أن تكون هناك تباينات كبيرة في علاقات كل دولة منفردة من دول مجلس التعاون الخليجي مع الدول الأجنبية، غير العربية وغير الإسلامية، فهذا أمر ممكن قبوله. فمثل تلك العلاقات مبنية على المصالح، ولاغير المصالح. وطالما أن المصالح الوطنية لدول المجلس غير متطابقة ولا متماثلة فانه منطقي أن تكون علاقاتها المبنية على المصالح غير متماثلة أيضاً.
لكن ماذا عن علاقات دول مجلس التعاون المشتركة والمنفردة مع دول أمتها العربية ؟ هل سنترك تلك العلاقات أيضاً لمنطق مصالح كل دولة على حدة، وبالتالي ستكون علاقات متباينة وأحياناً متناقضة أم أن علاقات دول مجلس التعاون، المشتركة والمنفردة، تحتاج أن تبنى على ثوابت وعلى مبادئ تتخطى منطق المصالح، التي هي بدورها غير ثابتة ودوماً متغيّرة صعوداَ وهبوطاَ؟
مناسبة هذا السؤال الحيوي هو مايراه المراقب للمشهد العربي الحالي، وبالتحديد منذ تفجُر ثورات وحراكات الربيع العربي، من تباينات وتناقضات هائلة في مواقف دول مجلس التعاون الخليجي مَما يجري في الوطن العربي الكبير. وتتَضح صورة تلك التباينات على الأخص في ساحات من مثل مصر وسوريا والعراق وتونس وليبيا، وذلك بأشكال مختلفة لا تسمح محدودية حجم المقال على الدخول في تفاصيلها الكثيرة المعقَّدة وغير المستقرَّة.
ونعتقد أن تلك التباينات تعود في الأساس لغياب رؤية سياسية مشتركة، قائمة على ثوابت قومية، تحدٍّد نوع العلاقة بين مجلس التعاون وبقية دول ومجتمعات وطن الأمة العربية الواحد.
إن مجلساً أعلن في البيان الختامي لاجتماع قمته الثاني في عام 1981، أي سنة بعد قيام المجلس، هذه الجملة المبهرة: ‘واستعرض المجلس الوضع العربي الراهن، ونهوضاً بمسؤولياته القومية في ضرورة تحقيق التضامن العربي وإزالة الخلافات بين الدول العربية الشقيقة ونبذ الفرقة وتأكيد وحدة الجهود، وتمشياً مع المبادئ التي جاءت في النظام الأساسي بأن مجلس التعاون جزء لا يتجزأ من الأمة العربية، فقد قرر المجلس بأن تقوم الدول الأعضاء بمساع حثيثة بغية تحقيق وحدة الصف العربي’. إن مجلساً أشار في مراحل مبكًّرة جداً من عمره إلى ‘مسؤولياته القومية’ وإلى أن المجلس ‘جزء لا يتجزأ من الأمة العربية ‘كان عليه أن يباشر في تبنًّي وثيقة سياسية تفصًّل مسؤوليات المجلس القومية للتعامل على الأقل مع حقول السياسة والإقتصاد والأمن العسكري والغذائي والتنمية الإنسانية والهوية العروبية.
لو وضعت الأسس والثوابت آنذاك، وطوٍّرت عبر الثلث قرن من عمر المجلس، لوجدت بوصلة تحكم علاقة المجلس بأمته العربية. كانت تلك البوصلة ستبيٍّن أن تحرير دول المجلس من الإعتماد على ثروة النفط الناضبة يحتاج الى توسيع القاعدة الإقتصادية الإنتاجية، وأن ذلك التوسيع لا يمكن أن ينجح في المدى البعيد إلاً أذا اعتمد في الأساس على سعة الأسواق العربية بدلاً من الأعتماد الكلي على أسواق العالم المتذبذبة وغير المضمونة كما أبانته الأزمة المالية العولمية في سنة 2008.
كانت تلك البوصلة ستشير إلى أن الحفاظ على الهوية العروبية في دول المجلس لن يكون ممكناً إلاَ بالاعتماد على رفد العمالة الوطنية بالعمالة العربية، لا بالعمالة الأجنبية غير العربية.
كانت البوصلة ستؤكد على أن التوازن الاستراتيجي في الخليج العربي كان يتطلب الإلتحام بجناحيه : العراق في الشمال واليمن في الجنوب. وكان ذلك كفيلاً بعدم الحاجة لعودة الجيوش والمعدًّات الأجنبية لحماية هذا الوضع أو ذاك النظام.
كانت البوصلة ستحرك التوجه نحو البحث عن الأمن الغذائي في أراضي العرب الممتدة من الخليج الى المحيط بدلاً من الإرتهان لهذا المصدر الأجنبي غير المؤتمن أو ذاك.
وكانت البوصلة على الأخص ستمنع دول المجلس من الإنخراط في الصّراعات المحليًّة بين مكونات أي قطر من أقطار الوطن العربي، وتبقي المجلس، كما جاء في بيانه الختامي ذاك، مصدر إزالة للخلافات العربية ونبذ للفرقة ومصدر دفع نحو التضامن والتعاضد. القائمة طويلة جداً وتجليات الثوابت كثيرة. لو اتفق عليها منذ البداية وعمل بها منذ البداية لاستطاع مجلس التعاون أن يلعب أدواراً مفصلية في منع أو تخفيف مآسي الحرب العراقية الإيرانية ومهزلة احتلال الكويت وعار دخول الجيوش الغازية أرض العراق، ومن بعد كل ذلك لعب دور الأخوًة والتقريب وإطفاء الحرائق في دوامة الجنون الطائفي والعرقي الذي أصاب مؤخّرا الوطن العربي كلًّه وفتح الأبواب أمام كل قوى الشر الأجنبية والصهيونية لتدخل منه.
أمام هذا التاريخ المفجع من ترك علاقة المجلس بوطنه العربي الكبير حبيس الصدف والأزمات وصراعات الدول الكبرى، ألم يحن الوقت للتفكير في وضع ثوابت وخطوط حمر وبوصلات هادية تؤدًّي إلى منع الخلافات والتباينات والتضادَّات في نظرات ومواقف دول مجلس التعاون لما يجري في ساحات الوطن العربي الكبير ليكون المجلس مصدر أمن وتقريب وتوحيد ومساهمة حقيقية عاقلة في إخراج الوطن العربي من الجحيم الذي يعيشه؟
مستحيل .. لن يُسمح لدول الخليج العربي ممارسة سياسة عروبية مستقلة وموضوعية وجادة لترسيخ التضامن العربي على حدوده الأدنى .. وثق يا استاذنا الكبير هذه ليست نظرية المؤامرة بل حقيقة أثبتها التاريخ المعاصر للجزيرة العربية وسياسة آل سعود على وجه الخصوص .