قام عدد من الفنانين التشكيليين الأوروبيين الشهيرين (أنغري، موروا وغيرهما) بتصوير اللقاء الأسطوري بين أوديب وأبو الهول (The Sphinx) في الطريق إلى دلفي، بشكل يحفظ تلك المواجهة المميتة بين إنسان محكوم بقدر تراجيدي وكائن غامض يحمل قرار موته أو حياته على شكل لغز.
كان على أوديب أن يجيب بشكل صحيح على تلك المسألة («ما الذي يمشي على أربعة في الصباح، اثنتين عند الظهيرة، وثلاثة عند الليل؟»)، وإلا فإنه سيموت، وسيموت معه كل سكان مدينة طيبة. أجاب أوديب حينها جوابا صحيحا: («الإنسان: يمشي على أربعة في طفولته، وعلى قدمين حين يشبّ، وحين يشيخ يستخدم عصا ليتوكأ عليها»)، وقد اندهش أبو الهول من جواب أوديب الصحيح لدرجة أنه ألقى بنفسه إلى الموت، مطلقاً بذلك سراح أهل طيبة.
من المثير أن الميثولوجيا الأغريقية تذكر أن طيبة كانت مدينة قدموس، البطل اليوناني الذي كان قبل ذلك أميرا فينيقيا من الساحل، أبوه هو ملك مدينة صور، على ساحل «سوريا الكبرى». يثير التفكّر أيضاً أن نذكر أن قدموس كان أخا الأميرة أوروبا، التي خطفها كبير الآلهة الإغريقية زيوس وأخذها إلى كريت، والتي سميت القارة الأوروبية باسمها. بناء على هذه الأسطورة، فإن ملك طيبة أوديب ـ الذي هو حفيد حفيد قدموس – كان حفيدا لسكان ذلك الإقليم الكبير على شرق المتوسط، أو أنه بالأحرى حفيد مهاجرين «سوريين»، هاجروا في سياق تاريخي مختلف عن السياق الذي يحيط بالسوريين الذين يهربون من وطنهم إلى اليونان حاليا. بالنسبة لسوري مثلي، فإن طريق العبور إلى بلدي كان، وظل دائما، مليئا بالألغاز المميتة والكلمات الخطرة. ولعلّ أخطر هذه الكلمات، للأسف، هو اسم «سوريا» نفسه.
من المثير أن الميثولوجيا الأغريقية تذكر أن طيبة كانت مدينة قدموس، البطل اليوناني الذي كان قبل ذلك أميرا فينيقيا من الساحل، أبوه هو ملك مدينة صور، على ساحل «سوريا الكبرى».
في سياق تبادلنا للأسماء والأبطال، كان اليونانيون أول من استخدم كلمة سوريا Suria بشكل يمكن تبديله مع مصطلح أشوريا Assuria باتجاهين.
قام الرومان بعد ذلك باعتماد المصطلح الصحيح (أو الخاطئ) للتفريق بين المصطلحين وأصبحت سوريا بالنسبة لهم ما كان العرب (الذين حرروا المنطقة من الرومان) يسمونه بلاد الشام، وهي المنطقة بين آسيا الصغرى ومصر. يحمل المصطلحان، إضافة إلى أشياء أخرى كثيرة، سياقان تاريخيان وجغرافيان ودينيان. هذان الاسمان/ المصطلحان سيفغران جرحا واسعا داخل المنظومة الواحدة التي أنتجت قدموس وأوروبا وأوديب، باعتبارها عالما متوسطيا واحدا ساعد في توسيع الطريق للحضارة البشرية.
أعطيت البلاد اسم سوريا مجددا خلال المرحلة الكولونيالية في القرن التاسع عشر وبعد أن كان الاسمان، القديم والجديد، مفتوحين على تأويلات تاريخية متواجهة فإن الاسم الجديد تم تبنيه بالتدريج من قبل السوريين، خصوصاً من قبل الأيديولوجيات القومية التي حاولت، بدورها، حل لغز ما هي سوريا ومن هم السوريون.
ليس مفاجئا أن نعلم أن واحدا من الأحزاب القومية التي تأسست في جبل لبنان سمت نفسها «الحزب القومي السوري»، وقام هذا الحزب المتأثر بالفاشية الأوروبية، والذي أعلن عن نفسه عام 1932، كما هو معلوم، بمحاولة انقلاب عسكري في لبنان يوم 1 يوليو/تموز 1949 (متبعا مثال انقلاب آخر حصل في «الجمهورية السورية» في 31 مارس/آذار من العام نفسه). سُحقت المحاولة بسرعة وتم شنق زعيم الحزب أنطون سعادة الذي هو من طائفة الروم الأرثوذكس (المذهب الإغريقي للمسيحية). حاول الحزب الانقلاب مجددا في ليلة انقلاب العام 1961 إلى 1962 لكن الحزب استمر وقاتل ضمن الحرب الأهلية اللبنانية، وهو يعتبر حالياً أحد حلفاء نظام بشار الأسد في سوريا، كما قاتل كميليشيا داخل سوريا وضد الثورة. كانت سوريا تحت حكم العثمانيين لقرون، ولذلك كان المهاجرون الأوائل إلى العالم الجديد في الولايات المتحدة ودول أمريكا اللاتينية، يسمون أتراكا أو سوريين، وكما المهاجرون الفينيقيون الأوائل من أسلافهم، فإن المهاجرين الجدد نجحوا في الوصول إلى أعلى الهرم الاقتصادي والسياسي في الكثير من تلك البلدان، وقد أنتجت عددا من الرؤساء والزعماء السياسيين منهم نجيب بوكيله، كارلوس فقوسه، أنطونيو سقا، جوليو طربيه، خوليو سالم، عبد الله بوكرم، جميل معوض، وكارلوس منعم وغيرهم (هذه الواقعة تشبه في تاريخ العالم القديم ما حصل مع تأسيس المهاجرين الكنعانيين «الفينيقيين» لقرطاجة على الساحل التونسي).
فاز أبو الهول الكولونيالي في المسابقة، وهزم أوديب السوري. وسوريا، أصبحت، مثل لغز أبو الهول القديم، كائنا يمشي على أربع: الجمهورية السورية، لبنان، المملكة الأردنية الهاشمية، ودولة فلسطين.
بعد وقوعها في يد الفرنسيين والبريطانيين خلال الحرب العالمية الأولى وبعد سنوات قليلة من الحرب العالمية توقفت سوريا الطبيعية عن الوجود. صار لهذه البلاد العتيقة سؤال مميت مؤلف من اسمين: سايكس وبيكو (والحقيقة أنه كان يضم ثالثا هو وزير خارجية روسيا سيرغي سازونوف، لكن الثورة الروسية غيّرت تلك المعادلة)، وهما مسؤولان فرنسي وإنكليزي وقعا اتفاقية آسيا الصغرى عام 1916، التي تم إعلانها للعموم عبر صحيفتي «إزفستيا» و«برافدا» السوفيتيتيين، ثم في «الغارديان» بعد ثلاثة أيام.
فاز أبو الهول الكولونيالي في المسابقة، وهزم أوديب السوري. وسوريا، أصبحت، مثل لغز أبو الهول القديم، كائنا يمشي على أربع: الجمهورية السورية، لبنان، المملكة الأردنية الهاشمية، و… دولة فلسطين تحت الانتداب الإنكليزي التي خرجت من التداول الدولي والوجود مع «النكبة» التي أنتجت دولة إسرائيل عام 1948، وأنتجت أيضاً انحناء جديدا في المعضلة السورية. هذه المسائل داخل مسائل بذرت بذور سيناريو القيامة الذي نشهده في المنطقة الآن. أصبح خلق هذه الدول سببا لعدد من الحروب الأهلية وحروب الخارج/الداخل، وسببا في التأزم السياسي والاقتصادي والاجتماعي والعسكري، مع مخارج تراجيدية هائلة في الإقليم نفسه وفي العالم أجمع.
*
في سوريا الخارجة من بوتقة الحداد حديثا، قسم الفرنسيون ذلك البلد الجديد إلى خمس دول على أسس إثنية وطائفية، وهكذا حصلنا مجددا على مخلوق بخمسة أرجل. نجح السوريون في إعادة توحيد البلاد، لكنهم كانوا مجروحين من انفصال سوريا والأردن، وكذلك بالنكبة الفلسطينية المروعة.
هذا الانفصال جعل أغلب السوريين، متعاطفين بقوة مع الدعاية القومية والانقلابات العسكرية التي استمرت بالتوالد منذ 1946، عام الاستقلال، حتى عام 1963 حين قامت مجموعة عسكرية بانقلاب جديد تحت شعارات الاشتراكية وتوحيد الأمة العربية، لكنها، في الحقيقة، كانت مقدمة لحكم طغياني لشخص وعائلة سمّت سوريا باسمها (سوريا الأسد).
*
– تساهم استعارة أوديب مطبقة على الوضع السوري في عدد من الاستنتاجات المفيدة:
– الإنسانية هي شجرتنا المشتركة التي جئنا كلنا منها لكن الجميع يفضل الاختباء خلف الاختلافات.
– تحولت المعضلة السورية إلى معضلة عالمية. صار السوريون أنفسهم مجازا للجنس البشري. جميعنا، في الحقيقة، نعبر حدودا واقعية، أو خيالية، مخيفة، وكلنا، بشكل أو آخر، في قوارب نحاول الوصول إلى مكان ما، والكثير منا سيموتون قبل أن ينهوا الرحلة.
– يفترض أن الحضارة كانت مفتوحة الأبواب والحدود، وأحضر المهاجرون الأوائل، معهم، الأبجدية، التجارة وأشكالا من المعرفة؛ لقد عوملوا كأبطال وصاروا ملوكا لشعوب أخرى، وقارة بأكملها سميت باسم واحدة من أولئك المهاجرين.
– موجة كبيرة من المهاجرين الذين فرضوا سيطرتهم بالقوة، تحت اسم الكولونيالية، وضعوا بذور مرحلة جديدة من الحضارة ولكنهم وضعوا أيضاً بذورا للنزاعات السياسية، واليأس والتدمير.
– يواجه العالم حاليا معضلة كبيرة. بعضنا يجيب عليها بأن يصبحوا كارهين للأجانب والمهاجرين وعنصريين، وبعضنا يبني أسوارا عالية لمنع الآخرين من المجيء، والبعض يقوم حتى بتدمير إمكانية الحياة ليس للمهاجرين فحسب بل للجنس البشري أيضا.
– مجددا، إما أن نجيب على اللغز بشكل صحيح، أو أن الأرض نفسها، معرضة للزوال.
٭ كاتب من أسرة «القدس العربي»
مقال جميل وممتع شكرا يا أستاذ حسام
للأسف الشديد ان سورية التي كانت تسير على أربع ثم ثلاث ثم اثنين ثم باتت ملك واحد وكان هذا الواحد مجرما محترفا ومتسلطا جعلها ملكية خاصة وورثها إلى ابنه الذي فاق اباه بالإجرام وباتت سورية لا تسير الا على عكازين
شكرا أخي “سوري” العزيز. نعم هو أمر لا يصدق حقا، أن تعود بلادنا لتمشي على أربع وأن يركبها أبو الهول المقيت.
من المفارقات ان البلدين اللذين شهدا مغامرات العقل الاولى ( سوريا و بلاد الرافدين)
–
لم يصبهما من توحش عقلانية الكولونيالية و حماقة المستبدين بهما غير الخراب
–
المريع ليس صدفة ان يدك العراق و سوريا في محتاولة لالحاقهما بقرطاج فالامر مدبر بدقة
–
تحياتي
شكرا اخي “صوت من مراكش” على ملاحظاتك وتعليقاتك العميقة. أتفق معك على الأثر المريع الذي تركته وحشية الكولونيالية وحماقة المستبدين. اتذكر أحد الكتاب المشرقيين الذي قام بهذه المقارنة بين ما حصل في العراق وما جرى في قرطاج وكان عنوان كتابه على ما اذكر “قرطاجة يجب أن تدمر”، الجملة التي تابع أحد النواب الرومان على تكرارها حتى تحققت.
من أعمق المقالات التي قرأتها عن سوريا الكبرى وقطعها الصغري حفر عميق ومدهش كتابة ترقى الى مستوى الأسطورة السورية
شكرا أخي موسى. يشرفني ويسعدني رأيك حقا بهذه المقالة.
شكراَ أخي حسام الدين محمد. مقال جميل وفيه معلومات تاريخية مفيدة وكدت أنسى معظمها حيث تعلمنا قسم منها في كتب التاريخ. هذا التوضيح لإسم سوريا, فهى المرة الأولى التي أحصل فيها على توضيح لهذا الإسم وكنت أهتقد أنه جاء من آشوريا. بالنسبة للإستعارة أو الربط بين اللغز القديم والمعروف واللغز أو الألغاز التي نعيشها اليوم, يبدو لي أنه ظاهرياً فقط. حيث نحن أمام معضلة عالمية لم يعرفها التاريخ, وربما الرابط الأقرب يبدو لي, هو مع عصر المغول والتتار. مافعله النظام السوري ماكان ليحصل لولا إيران من جهة والصهيونية من جهة أخرى. أخيراً بهذه الإستعارة جاءت الإستنتاجات مفيدة بلا شك.
شكرا أخي أسامة كلية. قد يكون الرابط ظاهريا بين لغز أوديب وألغازنا الحديثة وقد لا يكون. الفكرة هي أن كل واحد منا يقف أمام مسائل مستعصية من أهمها مسألة الطغيان الذي يسيطر على وطننا وهذه المسألة، بسبب المسار الذي سارت فيه، صارت مرتبطة بقضايا الطغيان في العالم أيضاً، وكما قلت في المقالة، صار السوري هو مجاز للبشرية.