أوهام التماهي بين العقد الاجتماعي وعقد الزواج

عادة ما تعكس الصحافة الشعبية رغبات الجمهور وأهواءه. ولكن الجمهور الفرنسي أثبت مرارا أنه أنضج من هذه الصحافة السوقية التي تدعي الحديث باسمه، مثلما حدث أخيرا بمناسبة ما نشر حول حياة الرئيس اولاند الشخصية. وقد تبدو هذه مسألة عارضة، ولكنها في عمقها مسألة سياسية هامة تستدعي ملاحظات تتعلق بالإعلام وأخلاقياته أولا، وبما نحن مقبلون عليه في بعض البلاد العربية، إن صدقت العزائم، من محاولة بلورة صيغة حياة عامة تتسم بدرجة معقولة من النضج السياسي والمدني.
الملاحظة الأولى تتعلق بالمبدأ: إن كان هنالك فعلا عقد اجتماعي بين مواطنين عقلاء، فليس المراد منه أن يكون عقد زواج. ذلك أن ما يتطلبه الجمهور من الشخصيات العامة لا يمكن أن يلتمس في حياتهم الشخصية، أي أن الخصوصيات والحرمات ليست من صلاحيات، أو اهتمامات، المجتمع السياسي. إنها خارج الموضوع!
الملاحظة الثانية ذات طبيعة تاريخية: أن الإعلام الجاد لم يكن يرى من واجبه، ولا من حقه، أن يتدخل في حياة السياسيين الشخصية. بل إن هذا النوع من التجسس والتلصص كان يعد عيبا لا يليق بأصحاب المروءة. ولهذا فإن الصحافيين كانوا على علم بكل مغامرات الرئيس كندي النسائية، ولكنهم لم ينقلوا عنها (بل لم يجعلوا منها) خبرا طيلة حياته.
الملاحظة الثالثة ذات طبيعة ثقافية: أن الصحافة الفرنسية، الجادة منها والشعبية، كانت تترفع في الماضي عن مثل هذه الصغائر لميل الفرنسيين على وجه العموم إلى الفصل بين الشأن العام وبين ما لا يهم إلا الشخص المعني والأقربين. ولهذا لم ينشر الصحافيون شيئا عن علاقة ميتران الغرامية الطويلة رغم أنهم كانوا يعرفون مازارين، ابنته من هذه العلاقة، حق المعرفة. كما أنهم لم يروا أن من واجبهم أن يشرحوا أن الرئيس جيسكار دستان كان عائدا من بيت خليلته عندما وقع له حادث سيارة ذات فجر ضبابي. ولا يزال الجمهور الفرنسي في معظمه ثابتا إلى اليوم على أن الحرمات ليست مادة المجتمع السياسي.
إلا أن أخلاقيات الإعلام تغيرت في أمريكا قبل بقية البلدان، مثلما يشهد على ذلك افتضاح قصة الرئيس كلنتون مع مونيكا لوينسكي نهاية التسعينيات. ولكن انحدار الصحافة الأمريكية بدأ منتصف الثمانينيات عندما أفشت جريدة ‘ميامي هيرالد’ سر علاقات السناتور الديمقراطي غاري هارت الغرامية. وكان الغريب أن هارت، الطامح آنذاك إلى الترشح للرئاسة، قد تحدى الصحافيين، عندما سأله أحدهم عن حياته الشخصية، أن يثبتوا أي شيء ضده. فما كان منهم إلا أن فعلوا!
وقد سنح لي أن شهدت محاضرة قدمها رئيس تحرير ‘ميامي هيرالد’، فبرر قراره بأن ما نشره من معلومات له دلالة سياسية لأنه يعطي فكرة عن مدى نزاهة سياسي يريد أن يصير رئيسا للبلاد. ولكن هذا تبرير لا يقنع. ذلك أن المنكر الأكبر، حسب زعمه، لا يتمثل في العلاقة الغرامية في حد ذاتها، بل في كذب السياسي بشأنها (بإخفائها أو إنكارها).
ولكن لماذا السؤال بشأنها أصلا؟ وما هي القيمة السياسية أو المصلحة الوطنية المرتجاة من استراق النظر من ثقوب الأبواب؟ ثم هل يمكن تصديق أي شخص، ناهيك عن أن يكون صحافيا، يزعم أنه فوجىء بالنبأ العظيم: أن طعام السياسة لا يخلو من ملح الكذب؟!

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول حسن.ز.تونس:

    لا أرى فائدة في التنقيب عن الحياة الخاصة في السياسي عامة و لو أن البعض يميل الى البحث على خصوصيات أهل الفن مثلا.لا يعني هذا أننا نقبل بأي شخصية تحكمنا.فالسرقة مثلا والتي نجدها عادة- مع الأسف-في بعض الحكام العرب لا يمكن أن يتصف بها مسؤول في الدولة.فالأمانة صفة المسلم والقائد.

  2. يقول S.S.Abdullah:

    حقيقة فوجئت بما كتبته أعلاه فهو ضد أي شيء علمي ناهيك أن يكون له علاقة بالأخلاق
    من وجهة نظري إن أردتم التطور العلمي يجب أن يكون هناك شيء اسمه الطيف الشمسي للألوان وكل لون له تعريف علمي واضح.
    فالحياة أكبر من اللون الأسود واللون الأبيض التي نرى فيها أحلامنا إن كان في اليقضة أو في المنام، والأحلام في العادة عديمة الألوان فهي تتراوح ما بين الأبيض والرمادي والأسود بدرجاته.
    أن أردتم أن تكون السياسة بحجة النسبية فلا يوجد غير اللون الرمادي لكي يكون للنخب الحاكمة حق تعريف الألوان حسب مزاجها وبأنتقائية اساسها المصالح فهذه الأسلوب لأجله أصلا قامت السي أن أن
    فصاحبها وزوجته أنزعجوا مما حصل في فيتنام،
    وكيف كان يتم الضحك على الناس فيما يصدروه من أخباره ليس لها علاقة بالواقع،
    فلقد كان ضد أن يترك مجال للسياسيين لكي يطبخوا الأخبار حسب مزاجيتهم وانتقائيتهم فعمل على تأسيس شركة اخبارية تكون مهمتها الأساسية أن تنقل الخبر مباشرة فلا يترك للسياسيين مجال كي يطبخوا الخبر على مزاجهم كما كان يحصل في حرب فيتنام
    من وجهة نظري ما خلط الحابل بالنابل وصول ساركوزي للحكم في فرنسا بعد عام 2001 ليتواءم ما ترغب به قائدة النخب الحاكمة في نظام الأمم المتحدة أمريكا بقيادة جورج بوش
    فهو أول زعيم فرنسي يصل إلى سدة الحكم من بداية الثورة الفرنسية بقيادة نابليون بونابرت لا يفرض أن يكون هناك اسلوب فرنسي يختلف عن الاسلوب الأمريكي على الأقل أمام الناس بحجة أن اللغة الفرنسية تختلف عن اللغة الإنجليزية ويجب أن يكون لها خصوصية خاصة بها.
    صحيح أنَّ أولاند الذي استلم قيادة فرنسا بعد ساركوزي عاد وأرجع الاسلوب السابق، ولكن بعد خراب مالطا كما يُقال في الأمثال وهل يمكن أن تعود الأمور إلى عهدها السابق بعد أن تم فضح اللعبة من خلال أدوات العولمة؟
    لا أظن ذلك، فالشفافية والمصداقية وضرورة أن يكون هناك شيء اسمه أخلاق يجب أن يتم الإلتزام بها في عصر العولمة وهذا ما يختلف تماما عن اساليب اللعبة في العصر الديمقراطي

إشترك في قائمتنا البريدية