اعتبرت كييف محادثات جدة مثمرة، ورأت موسكو في المحادثات محاولة من الدول الغربية لإقناع الدول الواقعة في نصف الكرة الأرضية الجنوبي بدعم أوكرانيا.
باريس ـ «القدس العربي»: تدْخل الحرب الروسية الأوكرانية، هذا الأحد 13 آب/اغسطس 2023 يومها 536 على وقع تزايد علامات الاستفهام حيال الهجوم الأوكراني المُضاد بعد مضي شهرين على الإعلان عن شنه، وحيال أفق التحركات الدبلوماسية لوضع حد لهذه الحرب، في أعقاب محادثات جدة السعودية لمناقشة خطة سلام مستقبلية بين كييف وموسكو.
الهجوم الأوكراني المُضاد، يستمر على عدة جبهات جنوبية، بما في ذلك في منطقة بيرديانسك وميليتوبول، وفي منطقة زابوريجيا، وفي منطقة دونيتسك إلى الشرق ولا سيما حول باخموت. وأكد كيريلو بودانوف، رئيس المخابرات العسكرية الأوكرانية، أن قوات بلاده كانت تتقدم بشكل أسرع في باخموت مما كانت عليه الحال في جنوب أوكرانيا حيث أقامت القوات الروسية مواقع دفاعية قوية. أكثر من ذلك، لا يتم تنفيذ هذا الهجوم المضاد على خط المواجهة فحسب، بل إن القوات الأوكرانية كثفت أيضًا من ضرباتها على طرق الإمداد الروسية، بما في ذلك الجسران الاستراتيجيان اللذان يربطان شبه جزيرة القرم بالجزء المحتل من منطقة خيرسون، ويستخدمان من بين أمور أخرى لإعادة إمداد المنطقة. وأكد سلاح الجو الأوكراني أنه نجح في إسقاط عشرات صواريخ كروز وجميع طائرات شاهد إيرانية الصنع التي أطلقتها القوات الروسية، والتي استخدمت أيضًا صواريخ كينجال الأسرع من الصوت التي يصعب اعتراضها.
كما أضحت الطائرات المسيرة بدون طيار البحرية «مكونًا أساسيًا» للحرب، وفق ما أكدت الاستخبارات البريطانية. فهذه الأسلحة رخيصة الثمن، والتي طالما كانت جزءًا من ترسانة بعض الجيوش منذ عدة عقود وظلت لفترة طويلة محصورة في استخدامات محددة، ها هي اليوم تأخذ بعدًا جديدًا على الجبهة الأوكرانية، حيث كثفت كييف مؤخراً هجماتها في البحر الأسود باستخدام طائرات بدون طيار بحرية، متسببة بأضرار مادية. فمنذ أن رفضت موسكو في منتصف تموز/يوليو الماضي تجديد اتفاق تفاوضت عليه الأمم المتحدة وتركيا يسمح بتصدير الحبوب الأوكرانية، تتزايد التوترات في البحر الأسود، حيث تضاعفت الهجمات على الجانبين. قصفت روسيا مرارًا البنية التحتية للموانئ الأوكرانية في البحر الأسود وعلى نهر الدانوب، بينما هاجمت أوكرانيا السفن الروسية في مياهها وشبه جزيرة القرم، التي ضمتها موسكو في عام 2014. في هذا الإطار، أعلنت روسيا هذا الأسبوع أنها أسقطت 13 طائرة مسيرة أطلقتها أوكرانيا تجاه شبه جزيرة القرم وموسكو، بما في ذلك طائرتان مسيرتان على موسكو وضواحيها، وطائرتان مسيرتان بالقرب من قاعدة سيفاستوبول البحرية في شبه الجزيرة التي ضمتها موسكو في 2014 وتحطمت تسع طائرات أخرى في البحر الأسود بعد تشويش الإشارة. وحذر الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي في تسجيل مصور من أن بلاده سترد على هجمات روسيا في البحر الأسود لضمان عدم حصار مياهها وقدرتها على استيراد وتصدير الحبوب وسلع أخرى. جاء هذا بعد أيام من هجمات بطائرات مسيرة أوكرانية محملة بالمتفجرات أصابت سفينة حربية روسية بالقرب من ميناء روسي رئيسي وناقلة روسية. ودعا زيلينسكي روسيا إلى وقف إطلاق الصواريخ والطائرات المسيرة على الموانئ الأوكرانية والسماح بالتجارة. في حين، اعتبر الرئيس التركي رجب طيب أردوغان أن ايجاد حل لمسألة نقل الحبوب الأوكرانية في البحر الأسود هو «رهن باحترام الدول الغربية لوعودها، إذ لم يتم اتخاذ الإجراءات التي كان من شأنها تحويل الأجواء الإيجابية التي أشاعتها مبادرة البحر الأسود إلى وقف لإطلاق النار، ثم إلى اتفاق سلام دائم». فموسكو تطالب بأن يجاز لها تصدير منتجاتها الزراعية في تجاوز للعقوبات الغربية التي فرضت عليها. وحذر الرئيس التركي من مغبة أن تمدد الحرب نحو البحر الأسود سيكون كارثة على المنطقة، داعياً إلى «تجنب التصعيد».
اليوم، وبعد مرور شهرين على بدء الهجوم المُضاد الأوكراني، الذي حظي بدعم غربي كبير بالمعدات العسكرية، بهدف محاولة طرد القوات الروسية من الأراضي التي سيطرت عليها في شرق وجنوب أوكرانيا، ما تزال هذه الأخيرة (القوات الروسية) تسيطر على نحو خُمس الأراضي الأوكرانية التي احتلتها في وقت سابق، بما في ذلك مدينتا ماريوبول ودونيتسك في شرق أوكرانيا، وتواصل قصفها لمواقع متفرقة في تأكيد لاستمرار الحرب. فخلال هذا الأسبوع، مثلاً، استهدف قصف روسي مدينة زابوريجيا في جنوب أوكرانيا وتسبب في سقوط قتلى، كما أكد الجيشُ الروسي أنه قصف مركزاً للقيادة العسكريًة في بوكروفسك الواقعة في شرق أوكرانيا، حيث يقول إنه حقق مكاسب ميدانية في الأيام الأخيرة. وهو ما كذبته السلطات الأوكرانية مؤكدة سقوط قتلى وجرحى في ضربة روسية مزدوجة لمبانٍ سكنية.
هموم زيلنسكي المتعددة
وبقدر ما نجح الرئيس الأوكراني في بداية الحرب التي شنتها روسيا على بلاده في الظهور بمظهر القائد الذي لا يلين أمام الضربات الروسية، بقدر أصبح اليوم أمام تحديات كثيرة تفرضها عليه جبهات ثلاث هي جبهة القتال التي لم تتحرك كما كان الهجوم المضاد يريد لها أن تتحرك وجبهة شحذ عزائم الجنود الأوكرانيين والشعب الأوكراني ودعوتهم إلى الصمود أيًّا تكن المصاعب الحالية. أما الجبهة الثالثة فهي تلك التي تتمثل في حلفاء أوكرانيا الغربيين والذين أصبحوا يتذمرون في الخفاء من مطالبه التي تتزايد يوما بعد آخر وتتضخم.
وقد أقر الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي أن هجوم قوات بلاده المُضاد لاستعادة الأراضي التي سيطرت عليها القوات الروسية «ربما يتقدم ببطء أكثر مما يود الجانب الأوكراني» مشدداً على أنه سيتعين على الأوكرانيين التحمل إذا كانوا لا يزالون حريصين على الانتصار على العدو. فمع انحسار فرضية الاختراق السريع، يبدو أن الجيش الأوكراني اضطر إلى اللجوء إلى استراتيجية الضغط طويل الأمد، الأمر الذي من شأنه، وفق مراقبين أن يزيد من شكوك وتحمس حلفاء كييف الغربيين. في هذا الإطار، تحدثت شبكة «سي إن إن» الأمريكية عن شكوك ناشئة، مؤكدة نقلاً عن مسؤولين غربيين أن «التقارير الواردة من جبهة القتال بأوكرانيا مخيبة للآمال».
ووسط المطالب الأوكرانية المتكررة لحلفائها الغربيين بتعزيز دعمهم لها، اتفقت برلين وكييف هذا الأسبوع على توريد أنظمة صاروخية إضافية للدفاع الجوي من طراز باتريوت إلى كييف، فيما أعلنت واشنطن عن عزمها إرسال أسلحة لكييف بقيمة 200 مليون دولار الثلاثاء. كما فرضت بريطانيا هذا الأسبوع كذلك عقوبات على شركة إيرانية لتصنيع الطائرات المسيرة ومجموعة من الشركات الأجنبية الأخرى، بينها بارافار بارس الإيرانية لصناعة الطائرات المسيرة وسبعة من مسؤوليها التنفيذيين، وهم يخضعون بالفعل للعقوبات الأمريكية التي أعلنت في شباط/فبراير. وتتهم لندن هذه الشركات بتزويد القوات الروسية بأسلحة ومكونات لاستخدامها في الحرب على أوكرانيا.
في موازاة ذلك، بدأ توتر جديد بين روسيا وبولندا، الدولة العضو في حلف الناتو، والتي ظلت منذ بداية الحرب الروسية الأوكرانية أفضل مدافع عن الطرح الأوكراني لدى الغرب بشكل عام ولدى الاتحاد الأوروبي بشكل خاص. فقد أعلنت هذا الأسبوع، أنّها تعتزم نشر نحو عشرة آلاف جندي كي تحمي بشكل «رادع» حدودها الشرقية مع بيلاروسيا، حليفة موسكو، لاسيما بعد أن أصبح مقر قوات فاغنر الروسية المسلّحة في هذا البلد. كما تتّهم وارسو مينسك وموسكو بالسعي مجدّداً إلى إرسال آلاف المهاجرين إلى أراضيها لإغراق بلدان الاتّحاد الأوروبي بهم وزعزعة استقرار المنطقة (وفقاً لحرس الحدود البولندي، حاول 19 ألف مهاجر دخول بولندا منذ بداية العام، مقارنة بـ 16 ألفاً في عام 2022 بأكمله). وردت روسيا، بالتأكيد أنها ستحشد قواتها على حدودها الغربية، متهمةً بولندا وفنلندا بتهديد أمنها، ومتعهدة بالرد على ما وصفتها بتهديدات متزايدة على حدودها الغربية من أعضاء في حلف شمال الأطلسي «الناتو».
اجتماع جدة
مع دخول الحرب الروسية على أوكرانيا يومها الـ536 وفي خضم كل هذه التطورات المتلاحقة، يتساءل العديد من المحللين والمراقبين، عما إذا كان ثمة اليوم فعلاً مجالٌا لتحركات دبلوماسية من شأنها أن تمهد الطريق لمفاوضات السلام، في وقت يبدو فيه أن أي احتمال لإجراء محادثات مباشرة بين موسكو وكييف بعيد المنال بعد 18 شهراً من بدْء هذه الحرب؟
صحيح أنه انطلاقاً من المعطيات الحالية تبدو المسألة صعبة، غير أن ذلك لم يمنع الممكلة العربية من الدخول على الخط في محاولة للتموضع كوسيط جديد في الصراع في أوكرانيا، وخاصة على خطى تركيا، من خلال استضافتها نهاية الأسبوع الماضي، يومي الـ5 و الـ6 من آب/اغسطس الجاري، لاجتماع، في مدينة جدة، لمناقشة سبل تعزيز السلام في أوكرانيا، حضره ممثلو أكثر من أربعين دولة، لكن غاب عنه الطرف الروسي. ويرى مراقبون أن جهود الوساطة السعودية هذه تندرج بشكل عام ضمن مساعي الرياض لفرض نفسها كقوة إقليمية، قادرة على التأثير في القضايا الدولية الكبرى.
فمع أن السعودية أيدت قرارات مجلس الأمن الدولي التي تدين الغزو الروسي لأوكرانيا، وكذلك تلك التي تندد بضم روسيا لأراضي شرق أوكرانيا، إلا أن ذلك لم يزعزع علاقاتها مع موسكو في إطار أوبك + الذي يضم منظمة البلدان المصدرة للبترول وبلدانا أخرى منتجة ومصدرة للنفط خارج منظمة أوبك.
فبحكم دورها الرئيسي في تنظيم أسعار الطاقة، كان على السعودية، التي مكنتها هذه الحرب في أوكرانيا من ترسيخ ثقلها السياسي دوليًا، مواجهة ضغوط واشنطن وحلفائها الغربيين، لزيادة إنتاجها من النفط، للحد من ارتفاع الأسعار، على خلفية الحرب الروسية على أوكرانيا. غير أن الرياض لم ترضخ لطلب وضع حد لسياستها في خفض إنتاجها النفطي، وأدى الحد من صادراتها إلى زيادة سعر البرميل على المستوى الدولي، ما أدى إلى الحد من تأثير العقوبات الغربية المفروضة على روسيا، التي تمكنت من تصدير إنتاجها بأسعار عالية، وكان لهذا القرار تأثير مباشر على تطور الصراع في أوكرانيا.
في المقابل، أرادت السعودية الحفاظ على التوازن حيال الملف الأوكراني، حيث دعت الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي إلى قمة جامعة الدول العربية التي احتضنتها في شهر أيار/مايو الماضي. علاوة على ذلك، يجب التذكير بأن السعودية، لعبت، إلى جانب تركيا، دورًا غير متوقع كوسيط، في أيلول/سبتمبر عام 2022 ما مكّن من تبادل عشرة سجناء بين موسكو وكييف.
غير أنه وكما كان منتظراً، بحكم الظروف والسياق، لم يخرج اجتماع جدة بشيء يذكر، كما لم يصدر عنه إعلان ختامي مشترك. فبينما رأت كييف أن محادثات جدة كانت مثمرة، اعتبرت موسكو أن هذه المحادثات ما هي إلا محاولة من الدول الغربية لإقناع الدول الواقعة في نصف الكرة الأرضية الجنوبي بدعم أوكرانيا. لكن مراقبين ومحللين يعتبرون أن هدف السعودية من هذا الاجتماع هو إبقاء جميع القنوات الدبلوماسية مفتوحة، وأن توفر لها علاقة عمل مع مختلف القوى المعنية، مع الاستمرار في التموضع في هذا التوازن بين روسيا وأوكرانيا، وتجنب اتخاذ موقف مع أحد الطرفين على حساب الآخر.
ويرى مراقبون أن مُشاركة الصين، التي اعتبرت أن محادثات جدة ساعدت في «إرساء توافق دولي في الآراء» قد تحمل دلالات، معتبرين أنها قد تشير إلى تحولات محتملة في نهج بكين، لكنهم استبعدوا في الوقت نفسه تراجعها عن دعم موسكو. وتجدر الإشارة إلى أن الصين الشعبية كانت قدمت «مقترحاً للسلام» مؤلفاً من 12 نقطة، وقوبلت المبادرة الصينية بفتور في روسيا وأوكرانيا، وأثارت شكوكاً في الولايات المتحدة الأمريكية.