عمان – «القدس العربي»: يفترض محللون بالجملة أن زيارة بنيامين نتنياهو واستقباله في عمان قبل الأسبوع الماضي شكلت نقطة حرجة بالنسبة للنخب المتحفظة على ما يسمى بـ “مسار التكيف”، لا بل شكلت -برأي السياسيين- نقطة تراجع عن مسار الاشتباك الذي توقع الرأي العام منذ أعلنت القيادة الأردنية تحفظاتها واستعدادها للاشتباك بخصوص ما وصفه رئيس الديوان الملكي الأسبق الدكتور جواد العناني بثلاثة ملفات، يبدو أن الأردن مستعد للاشتباك من أجلها إذا ما تجاوزتها حكومة اليمين الإسرائيلي.
وقد تحدث آنذاك عن ملف القدس والوصاية الهاشمية الأردنية، وعن الترانسفير وسيناريو الوطن البديل باعتبارها المحرمات، وثلاثية الخطوط الحمراء التي ألمح لها بوضوح وتحدث عنها الملك عبد الله الثاني في حديث شهير لمحطة “سي إن إن”.
لاحقاً، شرح العناني بحضور “القدس العربي” أن هذه النقاط الثلاث تشكل الثوابت التي تدفع الأردن للاشتباك؛ بمعنى المواجهة، بصرف النظر عن طبيعتها. ومن هذه القراءات تموقع كثيرون، سواء في أطياف المعارضة أو حتى في الحراك الشعبي وفي الأطياف المستقلة، حول الموقف الرسمي وصدرت بيانات وأدبيات تدعم الموقف الرسمي الأردني باعتباره يمثل هذه المرة في مواجهة حكومة اليمين الإسرائيلي المتشددة جداً والأصولية الدينية، على أساس عدم وجود مجال حيوي للمزاودة على الموقف الرسمي في هذا السياق.
حالة سياسية
كل ذلك وقبل استقبال نتنياهو في عمان، تسبب بإنتاج حالة سياسية وذهنية واجتماعية جديدة في الشارع الأردني سرعان ما انتقلت اليوم إلى التشكيك؛ لأن خطوة استقبال نتنياهو أعقبها تصريح غريب ومثير لوزارة الخارجية الأردنية أدانت فيه ولأول مرة تقريباً وبلغة واضحة وصارمة عملية القدس الشهيرة في بيت حنينا. وهي العملية التي احتفى بها الشعب الأردني كما فعل الفلسطيني. الأردنيون في محيط مقر السفارة الإسرائيلية بضاحية الرابية غربي العاصمة عمان تقصدوا حضورهم في الشوارع وتوزيع الحلويات.
في الأثناء، صدر بيان باسم 219 مثقفاً وسياسياً من الشخصيات الأردنية الأساسية والفاعلة، يمتدح الموقف الرسمي عملياً ويعلن عن الرغبة في مساندته شعبياً ويحذر في الوقت نفسه من إنكار المخاطر. ويعتبر سيناريوهات الترانسفير والوطن البديل والخيار الأردني والتركيز على مشاريع التنمية الاقتصادية الإقليمية كلها متساوية في العداء لمصالح الشعب الأردني. وصدرت حالة تموقع تقترب إلى حد كبير من الموقف الرسمي المعلن أيضاً عند التيار المعارض الأبرز في البلاد، وهو التيار الإسلامي، حتى إن قيادات في الحركة الإسلامية سارعت لعقد اجتماعات تشاورية تحت عنوان تثبيت الموقف الرسمي عند حدود الاشتباك مع العدو الإسرائيلي، والاستثمار سياسياً ووطنياً وداخلياً في لحظة تعارض الأجندات والاتجاهات الجذرية مع حكومة اليمين الإسرائيلي. وكانت الحالة أشبه إلى حد ما بحالة الشارع الأردني مع حكومته في حرب الخليج الأولى، بمعنى توافقات ومساحات يتم التوافق عليها ولا تناقض فيها ورغبة عارمة في التماهي مع الموقف الرسمي الذي أعلن من القصر الملكي بصفة خاصة.
ووصل التباهي إلى حد الدعوة إلى الوقوف خلف القيادة ومساندتها، خصوصاً أن مجلس النواب في ذلك الوقت كان بصدد إصدار بيانات تؤكد ضرورة الوقوف مع المؤسسات الوطنية ومؤسسات الدولة الأردنية في سياق الاشتباك الذي اعتبره السياسي الأردني البارز الدكتور ممدوح العبادي حتمياً مع الحكومة اليمينية المتطرفة في الجانب الإسرائيلي.
حتى محطة الاستشعار في جماعة الإخوان المسلمين والحركة الإسلامية ذهبت باتجاه التحضير لخطة تنظيمية وسياسية شاملة تدعم الموقف الرسمي، لا بل وتحفزه وتشجعه وتظهر له بأن الحسابات التي يختلف معها الإسلاميون هنا وغيرهم مع الدولة والنظام بخصوص بعض القضايا والملفات المحلية يمكن مغادرتها في أي لحظة يشتبك فيها الوطن والدولة مع أجندة اليمين الإسرائيلي.
كل ذلك يعاني الآن -في رأي سياسيين بارزين- من حالة “التبخر”؛ لأن مسار التكيف برأي العناني، ينبغي أن يتنقل به الأردن بحذر شديد، ولأن زيارة نتنياهو أخفقت في تحقيق أي مكاسب حقيقية يمكن للحكومة أن تعرضها على الرأي العام، لا على صعيد عملية السلام ولا على صعيد حقوق الشعب الفلسطيني ولا حتى -وهذا الأهم- على صعيد الاتصالات والعلاقات الثنائية، خلافاً لتصريح لفظي أثناء الاجتماع من جهة نتنياهو يعبر فيه عن التزام لا يستطيع الوفاء به بخصوص الوصاية وملف الـ “ستاتس كو” الخاص بالرعاية الأردنية للمسجد الأقصى. دون ذلك بطبيعة الحال، لم تتوفر أي آفاق تفيد بأن زيارة نتنياهو إلى عمان كانت منتجة بأي شكل من الأشكال، وسرعان ما أخرجها عن سياقها وزير الأمن القومي الإسرائيلي المتطرف إيتمار بني غفير عندما صرح بأنه سيصعد مجدداً “مع احترامه للأردن” إلى الهيكل، قائلاً بأن إسرائيل لا يملي عليها أحد وصاية من أي نوع.
وهنا بعد سلسلة أحداث دراماتيكية، بدا أن نقطة التحول الأساسية في مسار التكيف الأردني عبر العمل من أجل توازنات في موقف الدولة باتجاه مضاد بالتأكيد للموقف الشعبي.
موسم التكيف
موسم التكيف انطلق من استقبال نتنياهو، ولاحقاً تطور التكيف بطريقة حرجة لا بل غير مفهومة على مستوى وزارة الخارجية وهي توجه إدانة مباشرة لعملية القدس بعد ساعات من إدانتها لاقتحام الجيش الإسرائيلي مخيم جنين، بحيث تساوت على الأقل في معايير بيانات الخارجية الأردنية حالات التقمص ما بين الضحية والجلاد،
وبحيث اضطر مراقبون كثر وسياسيون وإعلاميون لتذكير وزارة خارجية بلادهم بأن عملية القدس عملية مقاومة وليست عملية اعتداء عنيف أو إرهابي على مكان عبادة يهودي.
هذا الاسترسال في التكيف أنتج مساحات من القلق وسط المجتمع وفي أوساط النخبة، لا بل دفع “الإخوان المسلمين” عملياً نحو “خطوة تنظيم” في الرجوع إلى الوراء واقتراح عدم الاستعجال وانتظار الأيام والأسابيع المقبلة لترسيم وفهم وتشخيص حقيقة الموقف الرسمي. وتلك المراجعة تجري الآن على أكثر من صعيد بعدما فاتت على كثيرين بسبب زيارة نتنياهو ثم تصريح وزارة الخارجية فرصة الاعتقاد بأن تجنب خسائر وشرور مسار التكيف كان ممكناً عبر التعبير عن دعم الموقف الرسمي.
إسرائيل تسعد بترويج الأردن نفسها دولياً كراعية لعرب فلسطين 1948 والضفة وغزة وترويج الأردن كدولة ترحب بدخول 3 مليون من 4 دول جوار عبر عقدين وتقدم خدمات لهم مجاناً وتشغلهم بدل مواطنيها، فإسرائيل تريد تهجير فلسطينين للأردن لحل مشكلتها الديمغرافية وهذا الترويج للأردن ستعتبره إسرائيل وداعميها مكمل لخططهم بالتهجير، وبالتالي على الأردن من الآن فصاعداً انتهاج سياسة طاردة ترفض استقبال من يحاول عبور حدودها وترفض تقديم خدمات مجانية لهم وتشغيلهم وترفض مساعدات دول أخرى لهم لا تشمل قبول تسفيرهم للدول المانحة.