الناصرة- “القدس العربي”: بعد لقاء برئيس حكومة الاحتلال بنيامين نتنياهو لثلاث ساعات، ضمن زيارته العاشرة للمنطقة، قال وزير خارجية الولايات المتحدة إن نتنياهو وافق على صيغة أمريكية مقترحة للصفقة.
وكان بلينكن قد قال، في مؤتمر صحفي، عقب الاجتماع مع نتنياهو، إنه صادق على صيغة واشنطن المقترحة، والآن حان دور “حماس”، فيما سارع رئيس حكومة الاحتلال للقول إن الجلسة مع وزير الخارجية الأمريكي كانت جيدة ومهمة، وإنه يقدر مساعي واشنطن وتفهمها لاحتياجات أمن إسرائيل تزامناً مع مساعي إتمام الصفقة.
نتنياهو، الذي فضحت كذبه ومراوغته لغة جسده، تابعَ روايته المعلنة: “نحن ملزمون بالصيغة الأمريكية المقترحة”. وبذلك يشير لموافقة واشنطن على بقاء الاحتلال في محور فيلادلفيا ومعبر رفح، وعلى عدم وقف الحرب وغيره.
بلينكن استكمل مساعي البيت الأبيض في إشاعة أجواء إيجابية متفائلة لا تجد مبرراً لها على الأرض
بلينكن، الذي استبق زيارته للمنطقة بالقول إن بلاده ستفضح هوية الجهة التي تعطّل الفرصة الأخيرة لإتمام صفقة، استكمل مساعي البيت الأبيض في إشاعة أجواء إيجابية متفائلة لا تجد مبرراً لها على الأرض، بل إن هناك أوساطاً إسرائيلية غير قليلة تشكك بكل هذه التصريحات.
عملياً، وبدلاً من الضغط الفعال الحقيقي على نتنياهو، واستنكافه، لحسابات انتخابية سياسية، داخلية وخارجية، عن وقف هذه الحرب المرشحة للاتساع تنكّر بلينكن عن استحقاقات الموافقة على صيغة 27 أيار والثاني من تموز، وبادر لحياكة صفقة جديدة على مقاسات إسرائيل وتمكنها من حفظ ماء وجهها والخروج من مأزقها بالتخطيط لاتهام “حماس” بإفشال المداولات في ظل تعنت نتنياهو واستخفافه بـالرئيس بايدن واستغلاله وهو في آخر أيامه السياسية وتتجه شمسه للمغيب. ويبدو أن واشنطن قد وصلت لاستنتاج بعدم إمكانية وقف الحرب وإتمام صفقة وبحثت من خلال هذه الحراكات لكسب الوقت وتأجيل ضربات إيران و”حزب الله” الثأرية والحث على الهدوء وتمرير مؤتمر الحزب الديموقراطي بدون مظاهرات واسعة في الولايات المتحدة.
“حماس”، التي سبق أن حذرت من فتح المفاوضات من جديد بدلاً من البدء بتنفيذ التوافق الذي تم في الثاني من تموز الماضي، استناداً لصيغة بايدن المعلنة في 27 أيار، والتي اتفق عليها الجميع، تؤكد من خلال القيادي أسامة حمدان أن تصريحات بلينكن تدلل على أن نتنياهو يضغط على الإدارة الأمريكية، وليس العكس.
المفارقة أن أوساطاً مختلفة في إسرائيل تستغرب، اليوم الثلاثاء أيضاً، هذه الأجواء الإيجابية المعلنة في الإعلام المنبعثة مجدداً من تصريحات بلينكن ليلة أمس، وتواصل التشكيك بنوايا نتنياهو وتشير لأزمة ثقة ليس فقط بين نتنياهو وبين “حماس” بل بينه وبين الوسطاء.
ومن بين هذه الأوساط الإسرائيلية “مصادر في إسرائيل وفي دول الوسطاء نقلت عنها الإذاعة العبرية الرسمية، اليوم، قولها إن تخويل نتنياهو لطاقم التفاوض قصير، وغير كاف، وإن أعضاءه يضطرون للخروج من غرفة المفاوضات للاتصال بنتنياهو على كل كبيرة وصغيرة”.
وتخشى هذه المصادر، طبقاً للإذاعة، من عدم انعقاد قمة جديدة في القاهرة، وفي الدوحة، بسبب عدم وجود تقدم فعلي في المداولات.
وتتابع هذه المصادر: “ليس هكذا تدار المفاوضات، فالمفاوضون الإسرائيليون مقيدون وغير مخولين، وقد شكوا، قبل أيام، أمام نتنياهو من ذلك، وعائلات الرهائن تطالب قادة المؤسسة الأمنية وطاقم المفاوضات بالتحدث علانية عن حقيقة موقف نتنياهو، بدلاً من الاكتفاء بالتسريبات.
على سبيل المثال أيضاً، حملت صحيفة “هآرتس” على حكومة الاحتلال مجدداً، فخلصت للقول، في افتتاحيتها اليوم، إلى أنه في ختام لقاء نتنياهو وبلينكن زعم الأول أنه يؤيد الصيغة الأمريكية الجديدة، وأن الكرة الآن في ملعب “حماس”. وهذا ما ينعكس في رسم كاريكاتير نشرته الصحيفة، ويبدو فيه بلينكن يدفع، بجهود سيزيفية، صخرة كبيرة نحو قمة الجبل، ومن خلفه نتنياهو يقول بلهجة صارمة: لا تعد لي قبل أن تعود بجواب من السنوار”.
وتختتم “هآرتس” بالتأكيد على أنه من الصعب تصديق نتنياهو، وعللت ذلك بالإشارة إلى أن تصريحات مماثلة صدرت عنه في السابق، فيما كان على أرض الواقع يعطل مقترحات الصفقة. وتابعت: “حان الوقت للقول نعم للصفقة، ليس بالقول، بل بالفعل وبنية حقيقية”.
ويقول الكاتب الصحفي والمعلق الإسرائيلي البارز بن كاسبيت، في مقال تنشره صحيفة “معاريف”، اليوم، إنه عندما كان بقاء نتنياهو متعلقاً بإعادة الجندي الأسير غلعاد شاليط “أطلق، عام 2011، كل القتلة في المنطقة (1127 أسيراً، على رأسهم السنوار نفسه)، وعندما يكون بقاؤه مرتبطاً بعدم إتمام صفقة فهو فجأة يقوم بعد الأسرى الفلسطينيين، ويعاند، ويصمم على محوري فيلادلفيا ونيتساريم”.
في الخلاصة، يقول بن كاسبيت: “كما تبدو الأمور الآن لن تتحقق الصفقة هذه المرة أيضاً، وسيفترق الأطراف دون فهم ما جرى. وهذه المرة أيضاً سينجح نتنياهو بالإفلات من غضب إيتمار بن غفير. صحيح أن السنوار رفضوي، ولا يتطوع للتنازل عن أي شيء، لكن هذه الأمور لا ترتبط بنا. علينا أن نسأل أنفسنا هل نتنياهو المسؤول الأعلى عن كارثة السابع من أكتوبر، الكارثة الأفظع التي حدثت لنا، يفعل كل ما يستطيع من أجل استعادة المخطوفين الذين أهملتهم الدولة؟ الجواب: لا. نتنياهو يتعامل مع الحدث كأنه مفاوضات داخل دكان. نتنياهو ليس قائداً بل حانوتيّ”.
ويؤكد بن كاسبيت “حاجة إسرائيل للتغيير، ولإقامة تحالف إقليمي إستراتيجي ضد التهديد الحقيقي عليها. التهديد غير موجود في محور فيلادلفيا، بل في طهران. دون أمريكا وحليفاتها في الغرب والشرق الأوسط لا يوجد لدى إسرائيل ما تبحث عنه هنا في المنطقة بيد أن نتنياهو يبحث عن أمر واحد: استمرار تمسكه بكرسي الحكم. وهذا ما يجعله يحول حكمه لتهديد وجودي علينا جميعاً. هذه هي الحقيقة”.
وهذا ما يؤكده المعلق السياسي في صحيفة “يديعوت أحرونوت” بن درور يميني، الذي يقول إن إيران و”حزب الله” سيردان فور رحيل القوات الأمريكية من المنطقة، لافتاً أنه في حال رد نتنياهو فعلاً برد إيجابي على مقترح بلينكن فهذه خطوة صحيحة، وذلك كي لا نفقد دعم أمريكا مقابل محور الشر ونبقى لوحدنا”.
وعشية زيارة بايدن، أوضحت المحللة السياسية في القناة 12 العبرية دانا فايس أنه بالإضافة إلى القضايا الجوهرية المطروحة، وبينها بقاء الجيش في محور فيلادلفيا، ومنع وصول المسلحين إلى شمال القطاع، عبر البقاء في محور نيتساريم، لا يزال هناك أزمة ثقة في المفاوضات. وقالت، في مقال نشره موقع القناة، إن الوسطاء لا يثقون بأن نتنياهو يريد صفقة فعلاً، و”حماس” أيضاً لا تثق بأنه يريد استكمال الصفقة المكونة من ثلاث مراحل، إنما استئناف القتال بعد نهاية المرحلة الأولى.
وتمضي هي الأخرى في تشكيكها بنوايا نتنياهو : “بطبيعة الحال، هناك عدم ثقة بـ “حماس” في إسرائيل. بحسب مصادر مطلعة على المفاوضات، يجب على جميع الأطراف تقديم تنازلات من أجل التوصل إلى صفقة، لأن الأمريكيين تبنوا أغلبية المطالب الإسرائيلية، وسيكون على إسرائيل التنازل عن قضية محور “نتساريم” وعدم التمسك به من أجل عدم إفشال الصفقة. حالياً، يحاول الأمريكيون والوسطاء تفعيل أوراق القوة على جميع الأطراف وعدم إفشال الصفقة فيهددون بأنه في حال فشلت الصفقة، فسيذكرون، علناً، مَن هو المتهم بفشلها. وهناك أيضاً جهات أمنية إسرائيلية يمكن أن تكشف، علناً، مَن يعرقل الصفقة إذا شعروا بأن نتنياهو يضع العوائق”.
ويرى الوزير العمالي الأسبق حاييم رامون أن الحل الأمثل صفقة بدفعة واحدة تعيد كل المخطوفين، داعياً عائلاتهم للضغط على نتنياهو من أجل ذلك، بدلاً من صفقة على مراحل تبقي فعلياً الجنود الأسرى في غزة.
بادر بلينكن لحياكة صفقة جديدة على مقاسات إسرائيل تمكّنها من حفظ ماء وجهها والخروج من مأزقها بالتخطيط لاتهام “حماس” بإفشال المداولات
ويضيف، في مقال تنشره “معاريف” قبيل زيارة بلينكن بيوم: “عليكم الضغط على نتنياهو ليقول علانية إن إسرائيل مستعدة لإنهاء الحرب بشكل رسمي -وهذا ما يرد فعلياً بشكل غير رسمي في الصيغة المقترحة- شريطة عودة كل الرهائن دفعة واحدة أحياء وأمواتاً.
من جهته، كان الجنرال في الاحتياط، الباحث في الشؤون الفلسطينية وشؤون الصراع موشيه إلعاد، قد رجح، عشية زيارة بلينكن، أن محور فيلادلفيا مجرد عائق يعترض التوصل إلى صفقة، وأن المشكلة مختلفة.
ويقول إلعاد أيضاً إن إصرار نتنياهو على بقاء الجيش الإسرائيلي في هذا المحور، الذي يُطلق عليه اسم “أنبوب الأوكسجين لحماس”، رغم إعلان قائد الجيش هليفي بأنه يمكن تدبر أموره، حتى من دون سيطرته على محور فيلادلفيا، فإننا نقف أمام مشهد مألوف مذهل وأمام حالة متكررة.
ويتابع محذراً: “كثيرون لا يعرفون أن اسم “فيلادلفيا” أُطلق على هذا المحور، بحسب العادة في الجيش، كاسم رمزي تم اختياره بمحض الصدفة للمنطقة الحدودية العازلة بين مصر وغزة، بموجب أحكام معاهدة السلام المصرية- الإسرائيلية (1979)، وهو ما دفع الفلسطينيين إلى حفر الأنفاق، بدءاً من الانتفاضة الأولى”.
طبقاً لموشيه إلعاد، فإن المعضلة لا تتعلق بمحور فيلادلفيا فحسب، ولا حتى بمحور رفح، أو محور نيتساريم، أو بأسماء الأسرى الفلسطينيين الذين سيتم الإفراج عنهم. ويرى أن المشكلة أكثر خطورة تتعلق بمن سيحكم غزة في “اليوم التالي”: إذا كان مَن سيحكم غزة سلطة أُخرى تقصي “حماس”، فسيبدو الأمر صورة انتصار إسرائيلية رائعة. لكن إذا كانت المعضلة هنا هي: تحرير الأسرى الإسرائيليين، أم محور فيلادلفيا؟ فالإجابة معروفة طبعاً: أعيدوا المخطوفين. أما فيلادلفيا، فسنتدبر أمرنا فيه.