يقول الأديب والمفكر البريطاني الشهير ألدوس هكسلي – صاحب الرواية المعروفة ‘عالم جديد شجاع’ – إن ‘الدرس الوحيد الذي نتعلمه من التاريخ أن لا أحد يتعلم من التاريخ’!
وهنا تكمن الكارثة، فكم من مصائب التاريخ تتكرر أمام أعيننا دون أن يستفيد من تجارب التاريخ أحد. لن نذهب بكم إلى التاريخ القديم أيها السوريون، بل إلى التاريخ الطازج جداً. سنذهب بكم إلى جاركم العراق، الذي يمكن أن يكون عبرة لمن أراد أن يعتبر، كي لا نكرر لاحقاً مقولة الإمام علي (رضي الله عنه)، عندما قال:’ما أكثر العبر وما أقل الاعتبار’.
ظن العراقيون الجدد الذين جاءوا على ظهور الدبابات الأمريكية، وبمؤازرة حليفهم التاريخي إيران، أنه بمجرد إسقاط نظام الرئيس الراحل صدام حسين، سيطيب لهم العيش في العراق، وسيحكمون البلاد على طريقتهم.
لقد احتفل حلفاء أمريكا وإيران ‘بانتصارهم’ العظيم عام 2003، وأقاموا الأفراح والليالي الملاح بتحرير العراق من النظام السابق. وليتهم توقفوا عند الاحتفال فقط، بل راحوا يجتثون كل ما كان له علاقة حتى لو بعيدة جداً بالنظام القديم، فسنوا ما يسمى بقانون ‘اجتثاث البعث’، وتمكنوا من خلاله من القصاص من عشرات الألوف من البعثيين القدامى، الذين كانت علاقة الكثير منهم بالبعث علاقة مصلحة بالدرجة الأولى، كي يحفظوا رقابهم ولقمة عيشهم في ظل حكم حزب فاشي جائر بكل المقاييس. فمن المعلوم أن مئات الألوف من الناس ينضمون لهذا الحزب العربي أو ذاك – ليس إيماناً بمعتقداته ومنطلقاته ومبادئه – بل لأن بعض الأحزاب، وخاصة حزب البعث، كان يعتبر كل من لا ينضم إلى صفوفه ‘خائنا’ و’عميلا’ للإمبريالية والصهيونية العالمية.
لقد راح ‘العراقيون الجدد’ يسومون ‘المهزومين’ سوء العذاب والملاحقة انتقاماً وتكريساً لنظام فاشي جديد. لا بل اعتبروا الفريق ‘المهزوم’ جديراً بالسحق والإقصاء!
لكن دعونا ننظر إلى حصيلة تجربتهم في ‘الاستئصال’ على مدى أكثر من عشر سنوات. ماذا أنجز النظام العراقي الجديد ‘المنتصر’ بقوة أمريكا وإيران؟
هل ساد السلام والوئام في بلاد الرافدين؟ هل استعاد العراق مجده السابق؟ هل نجح النظام الجديد حتى في تأمين الكهرباء والماء للشعب العراقي؟ هل استطاع أن يؤمن للعراقيين الوقود الذي يملك العراق واحداً من أكبر احتياطاته في العالم؟ هل استطاع ‘المنتصرون’ أن ينظفوا الشوارع؟ هل مر أسبوع منذ أكثر من عقد من الزمان دون أن يسقط في العراق مئات القتلى والجرحى جراء التفجيرات والعمليات الإرهابية؟ الجواب على الأسئلة آنفة الذكر سيكون حتماً ‘لا’.
هل تعلمون أن العراق الذي تبلغ ميزانيته السنوية، بسبب ثروته النفطية الهائلة، أكثر من مئة وخمسة وعشرين مليار دولار، لم يستطع حتى الآن أن يؤمن الكهرباء للعراقيين؟!
ألا تغط معظم المناطق العراقية في ظلام دامس، بسبب انقطاع الكهرباء؟!
هل يشرب العراقيون ماء نظيفاً؟! بالطبع لا، فمعظم المياه التي يشربها العراقيون مياه تسبب السرطان لاحتوائها على كميات كبيرة من القاذورات، خاصة القسم القادم من تركيا بسبب تلوث المياه بالكثير من الآفات والأوساخ والنفايات؟
ولو عرف الشعب العراقي نوعية المياه التي يشربها لرفع ألوف الدعاوى على حكومته. وحدث ولا حرج عن نظافة العراق، فقد فازت العاصمة بغداد قبل فترة بلقب ‘أوسخ مدينة في العالم’!
لماذا فشل النظام العراقي الجديد بالنهوض بالبلاد واستثمار ‘النصر العظيم’، الذي يزعم أنه حققه على النظام السابق؟ السبب بسيط جداً: لأنه حاول أن يفرض إرادته، وينتقم من قسم كبير من العراقيين، دون أن يدري أن بلداً كالعراق مكون من أعراق ومذاهب وطوائف وقبائل مختلفة، ولا يمكن أن يستقر، أو ينهض إذا لم يشعر كل مكونات العراق بأنهم منتصرون ومتساوون وجديرون بحقهم الكامل بالعيش في وطنهم.
إن سياسة النظام الجديد، التي قامت على الإقصاء والغبن والظلم لا يمكن أن تنتج سوى دولة فاشلة مترهلة غير قادرة على تأمين أبسط مستلزمات الحياة لشعبها، لا بل مهددة أيضاً بالتفكك والانهيار والتشرذم إلى أعراق وقبائل ومذاهب متناحرة.
يكفي أن يكون لديك في هذا العصر عشرة بالمئة من السكان مظلومون ومهمشون ومغبونون حتى يحولوا حياة أي دولة إلى جحيم مقيم.
من الخطأ الفادح أن ينتصر طرف على طرف في بلد كالعراق أو سوريا، خاصة في هذا الزمن الذي باتت فيه الشعوب قادرة على الجهر بمظالمها في عصر السموات المفتوحة، ناهيك عن أنها تخلصت من خوفها، وأصبحت قادرة على زلزلة الأرض تحت أقدام جلاديها وظالميها.
أيها السوريون – نظاماً ومعارضة وشعباً – هل تلقون نظرة سريعة على وضع جاركم العراق المزري، الذي وصل إلى ما وصل إليه من انهيار، لأن فريقاً اعتقد أنه انتصر على آخر؟
لا يظنن أحد في سوريا أنه قادر على الانتصار على الآخر، لأن وضع سوريا مشابه لوضع العراق، من حيث تركيبته المذهبية والعرقية والقبائلية.
من السذاجة أن يعتقد النظام أنه قادر على الانتصار على معارضيه، ومن السذاجة أن يعتقد المعارضون أنهم قادرون على الانتصار على أتباع النظام، لأن ذلك سيدفع الفريق المهزوم، أياً كان، تحت الأرض ليتحول إلى حركة تخريبية تدميرية إرهابية تزلزل الأرض تحت أقدام ‘المنتصرين المزعومين’.
لا أحد يطلب منكم طبعاً أن تستوعبوا القتلة والمجرمين الذين ارتكبوا جرائم فاشية بحق السوريين، فهؤلاء جديرون بأقسى أنواع المحاكمات. لكن يجب الأخذ بعين الاعتبار إشراك كل فئات الشعب السوري في بناء دولة جديدة لكل أبنائها، وليست حكراً على طائفة أو مذهب على حساب الآخر.
إن الخطاب الإقصائي الانتقامي، الذي يتشدق به النظام أو معارضوه في سوريا كفيل بأن يطيل أمد الأزمة إلى عشرات السنين. والأنكى من ذلك أن سوريا ليست غنية كالعراق، فميزانيتها السنوية أقل من عُشر الميزانية العراقية، مما يعني أن البلاد ستذهب إلى الجحيم اقتصادياً لو استمر الوضع على حاله. هل لاحظتم كيف أن العراق صاحب الميزانية الضخمة لم يستطع أن يؤمن أبسط الحاجيات لشعبه بسبب عدم الاستقرار الأمني والسياسي الناتج عن تحكم فئة بفئة؟ فكيف سيكون الوضع في سوريا إذا ما سار على النهج العراقي الانتقامي الاستئصالي يا ترى؟
قد يقول البعض إن الوضع في سوريا مختلف عن وضع العراق، ففي العراق تم إسقاط النظام بواسطة قوة خارجية، ولم تكن ثورة على النظام، كما هو الحال في سوريا. وهذا صحيح.
لكن الثورة لا يمكن أن تنجح، في ما لو اتبعت النموذج العراقي في الإقصاء والاستئصال، فباستثناء الذين تلطخت اياديهم بدماء السوريين، فإن كل فئات الشعب السوري لها كامل الحق في بناء الدولة الجديدة، بعيداً عن الإقصاء والإبعاد والانتقام. وليتنا نتعلم من تجارب أمريكا اللاتينية التي تعالت على جراحها وكوارث وجرائم العسكر، وأعادت اللحمة إلى أوطانها بسواعد كل أبنائها على مختلف مشاربهم وانتماءاتهم.
باختصار: إذا لم يخرج كل السوريين من المحنة الحالية منتصرين، على مبدأ كسنجر الشهير، فليبشروا بأن تطول محنتهم، نظاماً ومعارضة وشعباً، لعقود واجيال، هذا طبعاً إذا بقيت هناك دولة اسمها سوريا.
‘ اعلامي وكاتب من سورية
[email protected]
ثلاث كلمات تغني عن الف مقال حول هذا الموضوع المهم ليت المنتصرون عملوا بها واقتدوا بقائلها ولاتحتاج لشرح لانه لايكاد مسلم الاويعرف متى ولمن قيلت وماحدث قبلها وكيف صلح حال الامه بعدها لن اطيل عليكم والثلاث الكلمات هي (اذهبوا—فاانتم—الطلقاء) تخيلو لو حكمت هذه الثلاث الكلمات في العراق وليبيا كمثال من الاف اومئات الامثله هل وصل الوضع في هذين البلدين الى هذا السؤ
تربت يداك و عاشت على هذا المقال السابر والشامل لواقع حال العراق و سوريا في هذا الزمان الصعب.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
كلام جميل ومقال موفق ومثال صحيح …. بارك الله فيك وشكرا لك .
انا قرات مقالك كاملا واردت ان اضيف وجهة نظري ،،،، ولكن كعادتي دائما في الردود والتعليقات لا احب التكرار واعادة الكلام ولذلك تجدني دائما اقرا واتابع التعليقات بنفس الشغف والتركيز الذي اقرا فيه المقال …. وهذا طبعا من فوائد وايجابيات الصحافة الالكترونية التي تسمح لك بمتابعة ردود الافعال على كل مقال.
ولكن وجدتني والله متفاجئا مصدوما من بعض الاخوة الذين يبدو انهم ما فهمو اصلا غاية وهدف المقال وذلك لانهم يرون الموقف من زاويتهم وحسب وجهة نظرهم فقط ، غير محاولين ابدا تفهم الطرف الثاني والتحاور معه.
فقول الرسول (صلى الله عليه وسلم) لاهل مكة عند فتحها : اذهبوا فانتم الطلقاء ،
هذا هو المقصود من المقال لا غير . حتى ان الدكتور القاسم لم يسمي المنتصر اصلا وكان كلامه موجها لكل الاطراف المتنازعة في سوريا.
وذلك رغبتا في تفادي الاخطاء المتكررة عبر التاريخ القريب والبعيد لانتقام المنتصر وبطشه بالخاسر ،،، ومحاولة توضيح ان ذلك المنهج لا يبني دوله ولا يجلب امنا واستقرارا لكل منتهجيه.
فقول الرسول صلى الله عليه وسلم لاهل مكة مقولته الشهيرة والتي يحفظها عبر التاريخ الكبير والصغير ،، انما قالها لهم بعد الفتح والنصر للمسلمين وبعد المعارك والقتال مع المشركين وبعد ان خسر الطرفان ما خسروا من احبابهم واهليهم واصحابهم واقاربهم وبعد ان هجر المسلمون المستضعفون في بادئ الامر من ديارهم واوذوا وقتلوا، وبعد ان خسر سادة قريش مكانتهم وسلطتهم واموالهم وكل ذلك مما هو معروف لديكم مما كان في تلك الايام . (وهو الواقع والحاصل في هذه الايام)
فهل المقارنه بعيدة كل ذلك البعد الذي يتصوره اولائك المؤيدين لافعال النظام ، وهل ان قسوة الحال وما وصل اليه من تدمير وقتل وتخريب لهذا البلد العزيز يدفعنا للقول انه لم يكن من داعي اصلا لهذه الثورة وان كل من ساندها او شجع عليها بحال من الاحوال هو مجرم وخائن وعميل . ليس هكذا تقاس الامور .
فصحيح انه في غالب الامر (الا من رحم ربي) وحسب التجارب عبر التاريخ وخصوصا في التاريخ الحديث انه لم ياتي شخص احسن من الذي القبله وانه غالبا ما يقع ويكرر نفس الاخطاء التي وقع بها سلفه ولكن ربما بطريقة مختلفة بعض الشئ ، ولكن هذا لا يعني ان نسكت عن سيئات ذلك السابق. وان لا نحاول ونسعى الى تغييره للاحسن ، فنحن علينا ان نسعى لذلك التغيير ما استطعنا الى ذلك سبيلا ، ولله الامر من قبل ومن بعد وهو العزيز الحكيم.
فتاكيد هؤلاء على ان المقال متاخر وانه تناقض في الافعال والاقوال انما هو اساسا لسوء فهم المقال والغاية منه، وان الامثال تضرب ولا تقاس ،فليس المقارنة بين العراق وسوريا تستوجب التشابه في كل شئ ، وانما هي مقارنة للموقف بصورة عامة مع فارق التشبيه طبعا.
قال تعالى : (ذلك مثل القوم الذين كذبوا بآياتنا فاقصص القصص لعلهم يتفكرون)
اسال الله جل وعلى ان يحفظ اهلنا في سوريا الحبيبة وان يحقن دمائهم ودماء المسلمين عامة في كل مكان وان يجنبنا واياهم الفتن ما ظهر منها وما بطن انه ولي ذلك والقادر عليه ، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه اجمعين ، وعذرا على الاطالة .