فازت آنّي إيرنو Annie Ernaux (أول امرأة فرنسية، المرأة رقم 17 في تاريخ الفائزات بنوبل منذ تأسيسها في 1901، وسبقها 15 فائزاً فرنسياً بنوبل، كان آخرهم باتريك مانديانو) بجائزة نوبل «لشجاعتها ولدقتها التحليلية التي كشفت من خلالها عن جذور الإبعاد والعوائق الجمعية التي تعطل الذاكرة الفردية» كما ورد في تقرير جائزة نوبل. هذا الفوز «غير المنتظر» أثار زوبعة من التساؤلات، بين عبثية الاختيار وشجاعته. وصل المنبر اليهودي ( (tribune juif إلى حد اتهام الكاتبة بمعاداة السامية (بينما هي تعادي الظلم الإسرائيلي المسلط على الفلسطينيين، ولم يرد في كل كتاباتها شيء عن اليهود أو معاداة السامية)، واعتبر «المنبر اليهودي» منح الجائزة لها مزلقاً خطيراً، وقد فتحت الجريدة حنفية الشتائم عن آخرها لمتابعيها، وكلها كانت في اتجاه واحد طبعاً. إيرنو من القلة القليلة في النخبة الفرنسية التي أعلنت موقفها بوضوح كتابة وتوقيعاً على العرائض المنددة بالظلم الإسرائيلي. فقد وقعت في 2018 برفقة شخصيات فرنسية ثقافية معروفة لمقاطعة «الموسم الثقافي المتقاطع الفرنسي – الإسرائيلي» لأنه يشكل واجهة إسرائيلية على حساب الشعب الفلسطيني. وفي 2019 وقعت على نداء مع ميديا بارت Mediapart لمقاطعة «مسابقة أوروفيزيون للأغنية» في تل أبيب، وغيرها من المواقف الواضحة من قضايا الإنسان والعنصرية.
عربياً، كان الموقف مرتبكاً جداً بين مستغرب ومتسائل، مع غياب شبه كلي لقراءتها على الرغم من أن «منشورات الجمل» ترجمت لها عدداً من الروايات. لكن المشكلة ليست هنا، إنما في ردة الفعل السريعة التي لا تتأسس على أية قراءة حقيقية، ولا على أي فضول معرفي طبيعي في الإنسان. وكل السجال الذي تم على ما بناه سلطان الفوز وليس سلطان المنجز الروائي. هناك أولاً جلْد مجاني للذّات، وكأن العربي ليس أكثر من كائن يساق من أنفه نحو المذبح، إذ كان الفوز فرصة لتصفية الحساب مع المنجز الروائي العربي و»ضحالته» و»بدانته» الفارغة و»سخف» موضوعاته؟ يحتاج الأمر إلى حقد مرضي ليسقط الإنسان في هذا «المحو» لكل جهد عربي عمره الرسمي اليوم أكثر من قرن. ثانياً، اعتبار ما كتبته آنّي إيرنو مجرد «حدوتات سخيفة لا قيمة لها» وأنه بمقدور أي فرد أن يأتي بمثلها أو أحسن؟ ولا أعلم كيف يمكن اعتبار منجز ارتبط بالإنسان في مختلف تحولاته من خلال فعل الكتابة الحميمي والتخييل الذاتي، أو في صراعه مع زمنه الصعب الذي كثيراً ما يفرض عليه فرضاً، بسبله القاسية واللاإنسانية من عنصرية وظلم واحتلال، وأمراض العصر مثل الزهايمر الذي يسرق عبقرية الإنسان، وحيرة الابنة أمام التدهور العقلي لأمها الذي يحدث أمام عينيها دون أن تستطع فعل أي شيء، كما في رواية «امرأة»، وصورة الأب الذي يخون مرغماً طبقته الفقيرة وينحت مكانة في طبقة أخرى، أي البورجوازية، من خلال عمله وزواجه، كما في رواية «المكانة» والضياع والمخدرات، ومشكلة الإجهاض التي تتحمل المرأة وحدها قسوتها أمام ذكورة ضحلة ونظام بشري شديد القسوة بقوانينه، كما في «الخزائن الفارغة» وكذلك في رواية «الحدث»، حيث أصبحت مشكلة المرأة رهاناً ليس فقط اجتماعياً، ولكن أيضاً إبداعياً. هناك ظلم حتى في تقسيم العمل بين الرجل والمرأة حتى في أبسط المهام اليومية التي كثيراً ما تحبس المرأة وتقتلها في دائرة الشأن المنزلي، وتسرق منها حقها في الاستمتاع بالوقت والحياة، كما في رواية «امرأة متجمدة»، التي أصبحت مرجعاً مهماً في عمل الحركة النسوية، في الستينيات. ثالثاً، اعتبار بعض النقاد العرب، إيرنو، بلا أي مقياس علمي، مؤسِّسة ومجددة السيرة الذاتية، وسيدة الالتزام الحديث، وتناسى هؤلاء النقاد أن الذاتية ليست أكثر من العلاقة الحميمية مع المعطى الحياتي، أما موضوع الكتابة فيظل اجتماعياً وسياسياً بامتياز. تخييلها الذاتي يقودها نحو المجتمع وليس نحو الذات المتضخمة والمتقرحة. لا توجد في روايات إيرنو كلها ذاتية خارج تحليل معضلات العصر. التزامها ليس سياسياً بالمعنى الحرفي كما افترضه سارتر، ولكنه ارتباط حميمي بالأقدار البشرية ومعضلات العصر من حروب وعنصرية واستعمارات وظلم اجتماعي، التي لا يمكن تفاديها أو وضع الرؤوس في الرمال كما لو أن الدنيا خلقت في الأصل بهذه المظالم والمهالك. بين هذا الرأي وذاك غير المؤسسين على معرفة دقيقة بالكاتبة، تضيع الحقيقة التي يفترض أن ندافع عنها ونحميها، لا لكونها مرتبطة بالقضايا الإنسانية الكبيرة، ولكن لكونها الصوت النادر في عالم أصبح الظلم هو حقيقته المسيطرة. نحتاج إلى زمن قد يطول وقد يقصر، لاستيعاب هذه التجربة الإبداعية الفذة التي يقارب عمرها الكتابي نصف قرن، وترتكز على أكثر من عشرين مؤلفاً. على الرغم من هذه الجهود الكبيرة، هناك من يتساءل بسخرية في عالمنا العربي: من أين خرجت لنا هذه الروائية المجهولة؟ مجرد صناعة غربية؟ ينطلق هذا الموقف من منطق مبطن: كل ما لا أعرفه، هو غير موجود. وكأن العيب دوماً في الفائز أو في المؤسسة المانحة للجائزة، وليس في الذات غير المتابِعة. مع أن أنّي لم تنشر الكثير نسبياً، على عكس ما يقوله بعض الذين لا يعرفون منجزها، حتى في جزئه المترجم إلى اللغة العربية، بينما حضورها الكتابي كبير في فرنسا والعالم؛ أولاً كونها نشرت أغلب أعمالها في دار «غاليمار» التي تُعد، ليس فقط كأكبر دار نشر فرنسية، ولكن أيضاً لكونها تملك أكثر من ألف نقطة توزيع وبيع وطنياً. حقيقة، هي دار تصنّع الشهرة من موقع الاستحقاق. لم تعرِّف دور النشر التركية بأورهان باموق، ولكن غاليمار هي التي تبنته بقوة ونشرته وأذاعت صيته في سلسلتها العالمية «العالم كله le Monde entier» المخصصة للآداب الأجنبية. إضافة إلى أن كل رواياتها منشورة في سلسلة الجيب الفرنسية «فوليو Folio»» واسعة الانتشار والتابعة لـ «غاليمار». يمكننا أن نشير في هذا السياق، إلى الاهتمام الأكاديمي الفرنسي الذي صاحب منجزها المهم، ويكفي جرد تدخلاتها في الجامعات والرسائل التي كُتِبت حول منجزها الروائي وخياراتها الإنسانية. فقد أصدرت «جامعة السوربون الثالثة» كتاباً جماعياً درس أعمالها الروائية وحواراتها ومراسلاتها، وحاول أن يحدد مسلك الكتابة لديها. نشر الكتاب تحت عنوان: «أنّي إيرنو، التزام الكتابة»، أعده الزميلان بيير لويس فور وفيولين هودار ميرو (مطبوعات السوربون الثالثة 2015) لم تبق إيرنو متجمدة في رؤيتها الروائية الأحادية، ولكنها ظلت برفقة الإنسان في مواجهته للأقدار التي فُرضت عليه. طورت أطروحاتها الروائية التي سبق أن دافعت عنها في كتابها الحواري: «الكتابة مثل السكين» (2011) حيث ذكرت في آخر الكتاب: «قناعتي العميقة هي أن الكتابة ليست بمعزل عن العالم الاجتماعي والسياسي»، أكد على ذلك دومينيك فيار حينما قال عنها: «إن الكاتبة أنّي إيرنو أنتجت منجزاً متساوقاً مع عصرها وزمانها»، لهذا موضوعها ليس ذاتياً بالمعنى السطحي، ولكنه موضوع الذاكرة البشرية. العلاقة مع الزمن الذي نعيشه. فقد حرّكت الروائية حدود الأنواع، بل ومحتْها أحياناً، بين السيرة والتاريخ والرواية والمذكرات والسياسة، لتبني شيئاً آخر أكثر قرباً من انشغالات الإنسان، وهو ما تؤكده: «لا أتصور نفسي أكتب كتبًا لا تعيد النظر فيما نعيشه ولا تخضعه للتساؤل.»
الكثير من القراءة، ورفع مستوى التساؤلات نحو محاولة الفهم بدل الإقصاء، وشيء من التواضع أمام التجارب البشرية التي لا نعرفها، لا تضر أحداً. القراءة وحدها هي ما يجعلنا نقبل أو نرفض بكل حرية. المحدد الرئيسي للقيمة هو لقاؤنا المباشر مع النصوص أساساً، وما عدا ذلك فهي أحكام جاهزة، إيجاباً أو سلباً، ولا قيمة ثقافية لها. تستحق إيرنو كل الاهتمام، موقفها من القضايا الإنسانية الكبرى التي يتم طمسها، كالقضية الفلسطينية، يضعها على رأس المثقفين العالميين القليلين الذين يرفضون الاستسلام لقدر الأقوى، ولأوهام المسيطر بآلة البطش.
بالتوفيق
نفهم من هذا التقرير أن الكاتب واسيني الأعرج على علم تام بمنجز آني إيرنو الروائي، فهو إذن (بعكس كافة النقاد العرب الآخرين الذين أطلقوا أحكامهم المسبقة سلبا أو إيجابا عن جهل مطبق بهذا المنجز)، فهو يعيد الاعتبار لـ”استحقاقيتها” بجائزة نوبل للأدب بناء على أطروحاتها الروائية الهامة إنسانيا التي أوردها بالإشارة والتوثيق. ولكن كل هذه “الأطروحات الروائية” المذكورة والمسمّاة هكذا لتسويغ أهميتها من المنظور الأكاديمي وحسب ليست جديدة بتَّةً على الساحة الأدبية، في واقع الأمر. ثم إن سارتر بالتزامه السياسي بـ”المعنى الحرفي” (الذي ذُكر كمثال على الخلاف من ارتباط إيرنو “الحميمي بالأقدار البشرية ومعضلات العصر”) كان قد مُنح هو نفسه جائزة نوبل للأدب أيضا وكان قد رفضها قطعيا من منظور التزامه السياسي (والمبدئي والأخلاقي) هذا بالتحديد. أخيرا، وليس آخرا، فإن تخييل إيرنو السيري الذاتي الذي يقودها نحو المجتمع لا نحو الذات المتضخمة (والذي، في زعم الكاتب واسيني الأعرج، تناسى النقاد العرب بأنه ليس أكثر من العلاقة الحميمية مع المعطى الحياتي) لا يُعتبر ذلك المنجز المتميِّز على الإطلاق حينما يُقارن بالمنجز الفعلي القادم من مؤسسي التخييل السيري الذاتي الحقيقي كمثل ديكنز وتولستوي وجويس دونما سواهم بالذوات !!؟
سلمت يداك ولا فض فوك سيدي الكريم باقر العسفة العتفة. هكذا يجب أن يكون ما يمكن أن نسميه الآن بـ”نقد النقد”: تقديم التحليل النقدي اليقيني للنص النقدي أصلا بالحجاج المنطقي والعلمي على حد سواء / تحيتي ومودتي لشخصكم الكريم
أفضل ما قرأت عن النوبلية الجديدة، شكرا واسيني.
تقديم ممتاز سيد واسيني.
شاهدت على اليوتوب حوارها مع المقدم برنار پيڤو في تسجيل قديم . لمست عند الحديث عن إحدى رواياتها طرحها المبسط مع عمق في الوصف و التحليل .تنبهك إلى أحداث تعيشها ، تبدو عادية و روتينة، لكنها تصنع و تغير شخصيتك بقوة على المستوى السلوكي و الوجداني.
أرى أن الأدباء يعيشون حياتين، حياة الواقع و حياة العقل الباطني المستحظر. يضيفون القيمة على كل نشاط إنساني مهما بدا بسيطا
مقال جدير بالقراءة لانه شخص بتقييم محترف منجز الكاتبة الفرنسية والكاتب قريب منها.شكرا متى تنال جائزة نوبل؟ والشكر للمعلق العلمي.
شكرًا أخي واسيني الأعرج. رائع جدًا أن تعرفنا على هذه الكاتبة والأديبة الكبيرة. والحقيقة لاأستطيع أن أقول شيئًا لأني لم أقرأ رواية واحدة في حياتي ولاأعتقد أنني سأستطيع فقد جربت مرتين لكن بسرعة استسلمت للملل. لكن ملاحظتي هذا العام على جوائز نوبل، الفيزياء ، الطب، والأدب، والسلام أن المشرفين على الجائزة قدموا محاولة جيدة هذا العام لإعادة ثقة الناس بهذه الجائزة ويبدو أنهم شعروا بأخطاء السنوات الأخيرة التي أدت إلى تدني مستوى ثقة الناس بهذه الجائزة. هذا الرأي مبني على المقابلة التي قدمها أحد المشرفين على منح جائزة نوبل للفيزياء وقد شاهدتها على اليوتوب في صفحة جمعية الفيزيائيين الألمانية.