أوكرانيا ومسألة القومية

حجم الخط
1

واحدة من الذرائع التي استخدمها الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، لتبرير الغزو العسكري لأوكرانيا وجود «قوميين أوكرانيين» يكرهون الناطقين بالروسية وينفذون «إبادة» بحقهم، لاسيما شرق البلاد. ورغم أن هذه الذريعة جزء من آلة الكذب البوتينية، لكنها تستند إلى ما هو حقيقي، أي وجود قوميين في أوكرانيا. الفرق هنا يتبدى بين قوميين يجعلهم بوتين «نازيين جدد» و»متعاطي مخدرات» وقوميين يوجدون في كل بلد، وبوضوح أكثر، بين قوميين يراد تضخيم دورهم كجزء من دعاية سياسية، وقوميين هم في الحقيقة جزء من تركيبة أيديولوجية وسياسية، حكمت البلاد في الفترة الماضية، ويمكن أن تحكم أي بلد آخر.
تصور بوتين المسيس لمسألة القومية في أوكرانيا جرى الاستثمار فيه، قبل الغزو، عبر تشجيع سكان بعض المناطق الشرقية للانفصال، ليس انطلاقا من حق تقرير المصير، وإنما لاستخدامهم كنفوذ، وقاعدة للغزو لاحقاً. قضية هؤلاء السكان لم تتطور في سياق داخلي بقدر ما جرى التحكم بها روسياً. بمعنى أن التناقضات الأوكرانية، لم يسمح لها أن تحل ديمقراطيا، استناداً إلى التحول الذي حصل عام 2014، بل سارعت موسكو إلى الاستثمار فيها للنيل من السلطة الجديدة المناهضة للكرملين.

نقل القومية من الأفق السياسي الذي يخفف من تطرفها، إلى الأفق الحربي الذي يصلبها، على ما فعل بوتين، غير مضمون النتائج

هنا، فإن تضخيم دور «القوميين الأوكرانيين» يوازيه الاستثمار في قضية الأوكرانيين المصنفين قريبين لموسكو، وجعلهم أداة في يد السلطوية البوتينية. الأخيرة، تلاعبت بالتركيبة السكانية لصالحها، ووسعت الفجوة بين الطرفين، وهذا التلاعب غالباً، ما يتم تجاهله في تناول عدد من الباحثين لمسألة الانقسامات في أوكرانيا، حيث يتم التركيز على الصراع بين أصحاب الهوى الروسي، وهؤلاء المتشددين لهويتهم الأوكرانية، كمدخل للتحليل، ما يرسم تقاطعا غير مقصود مع الدعاية البوتينية الكاذبة، والساعية لتسييس الانقسامات لصالحها. قوام الفرضية التي يتبعها هؤلاء الباحثون، عزل الانقسامات عن التسييس، وعن التحولات الاقتصادية وأشكال الحكم.
القومية في أوكرانيا، حسب هؤلاء، مسألة ثابتة لا تتغير، رغم وجود ديمقراطية ناشئة، كان يمكن أن تكون فرصة لتشكيل فضاء اندراجي مفتوح تداولي ومرن، مصحوب باقتصاد حر مرتبط بأوروبا، فتذوب القومية في التشكل الواسع للبلد، بدل أن تتصلب وتنحو منحى التطرف.
فرصة ضبط النزوع القومي، عبر شكل الحكم والاقتصاد والاندماج بأوروبا، يعادلها بالمعنى السلبي، النموذج البوتيني، الذي يريد الاستثمار في مسألة القومية، لأهداف سلطوية، ليس في أوكرانيا فحسب، بل في روسيا نفسها، إذ أن القومية جزء من دعاية النظام حول «استعادة» أمجاد الاتحاد السوفييتي، أكثر مما هي عنصر من عناصر تشكل المجتمع السياسي الروسي. عدد لا بأس به من التقارير الصحافية، تحدثت عن أن جيش بوتين الغازي، يواجه مقاومة شرسة، في مناطق شرق البلد، التي تعتبرها روسيا حاضنة لها، ويتم الاستدلال بها لوجود انقسام في أوكرانيا. أحد هذه التقارير فسر المقاومة في هذه المناطق، رغم وجود أغلبية ناطقة بالروسية، بالقول إن «العقود الثلاثة الأخيرة أنتجت شخصية وطنية جامعة لمعظم الأوكرانيين تراهن على الخيار الأوروبي والتوجه غرباً».
وبمعزل عن المبالغة في تقدير التقرير لتأثير «الهوية الجامعة» فإن نقل القومية من الأفق السياسي الذي يخفف من تطرفها، إلى الأفق الحربي الذي يصلبها، على ما فعل بوتين، غير مضمون النتائج. إذ إن تسليح موسكو لسكان شرق البلاد، يعرّفون أنفسهم بالضد من «النزعة القومية» سيصلب أكثر هذه النزعة، ويجعل حتى مناطق شرق أوكرانيا عصية على «القيصر» الذي يتعامل مع القومية على أنها عنصر مضمون في أجندته التوسعية، وليست شعورا يتحرك تبعاً للتهديدات الخارجية وطبيعة النظام السياسي ومؤسساته الاستيعابية، فتقوى وتصبح دفاعية في الحالة الأولى وتضعف وتصبح أكثر استعداداً للاندماج بعناصر أخرى في الحالة الثانية.
كاتب سوري

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول ryad:

    بوتين يخشى على وحدة بلده من توسع الاتحاد الأوروبي (بأنظمته الديموقراطية) شرقا، أكثر مما يخشى من الناتو وأسلحته.

إشترك في قائمتنا البريدية