في حزيران/يونيو من العام الحالي وصفت مديرة صندوق النقد الدولي سياسة الصرف الأجنبي في مصر بأنها مثل «سكب الماء في وعاء مثقوب»! هذا التعبير ما يزال صالحا لوصف حالة السياسة الاقتصادية ككل، وليس سياسة سعر الصرف فقط. ولا يبدو أن الحكومة في القاهرة جادة في إدخال أي إصلاحات هيكلية لسد الثقوب الكثيرة، التي تتسع يوما بعد يوم. ما يعنيها فقط هو إدارة الاقتصاد باليومية «يوما بيوم» دون وجود قيادة حقيقية لعملية الإصلاح، التي باتت تمثل مطلبا عاجلا للمستثمرين المحليين والأجانب ومؤسسات التمويل الدولية. الحكومة غير معنية بانكماش القطاع الاقتصادي غير النفطي، وغير معنية بهبوط الصادرات نتيجة عدم توفر الخامات وقطع الغيار ومستلزمات الإنتاج وشحة التمويل الأجنبي والارتفاع الصارخ في تكلفة التمويل المحلي. المدهش أن تكلفة هذه التضحيات التي يتحملها الاقتصاد الحقيقي تتحول إلى مكاسب وتدفقات مالية في خزائن مؤسسات اقتصادية تنظمها قوانين وأعراف خاصة، لا علاقة لها بالقانون العام. المؤسسات التي تحتكر تنفيذ مشروعات مركزية يتم إعدادها خارج إطار الخطة العامة للدولة، وتقرر وحدها تكلفتها، وتحصل وحدها على امتياز التنفيذ، وتتولى بنفسها اختيار المقاولين المساعدين بطريقتها، وتحصل على قروض بضمان الدولة، ولا تتحمل التزاما بسدادها، ولا تخضع حساباتها لرقابة الجهاز المركزي للمحاسبات، ولا يعرف أحد هيكل وظائفها الداخلية، أصبحت الآن في مرمى انتقادات واسعة النطاق داخل مجتمع الأعمال والمستثمرين والمؤسسات الدولية.
ويعتقد المسؤولون في صندوق النقد الدولي إنه لا مجال لإطلاق الطاقات الحقيقية للاقتصاد المصري، بدون انسحاب الدولة من الأنشطة التي ليس القطاع العام أفضل من يضطلع بها، بما يعزز ازدهار القطاع الخاص، وهذا أمر أساسي جداً. المشكلة في مصر أكبر من مجرد ضرورة انسحاب الدولة من الاقتصاد، لأن من يدير الاقتصاد حاليا هم مجموعة من أصحاب الرتب العسكرية، ليس الاقتصاد مهنتهم، وقد جربت مصر إدارة العسكريين للاقتصاد في ستينات القرن الماضي، فكانت النتيجة هي انهيار الاقتصاد قبل حزيران/يونيو 1967 وانهيار الجيش معه. إن ما تمر به المنطقة، وما يمر به العالم يحتاج توظيف كافة الطاقات في مجالات نشاطها الرئيسية بدون تشتيت، لأن التحدي كبير جدا، والأخطار شديدة. إن إعادة الاعتبار للعسكرية المصرية، الذي يتم الآن من خلال تحديث التسليح في الأفرع المختلفة للقوات المسلحة هو خطوة كبيرة إلى الأمام، لتعويض التخلف والركود الذي ساد لعقود طويلة بعد عام 1979. كذلك فإن إعادة الاعتبار للعسكرية المصرية يستجيب بدرجة كبيرة لتحديات هائلة حول الحدود، برا وبحرا وجوا. ومع استمرار هذه التحديات فإن ضعف البنية الاقتصادية، يمثل خطرا داهما، يهدد القوة العسكرية والسياسة الخارجية على السواء. ومن ثم فإن إصلاح الإناء الاقتصادي المثقوب يمثل ضرورة أساسية لحماية القوة الوطنية.
صفقات التوسع الاقتصادي في مصر
على الرغم من كل التحفظات على سياسات صندوق النقد الدولي، فإن الحكومة المصرية أو ما يطلق عليه الآن في التقارير الرسمية «الدولة المصرية» يجب عليها أن تسمع النصيحة، حتى لو جاءت من مؤسسة مالية دولية غير صديقة. فما بالك وقد جاءت النصيحة من الصندوق الذي تعتبره مصر «شريكا في التنمية» جنبا إلى جنب مع البنك الدولي! ولا أظن أن «الدولة المصرية» تعتبر صندوق النقد الدولي مؤسسة مالية «غير صديقة» خصوصا وأن نصائح الصندوق تشكل أساسا للسياسات الاقتصادية التي تلتزم بها دول صديقة وشريكة لمصر مثل دول الخليج العربية، وعلى رأسها السعودية والإمارات وقطر. هذه الدول تتخذ الآن مواقف «متأنية» في شأن صفقات التوسع الاقتصادي في مصر. وعلى الرغم من تداول الكثير من الأخبار عن قرب إتمام صفقات كبيرة، فإننا نجد أن هذه الصفقات تتعثر. من تلك الصفقات على سبيل المثال مشروع صفقة بيع شركتين مملوكتين للجيش هما شركة «وطنية للوقود» وشركة «صافي للصناعات الغذائية». وربما تكون هناك أسباب كثيرة وراء تأخر بيع الشركتين، لكن بعض أهم الأسباب يتعلق بالسياسة الاقتصادية، بما في ذلك سياسة سعر الصرف، وطبيعة عملية اتخاذ القرار داخل الشركتين.
ومن الصعب جدا أن يدخل رأس المال الأجنبي للمشاركة في مشروع من باب دعم النظام السياسي أو إنقاذ الاقتصاد من عثرته. صحيح ان هذا يحدث لأسباب جيوسياسية في أي وقت، لكنه لا يمكن أن يصبح النمط الكامل للعلاقات الاقتصادية بين دولتين في كل الأوقات. هذا يصدق على حالة العلاقات بين الدول الخليجية ومصر. فقد أصبحت سوق الـ 120 مليون نسمة (105 ملايين مصري، و 10 ملايين سائح، و 5 ملايين من اللاجئين العرب والأفارقة) كعكة شهية المذاق للمستثمرين الخليجيين، الطامحين إلى توظيف فوائض رؤوس أموالهم وخبراتهم في فناء اقتصادي خلفي مربح ومضمون، خصوصا إذا كانت مصر تعاني من سيولة مالية. لكن أي مستثمر يضع دولارا واحدا في مشروع، باستثناء المشاريع الخيرية، ينتظر الحصول على عائد مرتفع على استثماره، وأن يتمكن من تحويل هذا العائد إلى بلده أو أي مكان في العالم، قد يرى فيه فرصة استثمارية جديدة. فإذا كانت السياسة النقدية المصرية تحرمه من ذلك، فإنه سيتراجع عن الاستثمار في مصر. ونظرا لأن مصر تمثل للمستثمرين الخليجيين فناء واسعا للاستثمار المربح، فإننا نتوقع استمرار الضغوط على «الدولة المصرية» من أجل الأخذ بنصائح صندوق النقد الدولي.
لعبة إدارة السياسة النقدية
في هذا السياق فإن لعبة إدارة السياسة النقدية في إناء مثقوب تتداخل فيها مصالح ثلاثة أطراف رئيسية، هي الدولة وصندوق النقد الدولي والمستثمرون. يحاول كل طرف من الأطراف الثلاثة أن يلعب بطريقته، وأن يفرض إرادته على الآخرين. ونحن نعرف ان اللعبة الاقتصادية الناجحة بشكل عام لا تدار بقواعد المعادلة الصفرية، وإنما بقواعد معادلة «أنت تربح وأنا أربح». صندوق النقد الدولي رفض إجراء المراجعة الأولى لقرض الـ 3 مليارات دولار في اذار/مارس الماضي، ومن المرجح حتى الآن أن المراجعة الثانية المقررة في منتصف الشهر الحالي لن تتم في موعدها. هذا يعني عمليا توقف قرض الصندوق. كما أنه يعني أن الصندوق يوجه رسالة قوية إلى كل الأطراف، تفيد بعدم الرضاء عن المسار الحالي للاقتصاد. المستثمرون من ناحيتهم يلعبون اللعبة بمرونة أكبر، هم من ناحية يناورون بالضغوط والتمهل في عقد الصفقات، لكنهم من ناحية أخرى يقدمون التسهيلات المالية اللازمة لمنع الاقتصاد من الانهيار، لأن هذا ليس في مصلحتهم. هذا يصدق على قرار المؤسسة الإسلامية لتمويل التجارة، بمضاعفة قيمة برنامجها المالي مع مصر إلى 6 مليارات دولار، لتسهيل تمويل احتياجات استيراد القمح والوقود. كما يصدق أيضا على قرار صندوق أبو ظبي بتقديم قرض بقيمة 400 مليون دولار على مدار 4 سنوات لتمويل واردات القمح. هذا القرض مشروط بأن شركات تابعة للصندوق هي التي ستدبر القمح الذي تحتاجه مصر. في كل من الحالتين، فنحن إزاء تمويل مشروط، قصير الأجل، مرتفع التكلفة، للحيلولة دون حدوث أزمة غذائية في بلد الـ120 مليون نسمة.
أما «الدولة المصرية» فإنها بدأت خلال الأشهر الأخيرة في فتح ممرات للاقتراض، لسد فجوات تمويلية، بعيدا عن صندوق النقد الدولي، خصوصا عن طريق استخدام أدوات مالية سهلة الترويج، مثل ما يسمى «سندات التمويل الخضراء» التي تستخدم في تمويل مشروعات صديقة للبيئة، منها مشاريع القطارات الكهربائية، وكذلك إصدار «الصكوك الإسلامية» الرائجة في الشرق الأوسط وآسيا. ورغم ارتفاع تكلفة الاقتراض التي وصلت إلى 11 في المئة، فإن وزارة المالية وهيئات اقتصادية مثل «السكك الحديد» و «مترو الأنفاق» استطاعت الحصول على تمويل من جهات عديدة، ساعد عليه وجود مصلحة مشتركة بين الممولين من أجل ضمان عدم توقف تنفيذ مشروعات بدأ العمل فيها بالفعل بواسطة شركات عالمية. وقد شارك في تقديم القروض أو ضمانها الهيئة الألمانية لضمان الصادرات، ووكالة المعونة الإيطالية، ووكالة التنمية الفرنسية، والبنك الدولي، والبنك الآسيوي للبنية التحتية، وصندوق النقد العربي، والبنك الأفريقي للتصدير والاستيراد، والبنك الأفريقي للتنمية وغيرها. وبلغت قيمة القروض والتسهيلات المالية التي حصلت عليها مصر أو اتفقت عليها خلال الأشهر الثمانية الأولى من العام الحالي أكثر من 8 مليارات دولار. ومع ذلك فإن هذه السيولة الدولارية سارت في قنوات مغلقة، مفصولة عن قنوات التدفقات المالية الحرة من القيود، إلى جهات محددة ومشاريع محددة. وبالتالي فإنها لم تترك أثرا إيجابيا مكافئا على احتياطي النقد الأجنبي لدى البنك المركزي، ولا على صافي الأصول الأجنبية لدى الجهاز المصرفي، ولا هي تركت أثرا إيجابيا على تمويل الاحتياجات الأساسية للصناعة من المواد الخام وقطع الغيار والمستلزمات الوسيطة للإنتاج، الأمر الذي أدى إلى تراجع صادرات القطاع الصناعي بشدة، والقطاع غير النفطي بشكل عام.
شحة الدولار
ومن ثم فإن السبب الرئيسي الذي يفسر «شحة الدولار» في السوق، ليس شحة الدولار، وإنما هو احتكار «الدولة المصرية» وأجهزتها الاقتصادية للدولار. الخطير في هذا الأمر أن القطاعات التي تتألم من شحة الدولار، هي التي تدفع ثمن زيادة عبء الاقتراض الخارجي ورد الديون إلى أصحابها. وتمثل الديون المحلية والخارجية المظهر الرئيسي لأزمة الإصلاح الهيكلي في مصر في الوقت الحاضر. فلا تعويم الجنيه سيحقق أي فوائد، ولا حصول الدولة على المزيد من القروض، وإنما ستتفاقم الأزمة يوما بعد يوم. وقد تجد مصر نفسها في مواجهة صدمة اقتصادية جديدة شديدة الأثر قبل نهاية العام الحالي. ومن مفارقات القدر أن وزير المالية كان قد توقع أن يبدأ تعافي الاقتصاد في الشهر الأخير من العام الحالي، وهو توقع يبدو الآن بعيد المنال تذروه الرياح.