«أوبريت شهرزاد»: سيد درويش وأصدق آيات الموسيقى الخالدة

«أنا المصري كريم العنصرين» هذا اللحن الخالد لسيد درويش نسمعه في أوبريت شهرزاد، ويتردد في قلوبنا مع تردده على لسان البطل «زعبُلّة» أثناء غربته عن الوطن، وإقامته في دولة لا نعرف لها اسما، تحكمها الأميرة الشابة شهرزاد، وعمله في جيشها متعدد الجنسيات كجندي متفوق عسكريا، وفنان موهوب يعزف ويغني، وعندما يعلو صوته قائلا «أنا المصري» يكون ذلك للرد على الأميرة التي سألته من يكون، فيعلن هويته ويعرّف بنفسه، ثم يروي حكايته ويخبرها بأنه لم يفارق مصر بحثا عن الرزق، وإنما بحثا عن الحب واتباعا للهوى «وأقول لِك ع اللي خلّاني أفوت أهلي وأوطاني، حبيب أوهبت له روحي لغيره لا أميل تاني»، فتقع الأميرة في غرامه، وتحاول إبعاده عن حبيبته «حورية»، وتمنحه أعلى الترقيات، وتغدق عليه أرفع المناصب، فيصبح «باش سنجق دار» ويصير مهددا لوجود ثلاثة من أهم رجال الدولة وأكثرهم قربا إلى الأميرة، إذ يحصل على سلطة «قره آدم أوغلي» المتمثلة في طرطور كان على رأسه، وسلطة «المير شاه» المتمثلة في خاتم كان في إصبعه، ويبدد أمل «قُمع الدولة» الذي كان على وشك الزواج من الأميرة قبل أن ترى «زعبُلّة» وتعجب به.
يعيدنا أوبريت شهرزاد إلى سنة 1921 حين كان سيد درويش في التاسعة والعشرين من عمره، يتطلع إليه كل مصري بقلبه وروحه ووجدانه وضميره، وتجري ألحانه في الدماء والعروق، كما تجري على الألسنة، وكان يعيش أزهى لحظات المجد والنجاح، يطاول السماء ويلامس النجوم، لكنه كان في الوقت نفسه يقترب من الموت، الذي ضرب مصر بأقسى أنواع الصمت، عندما سلب منها سيد درويش عام 1923، ويمثل هذا الأوبريت تاريخا فنيا مهما، لأنه يشير إلى نهاية مرحلة وبداية مرحلة أخرى لم تكتمل، حيث كان إعلانا عن انتهاء عمله مع نجيب الريحاني وبديع خيري، بعد بلوغ القمة بأوبريت «العشرة الطيبة» عام 1920، وخبرا سارا عن تأسيس فرقته الخاصة، ولا شك في أنه كان سعيدا بحريته المطلقة، مهما منحه الريحاني من استقلال فكري وفني وتمويل سخي، وربما كان يتذكر لحظات الرفض المهين المؤلم من جمهور الشيخ سلامة حجازي، عندما وقف على مسرحه في بداياته، ثم يبتسم راضيا لعلمه بأن البعض يكون بحاجة إلى الوقت من أجل تفهم وتقبل الفن الجديد المختلف، وفي هذا الأوبريت تظهر ملامح العودة إلى الإسكندرية، وأيام الطفولة واللعب فوق الربوة، من خلال العمل مع صديق الصبا بيرم التونسي، ابن مدينة الإسكندرية، والشاعر العظيم الذي عرف شقاء يفوق بأضعاف ما لاقاه سيد درويش من عذاب ومعاناة، وكم أبدع التونسي في تأليف أوبريت شهرزاد، وصاغ أغنيات مصرية خالصة لم نسمع مثلها من قبل ولا من بعد، وأظهر وطنية عميقة صادقة، وقوة وشجاعة مبهرة، بالإضافة إلى النبوغ والذكاء والقدرة العجيبة على خلق الأثر الهائل، بكلمات قليلة مركزة شديدة التكثيف.
ورغم أنه لا وجود للإسكندرية كمكان في أوبريت شهرزاد، الذي تدور أحداثه بالكامل خارج مصر، إلا إنها حاضرة أحيانا من خلال اللهجة والأسلوب، وطريقة التعبير عن الحب، التي هي أكثر تحفظا من الأسلوب الفلّاحي الغارق في الحسية الصريحة المباشرة في أوبريت «العشرة الطيبة»، التي عبّر عنها بديع خيري بمهارة، رغم أنه من أبناء المجتمع القاهري، ومن خريجي المدارس الفرنسية مثل نجيب الريحاني، ولا شك في أن أوبريت «العشرة الطيبة» يعد غنائية المصريين الأولى والشاملة، التي تلخص المأساة وتجمع أطرافها، بأبطالها الفلاحين الذين هم أصل مصر القديم، وعصبها المركزي، ويظل اسم مؤلف نصه الدرامي محمد تيمور، الذي ينتمي إلى أعرق قصور الباشوات، دليلا على الوئام بين مختلف طبقات الشعب المصري في ذلك الزمن، أو إمكانية التواصل والتعاون على الأقل، ولا يغيب عن أذهاننا أنه كان على سيد درويش أن يتفوق في تلحين شهرزاد على «العشرة الطيبة»، وأن يخوض منافسة شرسة مع نفسه، نظرا لصعوبة تجاوز مثل هذا العمل الفني العظيم بتجسيده لمأساة الشعب المصري، الذي اجتمع على حكمه كل من المماليك والأتراك في فترة بائسة مظلمة من تاريخه، ونحن في أوبريت شهرزاد نرتاح قليلا من لعنة المماليك، بينما تظل لعنة الأتراك تطارد المصري في غربته، من خلال شخصية «قره آدم أوغلي» الأبله السمج ثقيل الظل، الذي يخطط لقتل زعبُلّة بالتعاون مع المير شاه وقُمع الدولة، وهما من جنسيات أخرى.

وعلى الرغم من تحيز النفس إلى أوبريت «العشرة الطيبة»، إلا أن الاستماع إلى أوبريت شهرزاد يجعلنا نكتشف كم نحب سيد درويش، وننتمي إليه ونفخر بهذا الانتماء، فلا شك في أن ألحان هذا الأوبريت هي من أصدق آياته الموسيقية الخالدة

ونستمع إلى بعض الكلمات التركية مثل كلمة، إيفيت في أغنية ليلة الدخلة، وإذا كان أوبريت «العشرة الطيبة» يعبر عن معاناة الشعب بأكمله في الداخل، فإن أوبريت شهرزاد يعكس معاناة الفرد المصري المغترب عن وطنه، والمعروف أنه يحتوي على أجمل الألحان الوطنية والمارشات العسكرية والأناشيد الحربية الحماسية وأغنيات النصر المبهجة، وعلى الرغم من إننا نستمع إليها في سياق درامي يجعلها كلها أغنيات عن جيش الأميرة شهرزاد، إلا أن رسائل بيرم التونسي وإشارات سيد درويش تعرف طريقها جيدا، وتصل مباشرة إلى القلب المصري، وتحيي روح العزة والكرامة والرغبة العميقة العتيقة في التحرر، ولنا أن نتخيل شعور المحتل الإنكليزي حينذاك، وهو يستمع إلى هذا الفن المذهل بتطوره وقدرته على إذكاء الشعور الوطني، واستعادة الإيمان والأمل في أقسى لحظات الشك والضياع واليأس.
وعلى الرغم من تحيز النفس إلى أوبريت «العشرة الطيبة»، إلا أن الاستماع إلى أوبريت شهرزاد يجعلنا نكتشف كم نحب سيد درويش، وننتمي إليه ونفخر بهذا الانتماء، فلا شك في أن ألحان هذا الأوبريت هي من أصدق آياته الموسيقية الخالدة، وبعيدا عن كلمات بيرم التونسي تنطلق نفسه بقطع من الموسيقى الخالصة العالمية بمعنى الكلمة، أما قدراته التلحينية فتبدو أكثر تطورا بالمبتكرات والتجديدات وتوزيع الأصوات وتداخلاتها، والألحان الدالة التي تشعرنا بأنه لا يلحن للصوت، وإنما يلحن للشخصية أو يلحن الشخصية، وتكون الموسيقى معبرة عنها إلى درجة أن تصير هي صوتها، ونجد أن بيرم التونسي كان يكتب بحرية تامة لا تحدها حدود، لثقته في قدرة صديقه على تلحين كل شيء، فأخذ يمزج كما يشاء بين الفصحى والعامية في لحن «أنا لا ألام في حبي» ولحن «يا حياة الروح هل حالك حالي»، كما كتب أغنية كاملة باللهجة اللبنانية يغنيها المير شاه، ويرددها معه قره آدم أوغلي وقُمع الدولة، وهي من أظرف أغنيات الأوبريت رغم أنها تمهد للانقضاض على زعبُلّة وتحويله إلى «كِبة نيّة».
أما لحن الزفاف «زفوا العروسة للعريس الجميل زينة العرسان، ده البدر يتمختر وجنبه تميل وردة البستان» البديع المبهر بثيمته الرئيسية، وغناء المجموعة والغناء الفردي لكل من زعبُلّة وحورية، يجعلنا نوقن بأن سيد درويش كان يستطيع أن يبدع ألف لحن زفاف، ويجعلنا نقول إن كل لحن منها أجمل من الآخر، ودائما ما نتوقف أثناء الاستماع إلى سيد درويش عند حرف أو كلمة تجعلنا ننتبه إلى عبقريته، وكأننا نكتشفها من جديد، ونتأمل هذه القدرة التعبيرية التي كانت محيرة لبعض الموسيقيين مثل محمد عبد الوهاب، فننتبه على سبيل المثال إلى تلحينه لكلمة «فوق» في أغنية «تحيا الأميرة شهرزاد ذات العفاف والأبهة اللي بقت كل البلاد من فوق لتحت تحبها» ونشعر بأنه طفل صغير يمد ذراعه القصيرة إلى أعلى بقدر ما يستطيع عندما ينطق كلمة «فوق»، وهي طفولة تلقائية لا يصطنعها سيد درويش أبدا، ونتعجب من قدرته على تحويل عبارة مثل «مالك يا باش سنجق مالك؟ إيه يا عم اللي جرالك؟» التي ترددها المجموعة بعد تعرض زعبُلّة للضرب من الثلاثي الشرير بموافقة الأميرة شهرزاد انتقاما منه لأنه تزوج حبيبته حورية، إلى لحن جميل نتمنى لو يظل يتردد.
وما أجمل نهاية الأوبريت حيث تردد المجموعة «الدنيا ما يدومش فيها حال م الأحوال، أيام تمر وتتغير دولة ورجال» ويغني كل من قره آدم أوغلي فرحا باستعادة طرطوره، والمير شاه باستعادة خاتمه، وقُمع الدولة بالزواج من الأميرة شهرزاد، ثم يغني زعبُلّة المصري ذلك المقطع الرائع «وأنا اللي طالع على الحديدة الله يبارك لكم سعيدة» فلا نشعر بأنه انهزم أو خسر شيئا له قيمة، ورغم محاولة الأميرة مصالحته وإرضاءه، يظل يفضل العودة إلى مصر مع حبيبته وزوجته حورية، ويخاطب الأميرة شهرزاد قائلا: «وأنا إيه بس اللي نابني بعد ما شفت الهموم، غير عُلَق قَلّت مقامي شوفي تقطيع الهدوم»، وعندما تقول الأميرة له: «حقك عليّ اتمنى تُعطى»، يغني: «أنا أتمنى الساعة دي ألقى نفسي في بلادي، هيّ أولى بجهادي من محياكي الجميل، أنا إن سالت دموعي ولا هبّت نار ضلوعي، كل ده طالب رجوعي تاني للبرّ الأصيل، طول ما نهر النيل بيجري أنا لا أنذّل عمري».

٭ كاتبة مصرية

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول عبدالله أونتاريو كندا:

    أحيي كاتبة السطور الأستاذة مروة المصرية
    اسلوبك جدا رائع وقلمك بديع وراقي جداومهذب تحية لك ولكل المصريين الشرفاء

    1. يقول مروة متولي:

      متشكرة جدا يا أستاذ عبد الله

    2. يقول هيثم:

      أوجزت و وفيت. شكرا.

    3. يقول مروة متولي:

      شكرا أستاذ هيثم

  2. يقول _خليل _@ عين باء:

    الدليل على عظمة سيد درويش هو غناء كبار مجددي الاغنية العربية لبعض اغانيه

    كالموسيقارين محمد عبد الوهاب و رياض السنباطي دون ان ننسى تعامل الاحوين الرحباني

    مع ألحانه التي ابدعت فيها السيدة فيروز أتساءل ماذا لو عايش سيد درويش فترة انتعاش

    السينما في مصر منذ الاربعينات لا شك انه كان سيصبح الاعظم لا يمكن اغفال دور رفيقه في

    الدرب الزجال الرائع بيرم التونسي اب الاغنية المصرية الذي قال في حق عاميته امير الشعراء

    اني اخشى على الفصحى من عامية بيرم

    تحياتي

    1. يقول مروة متولي:

      لا شك في إخلاص السيدة فيروز والرحبانية لسيد درويش، ولهم الفضل في إعادة تقديمه لجمهورهم الهائل. ذكرني كلامك عن السينما بحرقة قلب الأستاذ عزيز أحمد فهمي الناقد الفني العظيم والمحب الأعظم لسيد درويش على صفحات مجلة الرسالة، وهو يناشد ستوديو مصر ويطلب تحويل العشرة الطيبة إلى فيلم، أما بيرم التونسي فلا أعرف ماذا أقول عن هذا العبقري العظيم المذهل. تحياتي لك أخي خليل

  3. يقول الكروي داود النرويج:

    راحت أيام الأبيض والأسود! ولن تتعوض!! ولا حول ولا قوة الا بالله

    1. يقول مروة متولي:

      أتمنى تتعوض ويأتي الأفضل

  4. يقول زيد خلدون جميل:

    أشهر ما غنته فيروز لسيد درويش كان “البنت الشلبية” و “زوروني كل سنة مرة”. و كان سيد درويش قد أخذ الاغنيتين من الموسيقار العراقي عثمان الموصلي الذي تتلمذ سيد درويش على يده.

    1. يقول مروة متولي:

      لا أعلم إذا كان عثمان الموصلي هو من ذهب به إلى الشام وحاول أن يقنع الجمهور به ولم يستطع، وعاد سيد درويش إلى مصر يائسا. للأسف أجهل الكثير عن الغناء العراقي القديم. تحياتي لك أستاذ زيد

  5. يقول محمد كمال محمد كامل:

    نشكر لك دكتورة مروة هذا الابداع وفعلا علي طول انت بترجعينا للزمن الجميل والي الارتباط بالوطن والإنسان بيحس بالفخر والاعتزاز بانه منتمي الي هذا الوطن و الواحد بيتمني لو عاش في تلك الفترة من الزمن ولكن الحمد الله المقالات الخاصه بك بتعطبنا الشعور بأننا بتعيش هذة الفترة ومازلت عند طلبي بتجميع المقالات في كتاب يكون اضافه للمكتبه العربيه وبالتوفيق باذن الله والي مزيد من التقدم والرقي وفي انتظار المقال القادم باذن الله

إشترك في قائمتنا البريدية