الرباط ـ «القدس العربي»: يرى الخبير المغربي الدكتور إدريس لكريني أن مرحلة ما بعد «كورونا» ستكون لها تداعيات كبرى، على المستويات الاجتماعية والاقتصادية والنفسية، ويأمل أن تفرز الانتخابات المقبلة المرتقب إجراؤها في المغرب خلال النصف الثاني من 2021 تحالفاً حكومياً منسجماً وقوياً قادراً على التجاوب مع انتظارات المواطنين المغاربة.
مدير «مختبر الدراسات الدستورية وتحليل الأزمات والسياسات» في كلية الحقوق في جامعة القاضي عياض ـ مراكش، في حوار مع «القدس العربي» يدعو إلى إيجاد مداخل استراتيجية تسمح بالتعاطي بقدر كبير من الفعالية والنجاعة مع الإشكالات المطروحة في البلاد، بعيداً عن الخطابات الشعبوية والديماغوجية.
□ كيف ترى الكلفة الاجتماعية للقرارات الحكومية في المغرب خلال فترة جائحة كورونا؟
■ فعلاً، القرارات الحكومية المتعلقة بالجائحة كانت لها كلفتها، ليس في المغرب فحسب وإنما في جل بلدان العالم، لأن إغلاق المدارس والمحال التجارية وكثير من المنشآت الصناعية وإغلاق الحدود أمام السياحة وإيقاف حركات الطيران المدني… هذه القرارات الصارمة لا تحدث حتى في الحروب، حيث تظل المدارس والأسواق والمطاعم والفنادق مفتوحة غالباً، وكثير من الدول استخدمت تعبير «الحرب مع الجائحة» فقد توقفت مجموعة من النشاطات البشرية، مما أربك الحياة الاقتصادية.
المغرب لم يكن بمنأى عن هذه الضغوط والتدابير، بالنظر إلى خطورة الوضع المتعلق بغياب معلومات حول كيفية انتشار الوباء تحت ضغط التعليمات والنصائح والإرشادات الطبية التي كانت تدعو إلى عدم الاختلاط، وضرورة اتخاذ التدابير الاحترازية من أجل التحكم في الجائحة. ومن ثم، انكب المغرب، كغيره من البلدان، على التعاطي بجدية مع التداعيات الصحية لكورونا، من خلال تعزيز البنيات التحتية وتجنيد الأطقم الطبية وتوفير الأدوية والكمامات الواقية واستقبال المرضى وتقديم النصائح والتعليمات للمجتمع للحيلولة دون تمدد الوباء، والسعي للوصول إلى اللقاح وغيرها من الإجراءات الفعالة.
لكن التحدي الأكبر هو ما بعد كورونا، اليوم تحت هول تمدد الوباء والفواجع المتصلة بتسجيل العديد من الوفيات على امتداد مناطق مختلفة من المغرب، ينصب الاهتمام على الجوانب الصحية، لكن أعتقد أن ما بعد كورونا ستكون التداعيات أكبر، سواء تلك المتعلقة بالكلفة الاقتصادية أو الكلفة الاجتماعية أو الكلفة النفسية. اليوم، منظمة الأمم المتحدة بهيئاتها المتخصصة كمنظمة العمل واليونسيف وغيرها… والمنظمات الحقوقية الدولية تنبه إلى أن العالم مُطالَب بأن يتعامل مع مختلف التداعيات التي خلفها الوباء بكيفية صارمة، بعد القضاء على الجائحة من الناحية الصحية. وبالتالي، فالمغرب بدوره سيجد نفسه أمام تركة خطيرة تقتضي منه قدراً كبيراً من التعبئة وتجنيد الإمكانيات المتاحة لمواجهة هذه التداعيات، سواء تعلق بوضع المقاولات التي وصلت إلى حافة الانهيار أو التي انهارت تماماً، أو الوضع الخاص ببعض المناطق التي كانت تعتمد بالأساس على السياحة مورداً رئيسياً، أو المناطق الأخرى التي وصلت فيها نسبة البطالة إلى مستويات مقلقة.
لا ننسى أيضاً الجوانب المتعلقة بالتعليم، فكثيرة هي الجامعات المغربية والمؤسسات التعليمية التي حاولت أن تتجاوز إشكالات الاكتظاظ والتقارب الجسدي من خلال نهج ما يسمى «التعليم عن بعد» ولكن هذه التجربة إلى حدود الساعة لم تؤت النتائج المرجوة، ربما لعدم وجود استراتيجية واضحة قبل الجائحة، مما انعكس سلباً على مستوى مخرجات المؤسسات التعليمية واستمرار أداء وظائفها بصورة طبيعية. ولذلك، أؤكد أن ما بعد الوباء يطرح إشكالات ضخمة تقتضي اليقظة والاستفادة من التجارب الدولية على مستوى التعاطي بفعالية مع تلك التداعيات.
تحالف هش
□ تبدو الأغلبية الحكومية في المغرب غير متجانسة في ما بينها، وتصرّف ذلك عبر تصريحات وقرارات تبدو متناقضة، إلى ماذا يُعزَى ذلك؟
■ الأداء الحكومي يطبعه عدم الانسجام، ويبدو التحالف بين أحزاب الأغلبية هشّاً، ومردّه إلى الظروف التي نشأ فيها، وهي ظروف كانت متسارعة، بالنظر إلى الفشل الذي لقيه رئيس الحكومة السابق عبد الإله بن كيران في هذا الخصوص. في بداية الأمر لم يكن من السهل إرساء هذا التحالف، ورغم ذلك جرى تشكيل حكومة من خلال أحزاب ذات توجهات مختلفة. صحيح أنه كان يُفترض في هذا التنوع أن يخلق نوعاً من التوازن ومن التنافسية التي يمكن أن تنعكس على جودة الأداء الحكومي، لكن إلى حدود الساعة وُجّهت الكثير من الانتقادات للأداء الحكومي، لأن الحكومة لم تستثمر الإمكانات المتاحة في دستور 2011 على مستوى إرساء عمل حكومي في مستوى التطلعات ويدعم كسب الرهانات الاقتصادية والاجتماعية، خصوصاً والمغرب ما زال يعيش تحت ضغط جائحة استنزفته كثيراً، وتقتضي تجاوز الخلفيات الحزبية الضيقة والحسابات السياسوية، وفي مقابل ذلك استحضار المصالح العليا للبلد، وانتظارات المواطن على مستوى تحسين الأوضاع الاجتماعية والمادية ومكافحة الفساد وتعزيز البنيات التحتية وكسب رهانات الخيار الجهوي، إلى غير ذلك من الرهانات الكبرى.
هشاشة هذا التحالف مردها، أيضاً، إلى أن مجمل التحالفات التي حدثت في المغرب خلال السنوات الأخيرة هي تحالفات فوقية، بمعنى أنها لم تُناقَش على مستوى القواعد الحزبية، علماً أن الأحزاب نفسها تجد مشكلات كبيرة على مستوى تدبير شؤونها الداخلية، فهناك دائماً نوع من التوتر بين القواعد والقيادات، خصوصاً داخل بعض الأحزاب التي برز فيها إلى العلن هذا النقاش والصراع؛ مما جعلنا أمام تحالفات هشة وهجينة، ولم تكن في مستوى المقتضيات التي يتيحها الدستور ولا في مستوى مستوى انتظارات المواطن وتطلعاته نحو إرساء ثنائية وازنة في إطار الولوج إلى ما يسمى التناوب بين كتلتين قويتين، كل واحدة منهما ذات قدر عال من الانسجام.
الأمر لا يسائل الأغلبية الحكومية فقط، بل يسائل حتى المعارضة نفسها التي يبدو أنها لم تستثمر الإمكانات التي خولها لها دستور 2011، خصوصاً الفصل العاشر الذي أتاح لها إمكانات متعلقة بالتأثير في صناعة التشريع والسياسات العمومية والدبلوماسية الموازية وغيرها. واليوم، بعد التمرين الذي حدث خلال تجربتين حكوميتين في ظل مقتضيات الدستور الجديد، أعتقد أنه حان الوقت للاستفادة من الهفوات التي طبعت التجربتين الحكوميتين السابقتين، وحتى الولايتين التشريعيتين لإرساء عمل حكومي وعمل برلماني في مستوى تطلعات المواطن، وفي مستوى التحديات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية المطروحة.
□الحديث الآن يدور عن الانتخابات المقبلة في المغرب 2021 في نظرك ما المؤمل في هذه الانتخابات؟
■ الانتخابات المقبلة ستجري في ظرفية حساسة واستثنائية، متعلقة بالضغوط التي فرضتها الجائحة، وهي ظرفية تقتضي يقظة من لدن المواطن على مستوى تكثيف المشاركة للتحكم في العملية الانتخابية لتكون في مستوى التطلعات. هذا من جهة، ومن جهة أخرى ينبغي التصويت على الأحزاب التي أبانت عن جدية في التعامل مع الشأن العام، وعلى النخب التي بإمكانها أن تكون في مستوى التحديات المطروحة، فكسب رهانات ما بعد الجائحة لا يمكن أن تتأتى بحكومة هشة وغير منسجمة وبنخب تعوزها الكفاءة والخبرة.
أرى أن المرحلة المقبلة تقتضي أيضاً الحرص على أن تكون هذه المحطة محطة لإرساء تدبير استراتيجي يتماشى مع طبيعة الإشكالات المطروحة ومع انتظارات المواطن المختلفة، وأيضاً مع التحولات الدولية الكبرى التي فرضتها الجائحة على عدة مستويات اقتصادية وأمنية وسياسية واجتماعية.
يتعلق الأمر، إذن، بمحطة ينبغي أن تكون فيها الأحزاب السياسية في الموعد، من خلال برامج طموحة وتصورات واضحة حول المستقبل، ومن خلال طرح حلول للمعضلات القائمة، ومداخل استراتيجية تسمح بالتعاطي بقدر كبير من الفعالية والنجاعة مع الإشكالات، بعيداً عن الخطابات الشعبوية والديماغوجية. وهو ما يتطلب أيضاً مواطناً مسؤولاً يمنح صوته لمن يستحقه، مواطن يرفض كل مظاهر الفساد الانتخابي، كما يتطلب فاعلاً مدنياً يوجه المواطن لاختيار الأفضل، ويسهم في توسيع دائرة المشاركة السياسية. ويستدعي الأمر كذلك فاعلاً إدارياً ورسمياً يوفر الأجواء الكفيلة بمرور الانتخابات في ظروف تدعم وصول من يستحق إلى مراكز القرار، سواء في المؤسسات التشريعية أو المحلية.
أحزاب محصنة
□ما السبيل إلى تكريس ثقافة ديمقراطية في المغرب وإعادة ثقة الناخبين في العملية الانتخابية ككل وفي المؤسسات المنتخبة؟
ـ ترسيخ ثقافة ديمقراطية تدعم نوعاً من المصالحة بين المواطن من جهة وبين الشأن السياسي بشكل عام والانتخابي على وجه الخصوص يقتضي تحمل كل الفاعلين للمسؤولية في هذا الخصوص. صحيح أن الدولة تتحمل جزءاً من المسؤولية، من خلال توفير الأجواء السليمة لمرور الانتخابات في ظروف نزيهة وبناءة، والتعاطي بصرامة مع نخب بدا أنها تورطت في مظاهر الفساد، وكذلك من خلال السعي إلى تطبيق الإجراءات الدستورية ذات الصلة بالانتخابات ومرورها في أجواء سليمة. من ناحية أخرى، الأمر يسائل باقي الفاعلين، نتحدث هنا عن المجتمع المدني الذي أصبحت له بموجب الدستور إمكانيات جعلت منه عنصراً أساساً على المستويين الوطني والمحلي، في ما يتعلق بمواكبة السياسات العمومية وتأطير المواطنين والسعي إلى تعزيز المشاركة السياسية. كما يسائل الإعلام في ما يخص توعية المواطن وجعله في صلب العملية السياسية ومواكباً للتحولات والتطورات السياسية وفتح النقاشات في القضايا التي تهم المواطن، على المستويات السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي تعرف تطورات وتفرض تناولها من زوايا مختلفة وبوجهات نظر متعددة. ويسائل كذلك الأحزاب السياسية، باعتبارها حجر الزاوية في العملية الديمقراطية، ولا يمكن كسب هذه الأخيرة دون أحزاب قوية ومتينة ومحصنة من الداخل.