نحن نقترب من الذكرى الثامنة لاندلاع حراكات وثورات الجماهير الشعبية العربية في العديد من بلاد العرب، غالبيتها بقيادات عفوية من قبل شباب الأمة. لقد نجح البعض وتعثر البعض الآخر، كما سرقت بعض الحراكات من قبل الانتهازيين، واخترق بعضها الآخر من قبل استخبارات الخارج والداخل.
أحداث جسام مرت على كل مكونات هذه الأمة العربية، أدت إلى تغييرات هائلة عبر الوطن العربي كله، لم يسلم أحد من نيرانها وابتذالاتها وجنونها، وكل القيم والالتزامات والمحرمات القومية والدينية دُنست أو نُسيت. أمام مصاب جلل كهذا يسأل الإنسان نفسه: هل استفاقت وتعلمت نخب الحكم والمجتمعات المدنية السياسية العربية من تلك الدروس المريرة؟ أم أنها ستستمر في التلهي بصراعاتها وخلافاتها وحبك المؤمرات على بعضها بعضا؟ الجواب واضح في التعامل الفردي والجماعي، من قبل الدول والجماعات، مع أسوأ وأفجع المشاهد عبر الوطن العربي. نراه في السكوت العربي المريب تجاه سوريا المهددة بالتقسيم، بين قوى خارجية وداخلية، تنزف دما على يد جحافل الجهاد التكفيري الإرهابي، تحت حماية وتمويل هذه الجهة الخارجية أو العربية أو تلك، المؤجلة عملية إعادة إعمارها حتى حين قبولها بشتى الابتزازات والشروط، وبالتالي إبقاء نصف شعبها في المهاجر والغربة والإذلال إلى حين إيصالها إلى حالات اللاعودة.
نراه في الإنزواء العربي عن ليبيا المرشحة للعودة إلى ولاءات البداوة لتفتيتها وتوزيع ثرواتها البترولية والغازية بين سراق الخارج والداخل. نراه في العراق الذي ما أن يحبو خطوة سياسية وطنية إلى الأمام حتى يرغم من قبل قوى الخارج والطائفية الداخلية، على التراجع خطوتين إلى جحيم الانقسامات العرقية وبلادات الطائفية، والنتيجة أن يشرب شعب بلد النهرين ماء مالحا ملوثا ويأكل أطفال بلد الخيرات الزراعية من صناديق القمامة. نراه في الدمار البشري والعمراني الذي يعيشه اليمن، الذي قاد إلى نشر الأوبئة والجوع والعري في ربوع ذلك البلد المنكوب وأحال أطفاله إلى أشباح من عظام وجلد، وقلب شعبه العربي إلى عبيد لهذه الجهة أو تلك. نراه في فلسطين المحتلة التي تنزف دما وتذرف دمعا وتخسر أرضا ليل نهار على يد الاحتلال الصهيوني والإسناد الاستعماري الأمريكي الديني والسياسي والعسكري والاقتصادي، بينما تعيش بعض أنظمة حكم العرب وأبواقها الانتهازيين فاقدي الضمير الإنساني في أوهام فوائد ومزايا وضرورات التطبيع مع الكيان الصهيوني الغاصب الإرهابي.
نراه في شتى بقاع الأرض العربية فسادا ونهبا وتراجعا خدميا معيشيا، وانتهاكا للحقوق الإنسانية والسياسية ، وسجونا ممتلئة، وموجات هجرات سكانية إلى المنافي والغربة والإذلال، ورجوعاُ للاحتلال وللنفوذ وللتدخلات الاستعمارية بشتى الأشكال والمستويات. في خضم كل ذلك ضاعت فضائل القيم والالتزامات الوطنية والقومية العروبية والأخوة الدينية، لتحل مكانها مرجعيات الولاءات المذهبية الطائفية أو الجهوية أو العرقية أو القبلية أو النفعية. وزاد الأمر سوءا أنه بدلا من تفاهم النخب السياسية العربية على وضع حلول عربية ذاتية متوازنة للخروج من تلك الأزمات، اتجهت أنظارها إلى الخارج، وتفويض قوى الخارج لتضع الحلول لتلك المشاكل العربية. ما عاد يسمع صوت عربي، ولا يسمع الناس عن مقترحات عربية. ما يسمعه الناس، مقترحات تقدمها أمريكا أو روسيا أو فرنسا أو تركيا أو إيران أو القوى الصهيونية أو الأمم المتحدة أو غيرها. الصوت الخارجي يملأ الدنيا ضجيجا بينما ينقلب الصوت العربي إلى همس واستعطاف وقلة حيلة. والنتيجة بالطبع هي الفشل. فشل في الداخل وفشل في الخارج، بينما تحترق الأرض العربية، ويتدمر اقتصادها، وتفقد استقلالها وتعيش مجتمعاتها حياة الشلل والخوف واليأس والكفر بكل قيمة أو التزام.
الصوت الخارجي يملأ الدنيا ضجيجا بينما ينقلب الصوت العربي إلى همس واستعطاف وقلة حيلة
هذا الوضع ما عاد يطاق، ولا يليق بهذه الأمة، وإذا استمر فسيقود إلى كوارث سياسية واقتصادية وأمنية، بل حضارية، مهددة للوجود العربي برمته.ما يجب أن يعرفه الجميع أنه لن ينجو أحد، ولن تكون هناك سفينة نوح لإنقاذ ما يمكن إنقاذه. بداية الطوفان كانت تلك الحراكات والثورات العربية منذ ثماني سنوات. ما حدث لها ليس هو الموضوع، الموضوع هو العوامل التي قادت إلى حدوثها آنذاك، والتي لاتزال موجودة بألف شكل وشكل في كل المجتمعات العربية. والموضوع هو فهم ما وراء خروج الجماهير الهائجة في مدينة البصرة ومدن السودان وبيروت وعمان وشتي أنحاء تونس والمغرب. ويخطئ من يعتقد أن الهيجان سيقف هناك، فالأرض العربية كلها أصبحت رمالا متحركة. هناك جهتان يجب أن تفعلا شيئا قبل فوات الأوان: النخب السياسية العربية الحاكمة والنخب السياسية الفاعلة في المجتمعات المدنية العربية. النخبة الأولى تحتاج أن تناقش الأمور في الجامعة وفي مؤسسة القمة بصراحة وبروح تفاهم وبشعور بعظم المسؤوليات القومية. سكوتها وترددها وشللها ما عاد يفيدها منفردة أو مجتمعة. النخبة الثانية تحتاج أن تبدأ بتكوين نواة كتلة عربية سياسية نضالية سلمية للمساهمة في إنقاذ مجتمعاتها من الجحيم الذي نعيشه.
هناك تفاصيل كثيرة بشأن جدول أعمال النخبتين لا يسمح المجال للدخول في تفاصيلها وتعقيداتها. النخبتان يجب أن تعملا على بناء سفينتي نوح وإلا لا منجي من أمر الأمواج الهائلة التي تحيط بهذه الأمة المنكوبة.
كاتب بحريني
مايسميه الكاتب ” النخب السياسية الحاكمة” هي في كل بلاد العرب الحكام واعوانهم والمحيطون بهم والمستفيدون والذين اكبر همهم المحافظة على مناصبهم والاستفادة منها باقصى مايمكن
اما الوطنية ومصلحة المواطن وتقدم بلدانهم والحرية والعدل فليس في اذهانهم إطلاقا، وان وجد منها شيء فليس الا سطحيا وتجميليا
الأمثلة كثيرة وان اختلفت اسماء الحكام واختلفت البلدان ولكنهم في الاستبداد و الظلم سواء، وفي القضاء على النخب السياسية من الشعب