كان ـ «القدس العربي» :للطيبة مفهوم مختلف، أو مختل، تماما كما في فيلم «أنواع من الطيبة» ليرغوس لانتيموس، المشارك في المسابقة الرسمية في مهرجان كان في دورته السابعة والسبعين (14 إلى 25 مايو/أيار). كما في فيلمه «دوغتوث» (2009) الذي يبدل فيه الكلمات وما تحمله من مفاهيم، فإن الطيبة في جديد لانتيموس تحمل مفهوما جديدا، وتتحول إلى مرادف للقسوة وفرض السطوة والتحكم في حياة الآخرين. يأتينا جديد لانتيموس بعد أقل من عام من العرض الأول لفيلمه «مخلوقات مسكينة» الذي حاز جائزة الأسد الذهبي في مهرجان فينيسيا، وأربع جوائز أوسكار، من بينها جائزة أفضل ممثلة لإيما ستون. وتشارك إيما ستون أيضا في بطولة «أنواع من الطيبة» مع وليم ديفو وجيسي بليمونس ومارغريت كوالي.
«أنواع من الطيبة» يضم ثلاث قصص منفصلة، لكن يجمع بينها خط واحد من انقلاب مفهوم الطيبة. كل قصة تتركنا أكثر ذهولا، وربما انقباضا وانزعاجا، من سابقتها، لكن المعتاد على عوالم أفلام لانتيموس سيجد الملامح الرئيسية لتلك العوالم في تلك القصص الثلاث.
القصة الأولى لأحد الموظفين، أو ربما هو في درجة من درجات التراتب الإداري لمؤسسة ما، ويدعى روبرت، يؤدي دوره جيسي بليمونس. يقيم بليمونس في منزل أنيق مع زوجته، ولا أطفال لهما. يغدق مدير روبرت (ويليم دافو) الهدايا على موظفه، التي عادة ما تكون تذكارات من نجوم الرياضة في العالم. يتسلم روبرت كل يوم مظروفا صغيرا يحمل المهام التي يكلفه بها مديره ليومه، وهي مهام تتعلق بأدق تفاصيل حياته، مثل متى وماذا يأكل، ملابسه لليوم، أو ما إذا كان سيمارس الجنس مع زوجته أم لا. لكن ذات يوم عندما يتعلق الأمر بقرار قد يودي بحياة شخص آخر في حادث سيارة، يتمرد روبرت على مديره. ويعقب ذلك انهيار عالم روبرت تماما، فيفقد وظيفته وزوجته وحياته كما يعرفها. ربما قد تحيلنا القصة إلى الإله المتحكم الذي يدير حياة البشر كيفما يشاء، وما على الإنسان إلا الطاعة، وإلا فمصيره النبذ والعقاب. هي قصة نشاهدها بغصة في الحلق واندهاش كبير.
تتوالى قصص الفيلم، وهي تنويعات على انقلاب مفهوم الطيبة. في القصة الثانية نرى ضابط شرطة يشعر بحزن شديد لفقد زوجته في حادث اختفاء قارب في يوم عاصف، لكنها حين تعود بعد عثور قوات الإنقاذ عليها، تساوره الشكوك في حقيقتها، ويظن أنها استبدلت بامرأة أخرى تشبهها، ويطلب من المرأة التي عادت تلك التضحية بحياتها، أو تقديم نفسها قربانا، ليتأكد من هويتها. والقصة الثالثة لزعيمي طائفة دينية يكلفان امرأة بالعثور على فتاة ذات مواصفات معينة، لتصبح شخصا ذا قداسة في طائفتهما، وحين تخفق في مهمتها، ينبذانها ويطردانها من عالمهما.
القصص الثلاث يجمعها خط من التحكم والسيطرة والقسوة والرغبة في إخضاع الغير وإذلاله. يستخدم لانتيموس الممثلين ذاتهم في القصص الثلاث، ما يعطي الإحساس بأننا نشاهد قصة واحدة ممتدة، تتضاعف فيها درجات «الطيبة» كما يدعوها لانتيموس. تتوالى القصص، لكن تبقى الأجواء المقبضة ذاتها، وتبقى الرموز ذاتها مثل ممارسة الجنس لإثبات الولاء والطاعة، الامتناع عن تناول أطعمة معينة امتثالا للأوامر، الامتناع عن شرب الماء إلا من نوع معين، ارتداء ملابس معينة، هجر الأسرة والأهل ليصبح المرء خالصا مكرسا لخدمة صاحب الأمر. جميعها تدور حول الخضوع والإخضاع، وحول الطيبة المشروطة بالطاعة التامة، وإلا تحولت لقسوة عارمة. لا طوعية ولا حرية اختيار في الفيلم، فجميع الشخصيات في القصص الثلاث محكومة بإرادة شخص آخر متحكم مهيمن. وإذا حاولت تلك الشخصيات التمرد أو إبداء حرية الرأي أو التذمر فمصيرها العقاب والطرد. التحكم في الجسد وما يفعله أو لا يفعله يتكرر في القصص الثلاث. ممارسة الجنس، ومع من ومتى تجب ممارسته، المنع من الحمل والإنجاب، حتى الأمر بزيادة أو نقصان الوزن، كلها أمور تتكرر في الفيلم لإثبات الحب والولاء والطاعة.
يدفعنا الفيلم للتساؤل عن أنفسنا. هل نحن أحرار حقا، أم نخضع لنواهٍ وأوامر إن خالفناها يكون المصير هو العقاب والنبذ والطرد من الحب والرحمة. يقدم لانتيموس فيلما مصقولا منمقا وممتعا بصريا، ويحمل السمات المميزة لعالمه. لكن الفيلم تنقصه روح ما، تنقصه تلك الصدمة التي شعرنا بها في فيلمه «مقتل غزال مقدس» على سبيل المثال. ربما يحمل الفيلم تكرارا وإعادة للعلامات المميزة لعالم لانتيموس، لكن دون الدفقة الشعورية المكثفة السابقة.