هنالك موقع أمريكي على الإنترنت يدعى TheTopTens («العشرة الأوائل» على سبيل الترجمة التقريبية)، متخصص في إعداد لوائح عن أفضل عشرة في ميادين شتى، تبدأ من السينما وتمرّ بشركات الهاتف المحمول ولا تنتهي عند السكاكر الأفضل يوم الهالوين. دلالة الموقع، من وجهة نظر هذه السطور، أنه يعكس سوسيولوجيا معقدة حول أهواء العموم في الولايات المتحدة، وبعض أطراف العالم هنا وهناك أيضاً، سيما وأنّ التحرير لا يتدخل في صياغة اللوائح أو ترتيبها، فالأمر في هذا يعود إلى تصويت حرّ لمتصفّحي الموقع وقرائه ومنتسبيه. وهذه المواقع، وما يسير على غرارها، أدوات قد تكون بالغة النفع في علم الاجتماع عموماً، واجتماع الاستهلاك والترفيه خصوصاً؛ فضلاً عن دور ليس أقلّ حساسية في الدراسات الثقافية المعاصرة.
مثال أوّل على أفضل عشرة مخرجين في تاريخ السينما، لن تخفى رسائله الثقافية والاجتماعية، والسياسية كذلك، لجهة موطن المخرج أو أسلوبيته أو موضوعاته السينمائية المفضلة؛ ثمّ المستويات الفنية الذي يتحلى بها هذا المخرج أو ذاك، وما إذا كان الفنّ الرفيع أو التجريب الطليعي أو مجاراة المزاج العام أو دغدغة الهابط والسطحي… هي الخلفية الأبرز وراء الاسم. اللائحة تضمّ، على التوالي: ستيفن سبيلبرغ، ستانلي كوبريك، كنتن ترانتينو، مارتن سكورسيزي، ألفريد هتشكوك، كريستوفر نولان، فرنسيس فورد كوبولا، راو أبندرا، تيم برتون، وجيمس كامرون. ولأنّ تحرير الموقع يحرص على التنويع ما أمكن، وعلى توسيع النطاق والخيارات والأذواق، فإنّ لائحة العشرة تُفتح على 15 اسماً إضافياً؛ ولهذا فإنّ الباحث عن مخرجين كبار، سيجد الياباني أكيرا كوروساوا في المرتبة 15، والروسي أندريه تاركوفسكي في المرتبة 17، والسويدي إنغمار برغمان في المرتبة 19، وشارلي شابلن في… المرتبة 23!
لافت، مع ذلك، أنّ ظهور سبيلبرغ وكوبريك وسكورسيزي ضمن الأربعة الأوائل يعكس تفضيلاً شعبياً للسينما الاجتماعية – السياسية، أو السياسية – الاجتماعية لمَن يعنيهم تقديم مقولة على أخرى؛ الأمر الذي تجوز قراءته في هذه المستويات، وفي أخرى فنّية وجمالية لا يغيب عنها حسّ التعطش إلى نقد السياسات والمجتمعات. من جانب آخر، يوحي وصول أبندرا، المخرج والمغنّي الهندي، إلى المرتبة الثامنة (قبل أمثال جويل وإيثان كوين، جورج لوكاس، ديفيد لينش، وريدلي سكوت)؛ بأنّ ذائقة العموم في أمريكا ليست «مُقَوْلَبة» على النحو الذي تقود إليه التنميطات الشائعة. وأما إقصاء بعض الكبار إلى المراتب الإضافية فإنه إشارة جديدة واضحة إلى تيارات الفنّ السابع كما كرّستها، وتواصل تغذيتها وإدامتها، الصناعة الهوليوودية وتحوّلات المجتمع الأمريكي.
في مثال ثانٍ، لائحة أفضل الممثلات، ثمة هذا الترتيب: ميريل ستريب، سكارليت جوانسون، إيما واتسون، أنجيلينا جولي، جودي فوستر، ناتالي بورتمان، كيت بلانشيت، نيكول كيدمان، ساندرا بولوك، وكيت ونسليت؛ حيث لا يخفى أنّ سبب حلول جوانسون في المرتبة الثانية راجع إلى أنها اليوم نجمة الإغراء الأولى، بدليل إيرادات أفلامها التي تُعدّ بالمليارات. هنا أيضاً، سوف يرى المرء ممثلات كبيرات في اللائحة الإضافية: سيغورني ويفر 13 ميشيل فايفر 17 كاثرين هيبورن 18 مارلين مونرو 19 أودري هيبورن 24 وفيفيان لي 25. صحيح أنّ بعضهنّ رحلن عن عالمنا، ولم تعد الذاكرة تكفي وحدها لاستنهاض ذائقة إعجاب بهنّ؛ إلا أنّ السينما فنّ قابل دائماً للإعادة والاستعادة، تماماً كالأعمال الأخرى الكلاسيكية في الرواية والشعر والموسيقى، وبالتالي فإنّ غياب نجوم كبار يعكس عزوفاً عن الماضي كما تمثّل في أفلام رائدة وتأسيسية، وميلاً انفرادياً نحو حاضر سينمائي باتت مفرداته في التسلية والاستهلاك هي وحدها الطاغية.
غياب نجوم كبار يعكس عزوفاً عن الماضي كما تمثّل في أفلام رائدة وتأسيسية، وميلاً انفرادياً نحو حاضر سينمائي باتت مفرداته في التسلية والاستهلاك هي وحدها الطاغية
وقبل سنوات، كي يعبر المرء المحيط إلى ثقافة استهلاك أخرى في بريطانيا، كانت إحدى كبريات المؤسسات المتخصصة في بيع وتأجير أشرطة الفيديو المنزلي قد أجرت استطلاع رأي اشترك فيه 8000 مستهلك، حول أعظم عشر شخصيات سينمائية على امتداد تاريخ الفنّ السابع. ما صوّت عليه الزبائن، وهم أغلب الظنّ شرائح تمثيلية في أوروبا المعاصرة أيضاً، وربما الكثير من أصقاع العالم في نهاية المطاف؛ كان راسل كراو، الذي لعب دور الجنرال الروماني ماكسيموس، في فيلم «المصارع». المرتبة الثانية احتلها كريستوفر ريف في دور «سوبرمان» والثالثة ميل غيبسون في «القلب الشجاع»، وأمّا المرتبة الرابعة فقد ذهبت إلى الأنثى الوحيدة ضمن لائحة العشرة: سيغورني ويفر، وشخصية إلين رايبلي، في سلسلة أفلام الخيال العلمي Alien…
كان عبثاً، بالطبع، أن يبحث المرء عن شارلي شابلن، في «الأزمنة الحديثة»؛ أو أرسون ولز، في «المواطن كين»؛ أو مارلين مونرو، في «الرجال يفضّلون الشقراوات»؛ أو أنّا مانياني، في «روما مدينة مفتوحة»؛ أو مارلون براندو، في «العرّاب»؛ أو جولي أندروز، في «صوت الموسيقى»؛ أو جاك نكلسون، في «طيران فوق عشّ الوقواق»… هذا في النطاق الأنغلو – ساكسوني، من دون الذهاب إلى الهند واليابان والسويد وروسيا ومواطن السينما الاخرى. ومن العبث، كذلك، تصريف هذه الظواهر بمنأى عن العُرى الوثقى بين العولمة واجتماع الاستهلاك وانجراف السينما مع الطوفانات الدافقة؛ أو، في المقابل، بمنأى عن صمود هنا وارتقاء هناك، حيث للفنّ الرفيع حصة عليا باقية… وتتمدد!
الأذواق حاليا أصبحت تتحكم فيها الدعاية المكثفة و كذلك المواقع التي تقدم نقدا سينمائيا للأفلام فتحكم إما بنجاحها أو بفشلها تجاريا حتى قبل أن يتعرف عليها الجمهور…
ومن هذه الأفلام على سبيل المثال، والتي قضى عليها النقد رغم استحسان بعض المعلقين لمستواها، إلى درجة أن أحدها حقق 95 دولارا فقط في شبابيك التذاكر مقابل ميزانية متواضعة أيضا بلغت 4 ملايين دولارا، لكنه ربما قد يصبح في المستقبل a cult movie رغم أنه يصنف من فئة B تماما مثل فيلم Pulp fiction المتواضع الميزانية…
الفيلم هو The objective، وقد أنتج في 2009، وهو يحكي قصة أن CIA كانت ترصد عبر الأقمار الاصطناعية منذ الثمانينات نشاطا اشعاعيا مشبوها في جبال أفغانستان وقد بلغها أن هناك رجل دين متخفيا في تلك الجبال يمكن أن يدلها على مصدر تلك الاشعاعات، وعندما جاءت فرصة غزو أفغانستان، قاد عميل لها مهمة البحث عن هذا الرجل المتخفي برفقة قوات للنخبة دون علم هاته الأخيرة بطبيعة المهمة، وأثناء البحث صادفتهم أحداث غريبة منها ما هو شبيه بما أعلنت عنه مؤخرا أمريكا من وجود أجسام طائرة مجهولة…
كما أن أحداث الفيلم يبدو أنها مستوحاة من قصص واقعية حكاها جنود خدموا في أفغانستان عن ماوصفوه ب (Bizarre paranormal encounters) وخاصة في موقع مراقبة مشهور (OP Rock) تحدثت عنه بعض الصحف العالمية، كما أن هناك موقعا يكتب مقالات عن الجيش الأمريكي (Wearethemighty.com) يروي قصصا غريبة لجنود حقيقيين مع ذكر أسمائهم، حدثت لهم في أفغانستان وحتى في العراق
كل ما أقرأ مقالات الأستاذ صبحي حديدي أجد المتعة الفكرية خاصة و أنني أشعر باستعادة أجزاء من قراءاتي وحياتي و اهتماماتي السياسية و الفكرية و الفنية . شكرا للأستاذ صبحي.