الجانب، يتفرد الهادي الجويني بألوان موسيقية وغنائية، لا يمكن مقارنتها بأعمال أي فنان آخر، كتجربته مع الراقصة الإسبانية على سبيل المثال، وأغنياته التونسية الخالصة ذات الطابع البلدي أو الشعبي إلى حد ما، ومؤلفاته الموسيقية الحديثة، والمؤلفات التراثية الرصينة كالموشحات الأندلسية، وبعض اللمسات الخفيفة من الفرانكو آراب كما في أغنية شيري حبيتك.
المزيج العربي الإسباني
تعد أغنية «تحت الياسمينة في الليل»، الأغنية فائقة الشهرة من بين أعمال الهادي الجويني خارج تونس، فقد ذاع صيتها وانتشرت في البلدان العربية، وهي من أرق وأعذب قطعه الغنائية بلا شك. كذلك أغنية «لاموني اللي غاروا مني»، لا تزال إلى اليوم تحظى بشهرة واسعة، وسماع كبير خارج تونس، خصوصاً مع إعادة غنائها من قبل مطربين آخرين، سواء كانوا من تونس أو من مختلف الدول العربية. ومن أشهر أغانيه ذات الطابع المحلي الخالص، على مستوى اللحن والكلمة والإيقاع المرح، أغنية «خلخال بو رطلين» وأغنية «أول مرة درباني». اشتهر الهادي الجويني بتأليف الألحان المستمدة من الموسيقى الإسبانية، كأغنية «مكتوب» وغيرها من الأغنيات، وكان له تجربة مهمة شديدة الفرادة، مع الراقصة الإسبانية التي شاركته في تقديم مجموعة من أعماله الغنائية، وكان تقديماً مختلفاً للغاية، ولم تقتصر مشاركتها على الرقص فقط، وإنما كانت تساهم في صنع الإيقاع عن طريق الصاجات المثبتة في يديها، وكذلك عن طريق التصفيق باليدين، وضربات القدمين على الأرض. لم تقم هذه الراقصة الإسبانية، بالرقص على الأغاني التي استلهمها الهادي الجويني من الموسيقى الإسبانية فحسب، بل كانت ترقص على مختلف أغانيه من الطرب التونسي القديم، والمالوف والعتيق، والموشحات الأندلسية. كان الهادي الجويني يجلس في صحبة مجموعة قليلة من العازفين، يشكلون في مجموعهم ما يشبه التخت الشرقي القديم، ويرتدون العباءات التونسية التقليدية، كان هذا التخت يتكون من العود الذي يعزف عليه الهادي الجويني، بالإضافة إلى القانون والناي، وأحياناً ينضم إليهم الرق والطبلة. يبدو مدهشاً ما كانت تصنعه تلك الراقصة الإسبانية، من مصاحبة الأنغام العربية، وإتباعها بحركات الجسد على طريقة الفلامنكو، وإحساسها العميق بالموسيقى، كما لو أنها تفهم أدق أسرارها وتدرك معانيها، وتؤكد إحاطتها بتلك الأسرار والمعاني من خلال الرقص وصنع الإيقاع. لم تحد الراقصة الإسبانية ولم تخرج عن إطار رقص الفلامنكو، وقواعده الثابتة المعروفة، فقد حافظت على تقاليد الزي وشكل القوام، ووضعية الرأس والذراعين، وبقية إشارات الجسد المختلفة، لكن المشاهد يشعر في بعض الأحيان، أنها كانت على وشك أن ترقص رقصاً عربياً، خصوصاً عندما كانت ترقص على الموشحات الأندلسية، إذ كانت تغشاها حالة من الانسجام المذهل مع الموسيقى والغناء، ربما لحنين قديم يسكنها منذ مئات السنين.
كان الهادي الجويني شاعراً وجدانياً رقيقاً، يصيغ أفكاره الشعرية في الشكل الغنائي، فيؤلف الأغنية الجميلة، التي تحتوي على كلمات ذات معان، والتي تمتلئ بالصور الخيالية، والعبارات التي لا تمر سريعاً على الأذن، بل يتوقف عندها السامع ويتذوق حلاوتها، والكلمة عند الهادي الجويني متعة فنية لا تقل جمالاً عن المتعة التي تحققها ألحانه، أو صوته الطربي الأصيل. وقد كان الهادي الجويني أحد أعضاء جماعة أدبية مشهورة في تونس، عرفت باسم جماعة «تحت السور»، وساهمت في إحياء الحركة الأدبية والفنية منذ فترة الثلاثينيات، وكانت تضم عدداً كبيراً من الشعراء والأدباء والرسامين والموسيقيين. في ذلك الوقت بزغ نجم الهادي الجويني كصوت موسيقي جديد، أتى ليحدث الموسيقى التونسية، وقد كان شاباً أنيق المظهر، بشوش الوجه دائم الابتسام، ذا إطلالة سينمائية، فاجتذبته السينما، وكان له بعض المشاركات السينمائية في الأربعينيات، بالمشاركة مع مخرجين فرنسيين. يميل الهادي الجويني في أغلب أعماله إلى اللون العاطفي، الذي يناسب صوته الهادئ ونبراته العذبة وإحساسه المرهف، لذا يعشقه السامع في أغنيات مثل «يا عين ما تبكيش»، و»يا اللي عيونك في السما والسما في عيونك»، و»حبي يتبدل يتجدد»، وكان كذلك قادراً على إبداع الألحان الرشيقة ذات الألحان الجذابة الحيوية كأغنية «هاذي غناية جديدة». وتبقى أغنية «تحت الياسمينة في الليل» اللحن الآسر الذي يأخذ السامع بجماله، إلى لحظات شعرية موسيقية وطربية ساحرة، اجتمع فيها العاشق الوحيد بالياسمين الذي رق لحاله.
كاتبة مصرية