أوروبا الأخرى

قبل عقد من الزمان، ووفقا للعديد من استطلاعات الرأي، التي أجرتها مراكز الدراسات الأوروبية، كانت شعوب الاتحاد الأوروبي ترى في اندماجها الاقتصادي والمالي والاجتماعي والسياسي الوسيلة الأفضل للحفاظ على الأمن والرخاء في القارة العجوز.
مزايا العملة الموحدة، دور البنك الأوروبي الموحد، تحديات التوسع المطرد في عضوية الاتحاد، النقاشات حول الدستور الأوروبي وتطوير الفعل السياسي والعسكري للاتحاد وصعوده كقوة عظمى تنافس الولايات المتحدة الأمريكية والصين؛ كانت تلك هي القضايا المطروحة على الأوروبيين في السنوات الممتدة بين بداية الألفية الجديدة ونهاية عقدها الأول وبشأنها تمايزت مواقف الحكومات بين تأييد تسريع الاندماج القاري على كافة المستويات وبين المطالبة بمواصلة الاندماج الاقتصادي والمالي وتأجيل تطلعات الحكومة الأوروبية الموحدة والجيش الأوروبي المشترك.
بالقطع، حضرت أقليات شككت في الاتحاد الأوروبي وتواجدت أحزاب وحركات سياسية قومية ورفض مقترح الدستور الأوروبي في استفتاءات شعبية. إلا أن أغلبيات مستقرة بين شعوب القارة وأحزاب يمين ويسار الوسط التي تناوبت على الحكم في بلدانها بدت متمسكة بالاتحاد وغير مستعدة للتراجع عن وعدي الأمن والرخاء اللذين ضمنهما منذ خمسينيات القرن العشرين (كسوق مشتركة ثم كاتحاد).
أما اليوم، وفي بدايات العقد الثالث من الألفية الجديدة، فيبدو أمر الأوروبيين وكأن أحوالهم انقلبت رأسا على عقب. صارت الأغلبيات تتململ من تواصل الاندماج القاري، وصوّت الناخبون البريطانيون لصالح التخارج من الاتحاد وخرجت بريطانيا منه في يناير/كانون الثاني 2020، ويستمر في عموم أوروبا صعود أحزاب اليمين المتطرف والحركات القومية التي ترى في الاتحاد ومسؤوليه وبيروقراطيته الجالسة في بروكسل (العاصمة البلجيكية) قوى معادية تفرض عليهم اختيارات اقتصادية ومالية واجتماعية غير مقبولة، ولم تعد حرية حركة المواطنين وإسقاط الحدود الفاصلة بين بلدان الاتحاد وحرية تنقل العمالة بينها مسلمات لا تمسها الحكومات الأوروبية.
فما الذي زج بأوروبا إلى هذه الهوة؟
تعاقبت على الأوروبيين صنوف من الأزمات أسفرت عن انهيار ثقة الأغلبيات في وعدي الاتحاد الأساسيين، الأمن والرخاء. وتواكبت تلك الأزمات مع اكتفاء أحزاب يمين ويسار الوسط الحاكمة بمجرد التشديد على غياب البدائل للاندماج القاري وعجزها عن تطوير خطاباتها الانتخابية وسياساتها العامة بشأن أوروبا على نحو يجدد الثقة الشعبية في مزايا الاندماج. في المقابل، استطاعت أحزاب اليمين المتطرف والحركات القومية أن تتغلغل في الفراغ الناشئ بين انهيار ثقة الأغلبيات وتجاهل الحكومات لكي تصنع من التشكيك في الاتحاد الأوروبي واقعا سياسيا ضاغطا لم يتوقعه أحد. لم ينتظر أكثر الأوروبيين تشاؤماً خروج بريطانيا حقيقة من الاتحاد مثلما لم يتحسبوا لا لشيوع العداء الشعبي لقرارات بيروقراطية بروكسل الاقتصادية والمالية والاجتماعية والسياسية ولا لبلوغ اليمين المتطرف والقوميين لمقاعد الحكم في روما ووارسو وبودابست وبراغ.

جاء صعود أحزاب اليمين المتطرف والحركات القومية بل والمجموعات العنصرية في العديد من بلدان الاتحاد الأوروبي ليشكل أزمة سياسية واجتماعية حادة

مثّلت تداعيات الأزمة المالية والاقتصادية العالمية في 2008 الاختبار الأول الذي فشل الاتحاد الأوروبي في التعامل معه، فقد انهارت الأسواق العقارية والبنكية في العديد من البلدان ودخلت اقتصاديات اليونان وأيرلندا وإسبانيا وإيطاليا في دائرة خطيرة من انكماش الناتج القومي وارتفاع معدلات الفقر والبطالة وعجز الموازنات العامة. وعلى الرغم من التدخل السريع للبنك الأوروبي لمساعدة الاقتصاديات المأزومة (أيضا لضمان استقرار العملة الموحدة) ومن تفعيل آليات التضامن داخل الاتحاد على النحو الذي وفر مساعدات مالية كبيرة للحكومات اليونانية والأيرلندية والإسبانية والإيطالية، إلا أن تداعيات الأزمة المالية والاقتصادية العالمية استمرت لسنوات عديدة وبلغت في 2010 منعطفا جديدا بخطر إفلاس اليونان وما تلاه من انقسام داخل القارة بين شمال مستقر اقتصاديا وجنوب يعاني، وبين شعوب في الشمال ترى أنها تنفق من مواردها وعوائد عملها هي على شعوب مسرفة وكسولة وشعوب في الجنوب تعتقد أن اقتصادياتها صارت مجرد أسواق لبيع وشراء منتجات الشمال، وبين حكومات في الشمال تعلن شكليا التزامها بآليات التضامن الأوروبي وتهدد الجنوب بعقوبات اقتصادية ومالية حال عدم الالتزام بشروط الحد من الديون الحكومية وحكومات في الجنوب تخدع شعوبها بشأن شروط أغنياء الشمال وآثارها المحتملة. والمحصلة كانت ومازالت حتى يومنا هذا فقدان ثقة شعوب الشمال والجنوب في قدرة الاتحاد الأوروبي على التعامل المتوازن والفعال مع الأزمات الاقتصادية والمالية والإبقاء على وعد الرخاء والتضامن القاري قائما دون إذلال للجنوب أو تمرد مخادع على الشمال.
ثم جاء صعود أحزاب اليمين المتطرف والحركات القومية، بل والمجموعات العنصرية في العديد من بلدان الاتحاد الأوروبي ليشكل أزمة سياسية واجتماعية حادة. من جهة أولى، لم تنكر تلك القوى الصاعدة عداءها للتوجهات الليبرالية للاتحاد فيما خص إلغاء الحدود الفاصلة بين بلدانه وسياسات الهجرة واللجوء ولم تتردد حين بلغت مقاعد الحكم في الانقلاب عليها وفي توظيف خطابات شوفينية عن هوياتها الوطنية.
في المجر وبولندا وجمهورية التشيك وسلوفاكيا وإيطاليا حكومات بعضها يغلق الحدود وبعضها يرفض استقبال المهاجرين واللاجئين وبعضها الثالث يريد توزيع القادمين الجدد من المهاجرين واللاجئين على بلدان أوروبية أخرى. وتتواكب مثل هذه التوجهات غير الليبرالية مع انتشار خطابات الكراهية وارتفاع صوت المجموعات العنصرية المعادية لوجود الأجانب في عموم أوروبا وتواتر الجرائم العنصرية، وكذلك مع زيادة غير مسبوقة في أعداد المهاجرين واللاجئين الذين يطرقون أبواب القارة.
من جهة ثانية، تبدو الأغلبيات الأوروبية قلقة من مستقبل اندماج المواطنين ذوي الأصول الأجنبية والمقيمين الأجانب (خاصة أصحاب الأصول العربية والإسلامية) في مجتمعاتها، وتتشكك في أن حكوماتها أو البيروقراطية الأوروبية في بروكسل تستطيع السيطرة على ظواهر سلبية كالتطرف الديني ورفض بعض ذوي الأصول الأجنبية لقيم التسامح والمساواة بين النساء والرجال وحقوق الإنسان دون تمييز وتورط نفر أصغر منهم في جرائم إرهابية واعتداءات جنسية على النساء والعنف المنزلي ضد المرأة.
هنا أيضا، ولأن الاتحاد الأوروبي أضحى ينقسم بين بلدان تتمسك حكوماتها بالتوجهات الليبرالية في قضايا الحدود والهجرة واللجوء وبلدان أخرى تدير شؤونها حكومات انتخبت ديمقراطيا لتغلق الحدود وترفض قدوم المهاجرين واللاجئين، تفقد شعوب القارة ثقتها في الاتحاد وتستسلم تدريجيا لعجزه عن صياغة سياسات جديدة تضمن الحد الأدنى من الحدود المفتوحة وتحمي أوروبا من التداعيات الخطيرة لموجات الهجرة واللجوء الضخمة والتي كانت موجة 2015 موجتها الكبرى الأخيرة.
بريطانيا صارت خارج الاتحاد وفي معية أزمات سياسية مستمرة. الحكومة الإيطالية الجديدة (حكومة الفاشيين الجدد واليمين الشعبوي) تصارع بيروقراطية بروكسل بشأن الدين الحكومي وتتهم حكومات بلدان الشمال الغنية بالتدخل غير المقبول في شؤونها.
حكومة فيكتور أوربان في المجر تتمسك بإغلاق حدودها وتهدد بإعادة ما فعلته في 2015 حين ألقت بالمهاجرين واللاجئين على حدود النمسا. الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، وبعد إعادة انتخابه لفترة ثانية، يغرق في الأزمات الاقتصادية والاجتماعية الداخلية بينما ينتج خطابا سياسيا غير واضح المعالم حول تسريع وتائر الاندماج الأوروبي وأوروبا الموحدة. حكومة أولاف شولتز في برلين تواصل التمسك بشروط الدعم الاقتصادي والمالي داخل الاتحاد وأهمها خفض مستويات الدين الحكومي وترفض الانفتاح على اقتراحات الإيطاليين وأوروبيين آخرين. أحزاب يمينية متطرفة وحركات قومية ومجموعات عنصرية تتسع مساحات فعلها بانتظام وتصير مقبولة مجتمعيا على الرغم من خطابات الكراهية التي تنشرها والعنف الذي تتورط به. أغلبيات حائرة تعاني أزمات اقتصادية واجتماعية متصاعدة ولا تعرف إنْ كان الاندماج القاري مازال السبيل الوحيد للأمن والرخاء. والجميع يعاني من التداعيات الكارثية لجائحة كورونا وللحرب الروسية على أوكرانيا والمتمثلة في انهيار معدلات النمو الاقتصادي في أوروبا، وحضور أزمة طاقة طاغية لم تشهد لها القارة العجوز مثيلا منذ سبعينيات القرن العشرين، والخوف المتنامي من استمرار المغامرات العسكرية الروسية واحتمالية استخدام السلاح النووي.
هذا هو المشهد الأوروبي اليوم، وهو مشهد مليء بالأزمات والشكوك والمخاوف. وتلك هي أوروبا الأخرى التي لم تتوقعها الأغلبيات في القارة العجوز قبل عقد واحد من الزمان.

كاتب من مصر

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول أبو عمر. اسبانيا:

    كل الدول العظمى و التحالفات و الكيانات تواجه تحديات شتى. السؤال هو كيف يتعامل الاتحاد الأوروبي مع هذه التحديات. هنا توجد شفافية و مسؤولية مشتركة. انظر مثلا في أزمة الطاقة و الإصرار على الاتفاق على قرار أوروبي موحد لحل هذه الأزمة و هكذا كان.. قارن هذا الموقف باجتماع القمة العربية و القرارات الورقية التي تتبخر فور الانتهاء من القمة.
    أما عن المجر وبولندا وجمهورية التشيك وسلوفاكيا وإيطاليا فلا يوجد فيها طالبو لجوء. هذه بلاد ممر فقط للاجئين . لا يوجد أي عاقل يرغب في اللجوء و الإقامة فيها. هذه الدول بالمناسبة هي أكثر الدول حرصا على البقاء في الاتحاد. على سبيل المثال رئيسة وزراءإيطاليا اليمينية صرحت فور فوزها على التزامها بالبقاء في الاتحاد.
    دليل قوة و صلابة الاتحاد الأوروبي هو ما يجرؤ الآن في بريطانيا و القرار الكارثي بالانسحاب من الاتحاد و تداعياته الاقتصادية على البريطانيين.

  2. يقول العلمي.ألمانيا:

    لا خوف من فاعلية الأحزاب المتطرفة و لو وصلت إلى السلطة ما دام الحزب الديموقراطي و الدولة العميقة في الولايات المتحدة متحكمة في زمام الأمور.
    الخوف إن انهار اقتصاد الغرب بأكمله و خرجت الدهماء عن السيطرة

إشترك في قائمتنا البريدية