من أقسى الجرائم التي يقترفها الفرد في حق نفسه هي التسليم بالأمر الواقع، والانسياق وراء خيبات الأمل المتتالية وتبعاتها، والأسوأ من هذا هو الانخراط السلبي في تلك التبعات؛ وذلك بالوقوع في دوامتها، وباليأس من وجود مخرج. وعلى مدار قرون كثيرة منصرمة، شغلت قضايا العبودية والتمييز العنصري حيِّزا كبيرا من التاريخ، وكانت الولايات المتحدة من أكثر الدول التي أضحت موئلا لتلك القضايا؛ بسبب وجود أعداد ضخمة لأجناس ذات أصول افريقية، وكذلك إثنيات أخرى، والأدهي من هذا شمولية التوصيف دون محاولة التمييز بين الطبقات وصنوف البشر؛ فقد أصبح جميع ذوي البشرة المخالفة سواء، مهما اختلفت طبقاتهم أو حظوظهم من التعليم.
وكانت حركة القوَّة السوداء في الولايات المتحدة، التي انتشرت في ستينيات القرن الماضي ثورة، كان من شأنها ليس فقط إعادة تعريف وجود ذوي البشرة السوداء، بل أيضا تحريرهم من العبودية والتبعية الجبرية والتمييز العنصري.. ولم يقف الأمر عند هذا الحد، بل أخذ سقف الحرِّيات يعلو، إلى أن شغل عبيد الأمس مناصب رفيعة داخل الدولة، وتلاشت لحد بعيد الخطوط الفارقة، أو بالأحرى الأسوار الدامغة التي تفصلهم عن عالم ينظر لهم دونية وشمولية، وكأنه يضعهم قسرا في أقفاص حتى لا يتسنى لهم أبدا الخروج من هامش المجتمع. وكان واحدا من أبرز الكتَّاب الأفريقيين الأمريكيين الذين تمكَّنوا من الغوص بعمق ونفاذ بصيرة إلى ذاك الجانب هو الكاتب المسرحي أوغست ويلسون August Wilson (1945-2005) الملقَّب بـ»مدوِّن يوميات الشعب الأسود» وكذلك «الشاعر المسرحي لأمريكا السوداء». ومن الجدير بالذكر أنه اكتسب هذين اللقبين لأن أعماله تناقش تفاصيل حياة المهمشين، الذين لا يعانون فقط من التبعات السلبية للتمييز العنصري، بل لا يعتبر وجودهم أحد، بما في ذلك أقرانهم من ذوي البشرة السوداء، ولا يوجد من يعتبرهم أفرادا لهم حياة خاصة تتخللها أفراح وأحزان ولحظات من التفاؤل وخيبات الأمل والوفاء والخيانة. فعلى سبيل المثال عامل النظافة أو جامع القمامة لا يحاول أحدهم سبر أغوار حياته الشخصية؛ فهو بالنسبة للجميع مجرد نمط تمت قولبته وتصنيفه كغيره من أقرانه. ومن المدهش أن تلك الطبقات التي تقع على أقصى هامش المجتمع، في جميع المجتمعات، لا ينْظَر إلى أفرادها أيّ كان، ولا يميِّز أحد ملامحهم، ولو حدث ذلك يكون بصعوبة بالغة، حتى لو كان ذاك الفرد موجودا يوميا أمام أعينهم. وبهذا يتم سجن تلك الطبقات في أقفاص ثلاثية الطبقات، فهناك قفص التمييز العنصري، ويقع في داخله قفص التهميش، وأقسى تلك الأقفاص وأصغرها هو قفص عدم اللامبالاة بوجود كيانات يجب أن تنال حظها من الانتباه.
وقد عاني أوغست ويلسون في بداية حياته من التمييز والتبعية واللامبالاة، وفاقم الوضع نشأته كابن لأب ألماني أبيض اللون كان يعمل خبَّازا وحلوانيا، وأم سوداء تُنظِّف المنازل كي تكسب قوت يومها؛ أي أنها كانت واحدة من تلك الطبقات المهمَّشة التي وضعها المجتمع في الأقفاص الثلاثة. وفاقم تهميشها تغيّب زوجها عن المنزل لفترات طويلة، مما جعلها المسئولة الوحيدة عن تربية أبنائها الستة في شقة صغيرة مكونة من حجرتين. ويُحْكَى أن جدته لأمه سارت على قدميها من ولاية كارولينا الشمالية إلى ولاية بنسلفانيا بحثا عن حياة أفضل، وتبعتها بعد ذلك ابنتها وأولادها الستة.
وقد عانى ويلسون كذلك من عدم القدرة على تحديد انتماءاته، فهو لا يدري إن كان يجب عليه الانحياز لعرقه الأبيض، أم يسلِّم بالأمر الواقع بأنه أسود البشرة. وحتى معدَّل ذكائه المرتفع الذي أهله وهو في سن الرَّابعة لأن يتمكَّن من القراءة والكتابة، وأن يكتب مقالا عن نابليون بونابرت وهو في المدرسة الثانوية، كان سببا في وضع العراقيل أمامه. ويحكى أن المدرِّس طرده ووصمه بتهمة نقل مقالات من الكتب عند قراءة مقاله عن بونابرت. ومنذ ذاك الحين، قرر أوغست ويلسون أن يتولى مسألة تعليمه بنفسه من داخل المنزل، وتمكَّن بذلك من مواصلة سعيه وراء شغفه بتعلُّم اللغة ومفرداتها وأساليبها. وكان أوَّل تطبيق عملي لما تعلَّمه بعد أن استخدم العشرين دولارا، التي منحته إيَّاها أخته ليكتب لها بحثا، في شراء آلة كاتبة، وعليها كتب أولى أشعاره. وبعدها كانت انطلاقته الأولى حينما كوَّن صداقة مع مجموعة من الأدباء، وأصبح كاتبا مسرحيا لمع نجمه بسبب تشريحه الدقيق للطبقات المهمَّشة.
وفي غمار البحث عن هوية مميَّزة تحرِّره من أقفاص التبعية والتهميش واللامبالاة، وجد أن السبيل الوحيد هو اعتناق تاريخه الافريقي وهويته السوداء بصورة إردوازية، وذاك المفهوم تمت استعارته من تكنيك كان يتبعه الصنَّاع في العصور الماضية. فبسبب نقص المواد الخام، كان يعمد الصنَّاع والكتَّاب إلى استخدام ألواح الكتابة مرارا وتكرارا؛ وذلك بطمس الكتابات السابقة، وبدء النقش على الألواح مرَّة أخرى، إلَّا أن تلك العملية لا تمحي وجود كتابات سابقة. وكما أكَّد العالم النفسي الشهير سيجموند فرويد Sigmond Freud «تلك الكتابات القديمة يمكن قراءاتها عند تسليط الضوء المناسب عليها» وكان ذاك هو الأسلوب الذي اتبعه في التحليل النفسي. أمَّا الكاتب والناقد الإنكليزي توماس دي كوينسي Thomas de Quincey (1785-1859) فإنه استخدم تلك الاستعارة في وصف الذاكرة؛ فقد تسقط بعض الأحداث من ذاكرة البشر، سواء على مستوى الفرد أو الجماعة، لكن لا ينفي ذلك حدوث تلك الأحداث أو تذكُّرها عند إثارتها بأحد المحفِّزات.
ونموذج أوغست ويلسون وغيره من أقرانه الافريقيين الأمريكيين متكرر، بيد أن وجوده عالقا بين حضارتين مختلفتين داخل منزله وكذلك خارج محيط العائلة سبب له اضطرابا في الهوية والشعور بأنه قد فقد الانتماء إلى جذوره، التي لا يستطيع تحديدها بسبب تشتته بين حضارة بيضاء أوروبية، وأخرى افريقية أمريكية. ومن الجدير بالذكر أن أوغست ويلسون لم يستطع أن يحدد انتماءه الثقافي، إلَّا في سن الثانية عشرة بعد أن أن انخرط في حياة أقرانه السود واعتنق في داخله تلك الهوية، وقد كتب عن تاريخ المهمَّشين الذين تم سجنهم في أقفاص ثلاثية الطبقات حتى يساهم في عمل ترابط متين في نسيج المجتمع الأسود، يحميه من التفكك وعدم تحديد الانتماء، كما كان الحال بالنسبة للأجيال السوداء الضائعة، التي كانت تعتنق حياة المجتمع الأبيض الذي ينظر لها دونية ولا يقبل وجودها في نسيجه.
ولهذا السبب، نجحت حركة القوة السوداء، واستطاع المجتمع الأسود أن يحرر نفسه وأن يمتزج إلى حد بعيد في المجتمع الأبيض. أمَّا في العصر الحديث، فما أكثر الأجيال الضائعة التي لا تستطيع تحديد انتماءاتها وأهدافها، والأدهى أنها ارتضت لنفسها حياة مفككة تسيطر عليها بداوة التاريخ والأفكار. ولكم يأمل العقلاء أن تكتشف تلك الأجيال تاريخها الإردوازي حتى لا تمحي وجودها طيَّات الزمان.
كاتبة مصرية