جعلت جائحة كورونا العالم بأسره أمام ضرورة إعادة النظر في كل رؤاه وأنظمته الكبرى، ومساءلتها وإعادة التفكير في جدواها في مواجهة أزمات إنسانية كهذه تطال العالم ككل دونما أي استثناء. لقد جعلت هذه الكارثة الوبائية الكل ينعزل داخل الدور، وأن تقفل الأسر أبواب منازلها للنجاة. فـ «من دخل داره فهو آمن».
استرجاع الأنفاس
لقد أصبح فعل الخروج من المنزل محفوفا بالمخاطرة، تحتاج معه لحسابات دقيقة من الوقاية والآمان. فالقاتل الخفي يتربص بالناس في كل مكان. كائن خفي يهدد حياتنا واستقرارنا العالمي، مبينا هشاشة الأنظمة العالمية الوقائية، وأبرز إلى جانب، جشع وأنانية معظم الناس، فشل دول كبرى في تدبير الفاجعة، التي لم تستثن أحدا. فالكل سواسية أمام فيروس كورونا، وفي الوقت نفسه أبرزت هذه الفاجعة ضعف الإنسان الباحث عن الكمال في كل أبحاثه وتكنولوجيته المتعالية، أمام فتك الطبيعة، والبيئة التي أظهرت جبروتها وقدرتها على الانفلات من أي هيمنة ممكنة، بل إن العلماء اليوم يتحدثون عن أن البيئة تتعافى، والطبيعة تسترجع أنفاسها النقية، كأن الأرض تعزلنا لتجدد خلاياها وتتنفس من جديد.
الجائحة والتغيير
قد يكون التساؤل الذي يجول في خاطر العديدين اليوم في العالم بأسره ــ إلى جانب السؤال عن وقت انتهاء الجائحة ــ «كيف سيكون العالم في ما بعد التغلب على فيروس كورونا؟» وهل سيبقى هذا العالم على حاله كما عرفناه؟ وإن سيحدث أي تغيير ممكن فعلى أي صعيد؟ لسنا هنا أمام أي قراءة مستقبلية، لكن مجرد مجموعة من الأسئلة المشروعة، والمنفتحة على احتمالات متعددة، في محاولة فهم الوضع وتصور المستقبل الذي تسير إليه الإنسانية.
وبعيداً عن نظريات المؤامرة وغيرها من النظريات الهجومية، التي تحمل أفكار «شَيْطنة الآخر»، نبحث عن تصور للعالم المحتمل ما بعد القضاء على هذا الفيروس القاتل. قد تكون هذه الجائحة هي الأكبر عالميا عبر التاريخ البشري، من حيث الانتشار، بل لعلها أول مصاب إنساني يجعل العالم يتأهب كاملا ويعمل في الآن نفسه – معاً- للقضاء عليها، في تسارع وتصارع مع الزمن، لهذا فالإجراءات المتخذة هذه الأسابيع تجعل العالم يتحرك نحو التغيّر في مختلف النواحي في السنوات المقبلة. وليس فقط على مستوى النظام الصحي، بل على المستوى الاقتصادي، هذا الأخير الذي يمس المستوى السياسي، إن لم يكن هو محركه وعموده الفقري، وفي المجرى ذاته سيطال التغير المجال الثقافي، الذي يحرك التفكير الجمعي والإنساني، ويؤثر في رؤيتنا للعالم. ستظل الإنسانية ـ لا محالة- قائمة وستستمر الحياة، بعدما ستهدأ هذه العاصفة العالمية، لكن على أي وجه؟
الفاجعة والطمأنينة
يقول موريس بلانشو، في كتابه «كتابة الفاجعة»، بأن «الفاجعة تُعنى بكل شيء». أتصير هذه الجائحة فاجعة؟ إنها كذلك من حيث إنها أخضعت الإنسانية جمعاء إلى مساءلة ذاتها وهي ترى كل هذه الأنظمة، التي بنتها تتهدم وتنحصر أمامها. إن الفاجعة لا تستثني أحدا وتجعل من الموت عبثا، لكنها تجعلنا نعودُ إلى ضرورة مساءلة الحياة، حياتنا هنا والآن، حياتنا تجاه ذواتنا والآخرين. ونحن داخل هذه العزلة، «عزلة لا عزاء لها.. تلك هي الفاجعة التي تدنو رغم ثباتها»، كما يقول بلانشو، نغدو أكثر تشبثا واهتماما بالحياة، التي نطل عليها من نوافذنا، ونرقب الوقت وهو يمضي في الخارج بعيدا عنا، نحن المنعزلون إلى الداخل، فتشتعل نيران الرغبة في البقاء فينا، وهذا هو مَدْعاة كل تغيير ممكن في المقبل القريب أو البعيد.
اليوم، بقدر ما نبحث ونحن في عزلتنا عن الطمأنينة ــ بمفهوم أبيقور ــ نجد أنفسنا إزاء ضرورة البحث عن طريقة للانكفاء الذاتي، عن العيش بالمستطاع، العيش بالتضامن والتكافل، قد نميل ونحن في عزلتنا هذه إلى أن نغدو «أبيقوريين»، أن نتخلص من القلق والجزع. نعيش بما نحن بحاجة إليه فعلاً. هذا ما تعلمنا إياه هذه الفاجعة.
عالم المستعجلات
نغوص في عالم «المستعجل»، بل إن هذه الفاجعة جعلتنا نرتقب ونرقب المستعجل في كل لحظة: عدد الوفيات، عدد الضحايا، عدد المصابين، أرقام الإحصائيات… بل إن العالم ليسكن اليوم في «المستعجلات»، العالم يتسارع يوما بعد يوم، ولم تعد القرارات تأخذ سنوات أو أياما أو أشهرا، بل ساعات، تحركها «المستعجلات». يحركها «الظرف الطارئ»، لا حركة الظروف وتغير التاريخ البطيء. فالإنسانية كلما وجدت نفسها إزاء الفاجعة، تحركت بسرعة في البحث اللامنقطع للخروج منها. ولنا مثال في الحرب العالمية وباقي الجائحات العالمية التي مرّت على العالم من قرن إلى قرن، بل إن هذه الفاجعة الجديدة (كورونا)، جعلت دولا تتضامن وتعمل معا في تجارب اجتماعية كبرى، تتجاوز حتى العولمة عينها التي قد تجد نفسها مجبرة على تغيير مفهومها، إن لم تكن قد سقطت بالفعل. لقد غدا العمل عن بعد والدراسة عن بعد، المفهومين اللذين أكثر تداولا الآن، بل قد يغدوان أهم المفاهيم التربوية والاقتصادية المستقبلية. وإن كان هذا الأخير سوف يتردد بين أمرين مرين، المراقبة المطلقة والعزل، ولكن يجب أن لا ننسى أن العالم بأسره يحوّل وجهته نحو قِبلة «التضامن العالمي»، الذي لأول مرة تجد الإنسانية نفسها أمام ضرورة إعادة التفكير في هذا الفعل، الذي سيغير المستقبل. بعدما أبانت العولمة جشعا رأسماليا وأبانت الاشتراكية سيطرة أخلاقية أدت إلى انطلاق شرارات الفاجعة.
المراقبة والمعاقبة
لكن، ألا تعطي هذه الفاجعة للدولة الحق والمبرر في مراقبة شعوبها؟ كل المراقبة، باسم أمانهم. إذ يقول ميشيل فوكو في المراقبة والمعاقبة .. «المدينة المصابة بالطاعون، تبدو مشبوكة بالتراتبية الكاملة، بالمراقبة،، وبالنظرة وبالكتابة (التسجيل)، وهي، أي المدينة، مجمدة في أُسار وظيفة سلطة توسعية، تطال بشكل متميز كل الأجسام الفردية ـ إنها طوباوية المدينة المحكومة بشكل كامل، الطاعون إنه الاختيار الذي من خلاله يمكن، بشكل مثالي، تحديد ممارسة السلطة الانضباطية. والحكام لكي يشاهدوا كيفية عمل الانضباطات الكاملة فإنهم يحلمون بحالة الطاعون». الآن دول كثيرة، فرضت حظر التجوال، والحالة الصحية، بالموازاة، فرضت عقوبات مالية وسجنية على من يخرقون منع التجوال. وتساهم التكنولوجيا بشكل فعال في هذه المراقبة، من حيث إنها وسائل مراقبة معاصرة. إذ استعملت الصين في محاربتها للوباء الحالي، الهواتف الذكية لمراقبة أصحابها. ومراقبة حرارتهم وصحتهم، بل استعانت بكاميرات المراقبة في الشوارع، المزودة بتقنية التعرف بسهولة على الوجوه، وبالتالي التعرف بسرعة على كل من خرق الحظر الصحي ومنع التجوال. ما يجعل الدولة تتحكم بشكل أكبر في شعبها. فالناس تتحرك بآلات مراقبتها، بالأعين التي تراها في كل لحظة؛ إنها تراقب نفسها، في ما يسميه فوكو سجن «البانوبتيكون»، حيث يراقب المواطنون بعضهم بعضا، وهم خاضعون للتجسس عن بعد، لكن المراقبة هنا أيضا ذاتية. إننا خاضعون لشاشات الرصد، كما هو الحال في «1984» لجورج أورويل، إذ إن المواطنين مجبرون على فتح تلك الشاشات، التي تظل تراقبهم بلا انقطاع، حتى في غرف نومهم.
أهذا هو النظام العالمي المقبل؟ أهذا هو التغيير المنشود في عصر ما بعد كورونا؟ ليست الصين لوحدها التي استعانت بهذه التكنولوجيا، بل دول آسيوية أخرى، بحجة السيطرة على الجائحة عبر ضبط تنقل المواطنين، مستعينين بـ»الظرفية المستعجلة». لقد فكرت دول عديدة في استبدال بطاقات الهوية بشرائح رقمية تحت الجلد، تحمل كل معلومات المواطن. كل ذلك باسم الفاجعة والقضاء على الجائحة، تجد الدول مبررات للتحكم ومراقبة مواطنيها، مراقبة «تحت- جلدية». إذ نزرع منذ طفولتنا آلة مراقبتنا. والآن هناك تطبيقات مستحدثة تسمح بقياس درجة حرارة الجسد والضغط أسفل الجلد، عند كل نقرة بأصبعنا على شاشة الهواتف الذكية، تطبيقات قد تُزرع بلا أي إذن أو علم منا. فإنسان «الأصبع الصغير» (بلغة مشيل سير) غدا بالفعل يسكن في أصبعه الذي يرقن به ويتفاعل به ويحرك به الشاشات الصغرى.
التضامن العالمي
إذن، هل هذا هو التغيير المنشود؟ لا إجابة ممكنة لهذا السؤال، لكن كل التغيرات ممكنة في «عصر ما بعد كورونا». فباسم «الطارئ والمستعجل» والأمن والآمان تخلق الدول أنظمة جد متشددة وتخلق آليات المراقبة أكثر تطورا تجد لنفسها مبررات باسم الأمن المجتمعي. ورغم أن الأنظمة الكبرى الحالية وجدت نفسها في مآزق أخلاقية، لكن هذا لا يعني سقوطها وانهيارها، بقدر ما قد يساهم في تقويتها وهي تجد في الفاجعة مبررات لفعل المراقبة، وحتى المعاقبة باسم السلم والأمان الاجتماعي.
لقد أدرك العالم خطورة المستقبل المجهول، الذي ينتظره، خطورة اللامتوقع واللامحتمل، والحال هنا وباء كورونا، الذي قد يضعنا أمام ضرورة التغيير الجذري. وبالتالي، فأي تغيير مقبل سيكون خاضعا لسؤال «هل سنتبنى التفرقة أو التضامن العالمي؟»، فاختيارنا للتفرقة قد يكون علاجا مؤقتا للدول المجروحة، لكن تبعاته كبرى على المستوى العالمي، وفي الوقت نفسه، سنفقد ملكة التضامن المغروسة في أعماق الغريزة الإنسانية، التي تسعى إلى البقاء والحياة. فاختيارنا للتضامن هو الحل، بالإضافة لإعادة التفكير في وسائل للمراقبة تراعي الجانب الحميمي الذي بدأنا نفقده، بفعل فقدان الخصوصية لصالح الفضاء العام، ما يخلق أنظمة شمولية جديدة، تهدد الديمقراطية والسلم العامين، وتعدم نهائيا المجال الخاص. هذا الاختيار سيجعلنا ننتصر على وباء كورونا، وكل الأوبئة المستقبلة، وكل الصعاب العالمية التي يخبئها لنا المستقبل. إن أي نظام لا يراعي مفهوم التضامن هو نظام يقود الإنسانية صوب الانهيار.
٭ شاعر وباحث مغربي
مقال رائع جدا جدا جدا شكرا لصاحبه ولكم