إدوارد سعيد وأوسلو… غياب المرجعية المعرفية عن القرار السياسي

■ قبل أسابيع حلت ذكرى وفاة الناقد الفلسطيني الأمريكي إدوارد سعيد، غير أن هذه الذكرى لا تأتي خالية من دلالات، ولاسيما في الظرف الراهن، حيث تعيد الأحداث الجارية إلى الأذهان وعي إدوارد سعيد ونقده لاتفاقية أوسلو، الذي بدا هجاء لنواتج العقل العربي، ولاسيما في مجال السياسة والتخطيط الاستراتيجي. فعلى الرغم من مرور أكثر من ربع قرن على انطلاق علمية السلام فإن أهـــدف هذا الفعل لم يتحقق، بل على العكس من ذلك فقـــد أثبت الزمن خطأ القرار الذي شرع فــيه العــــرب، ولاسيما القيادة الفلسطينية، التي أمست مسؤولـــة تاريخيا عن تدهور المشروع الوطني للتحـــرير، وتآكل المكتسبات الفلسطينية التي تحققت بفعل النضال، ولعــــل هذا يتطلب منا طرح إشكالية انفصام العلاقة بين القرار السياسي والمعرفة بوصفها مرجعية لأي فعل.
لقد كان إدوارد سعيد من أشد الرافضين والمنتقدين لاتفاقية أوسلو، وهذا يأتي نتيجة خبرة معرفية معمقة لآلية تفكير العقل الغربي، بالإضافة إلى أثر اللوبي الصهيوني على مركز القرار الأمريكي، ومن وهنا تبرز إشكالية المعرفة في التخطيط والتمثيل لإنتاج القرار في العالم العربي، حيث غالبا ما تحيّد الحكومات تلك العقول، ما يعني أن المرجعيات الثقافية في العالم العربي، كما قوى البحث لا تستثمر بالشكل الكافي.


في كتابه «أوسلو 2 سلام بلا أرض» منشورات دار المستقبل العربي 1995، يسعى إدوارد سعيد إلى قراءة مسالك العقل العربي السياسي، حيث يتوقف مطولاً لتحليل ذلك الفقر غير المعقول لأبجديات الإفادة من القيم المعرفية في اللعبة السياسية والمفاوضات، فيأتي بنماذج على بؤس العقل العربي، وتهافته في العمل السياسي، من حيث قلة الاستعانة بالأدوات العلمية الصحيحة في التفاوض أثناء عملية السلام، ما يتسبب بنتائج كارثية. فعلى سبيل المثال نجد أن كافة مآلات الوضع الفلسطيني المعاصر بكل ما يحمله من ظلال داكنة على مستقبل القدس بعد قدوم ترامب، ما هو إلا نتاج عملية أوسلو التي نتجت مفتقرة لأي دراسة أو بحث معرفي معمق، حيث لم تدرس عواقب هذا العملية التي مست مبادئ أساسية في القضية الفلسطينية، حيث سارع العرب مجتمعين للهرولة من أجل أن يحصلوا على مباركة أمريكا بوصفهم طالبين للسلام، في حين سعى الفلسطينيون إلى وهم السلطة، وظلال الدولة.

العرب لا يمتلكون قدرة على مخاطبة المجتمع الأمريكي، أو مؤسساته، ويتعلقون بسيد البيت الأبيض، وبناء عليه، فإنهم لا يحسنون مخاطبة هذا التركيب المعقد من التشكيل الدبلوماسي.

ولعل أهم ملاحظات سعيد حول نسق تعامل العرب مع الولايات المتحدة، يتحقق عدم فهمهم لطريقة عمل الإدارة الأمريكية ونظامها السياسي، الذي اختزل بعدد من الشخصيات، وكتل معينة، فالعرب لا يمتلكون قدرة على مخاطبة المجتمع الأمريكي، أو مؤسساته، ويتعلقون بسيد البيت الأبيض، وبناء عليه، فإنهم لا يحسنون مخاطبة هذا التركيب المعقد من التشكيل الدبلوماسي، يذكر سعيد بأن اللجان المختصة بأمريكا التي شكلتها منظمة التحرير لم تجتمع، في حين لم تكن تملك أي مصادر أو مرجعيات معرفية في عملها، فضلاً عن الضعف في اللغة الإنكليزية الذي ميّز أعضاءها.
يسعى سعيد بعبارة أخرى إلى رسم مخطط لآلية عمل العقل العربي، ولا سيما الدبلوماسي، حيث أن معظم العاملين في هذا المجال يكادون يفتقدون للحس النقدي، فليس ثمة في الدوائر السياسية العربية متخصصون في المعارف، وهذا يشمل المعرفة المعمقة باللغات الأخرى، بالإضافة إلى علم الاجتماع، والتاريخ والدراسات الأنثروبولوجية، علاوة على علماء متخصصين بالغرب وإسرائيل؛ أي أن فعلنا السياسي لا يتكئ على معطيات دقيقة، وبهذا فإننا نتعلق بظاهرة العمل السياسي، وليس بتلك الحاسة النقدية في فهم التوقعات والسبل التي يمكن أن يتخذها الطرف الآخر، فنقع في نسق التعميم والقولبة والتنميط تجاه الشعوب الأخرى، وتمثلاتها السياسية أو الحضارية، يشير سعيد إلى ندرة في الباحثين العرب الذين يتخصصون في دراسة الحضارات الغربية، فثمة عزوف عن دراسة الآخر، وبناء عليه فإن معرفتنا بالتمثيل المعرفي للشعوب الأخرى يبقى في حدوده الدنيا، إذ لا نتمكن من تطبيق نظرية المعرفة وعلاقتها البنيوية مع القوة أو السلطة، كما تعقيدات الكولونيالية المتغيرة باستمرار. يقول سعيد «إن المعرفة وحدها هي التي ستمكننا من الوقوف في وجه سيطرة إسرائيل والولايات المتحدة، لتقدم لنا بديلاً آخر غير الرفض الأعمى أو الخنوع، وهما شكلان من أشكال القصور، وعدم النضج، وإضافة إلى ذلك، فإن هذا الخنوع والرفض لا يتجاوزان أن يكونا استعادة للعلاقة الكولونيالية بين ثقافة قوية وأخرى ضعيفة».
ينتقد سعيد القيادات العربية من ناحية فهمها للحداثة، فالعرب ينظرون للحداثة بوصفها نوعاً من الاستهلاك، في حين يوجد قصور واضح في فهم الخبايا التي تؤطر العقل الصهيوني والغرب عامة، ولعل من السذاجة بمكان أن العرب ما زالوا يثقون بإسرائيل والغرب، بل ما زالوا مقتنعين بأنهم سوف يحققون يوما السلام، وهنا يشن سعيد نقداً قاسياً على القيادة الفلسطينية، فيمضي بتفكيك النمط السلوكي المرتبك للقيادة من حيث تعاملها مع أمريكا وإسرائيل. في عدة فصول من كتابه الذي باتت إعادة قراءته حاجة ملحة في ظل التحولات الجديدة التي تشهدها القضية الفلسطينية، فالكتاب في زمنه كان يمثل قراءة مستقبلية لما يجري الآن؛ وهنا نستخلص بأن السياسة التي لا تستند إلى عقول علمائها، أو إلى إطار مرجعي معرفي لن تتقدم أو تحقق أهدافها.
يمضي إدوارد سيعد في غير فصل من فصول كتابه إلى معالجة بعض الوقائع التاريخية، وتحليلها، خاصة تلك التي مع ذلك المزاج العربي الذي كان ينزع نحو الرغبة بتحقيق السلام، أو بعض المكتسبات الهامشية والضئيلة، في حين أنها لم تكن سوى وهم، ولكنه من جانب آخر يناقش العلاقة بين المثقفين وموقفهم من ذلك السلام الذي جليته القيادات والحكومات العربية، فقد وضع هذا الموقف المثقفين في معضلة فهم مطالبون بتحقيق بعض التوضيح في ما يتعلق بموقفهم الرافض للتطبيع مع إسرائيل، ما يجعلهم في صورة الرافضين للسلام، ومؤيدين للإرهاب، ولكنهم إذا ما أظهروا قبولاً لهذا السلام فإنهم سيظهرون كأدوات في أيدي حكوماتهم التي قادتهم إلى سلام – غير حقيقي- بدا أقرب إلى المهزلة، وبناء عليه فثمة موقف تاريخي سوف يبقى عالقاً في الأذهان لفترة طويلة.
اللافت في الوقت الذي كتب فيه إدوارد سعيد مقالاته التي أدرجها في كتابه، إشارته إلى أن الحماس الذي كان يحيط عملية السلام كان يتزامن مع أفعال أخرى من التنكيل والممارسات الإسرائيلية تجاه الشعب الفلسطيني، ومن ذلك ازدياد أعداد المستوطنين، وبناء المستعمرات، وغير ذلك، عليه فإن سلسلة التنازلات التي بدأها العرب لم يقابلها أي تنازل حقيقي من جهة إسرائيل. ولعل هذا التفريط قاد إلى نتائج تمثلت بالبدء في تفكيك القضية الفلسطينية عبر ما يطلق عليه بصفقة القرن، وهذا ما يعني أن العرب حينها لم يكونوا قادرين على فهم التكوينات المعرفية للسياسات التي تنتهجها إسرائيل والولايات المتحدة، وما زال الرهان على هذا السلام.

هل تغيرت إسرائيل؟ أو لا يزال هناك تعارض أساسي في المصالح بين العرب والإسرائيليين؟ وما الذي تعنيه إقامة سلام مع دولة تعلن باستمرار أنها دولة الشعب العبري حيثما كان وليست دولة مواطنيها وسكانها.

إن هذا القصور في العقل التحليلي للأداة السياسية ناجم عن جفاء تاريخي مارسته النظم السياسية تجاه العقول النقدية، فالسياسيون ينطلقون من تصوراتهم التي تأتي تبعاً لعلاقات تتسم بتقديم مصلحة السلطة، فضلاً عن نقاش فردي بين مجموعة من السياسيين ومستشاريهم، حيث لا تستند إلى مرجعية علمية حقيقية، وهذا يخالف بشكل صريح القرار الذي تقوم به المؤسسات أو القيادات في جميع أنحاء العالم، كونها ترهن قرارها بالنواتج البحثية، وباستفتاءات تشارك فيها الشعوب، لا عبر آراء المستشارين الذي يتقنون تزيين تلك القرارات الخاطئة، وغير المدروسة، أو عبر إضفاء الشرعية عليها من خلال ترويج بأن هذا القرار يمكن أن يجلب الازدهار أو تحقيق الهدف المنشود. ولعل واقعنا المعاصر يطلعنا على أن العرب كلما تحدثوا عن تقدم ما فإن النتائج غالباً ما تكون عكسية، ولعل هذا يجعلنا نسلم بمقولة الفيلسوف كارل بوير بأن الجهل الحقيقي ليس في غياب المعرفة إنما في رفض اكتسابها.
عطفاً على الفكرة السابقة يرى سعيد أن وسائل الإعلام العربية مارست نهجا مدروساً أو منظما بعناية للترويج لعملية السلام عبر نشر أخبار بأن أحوال الفلسطينيين أصبحت في تحسن بعد توقيع اتفاقية السلام، ولكن الحقيقة كانت عكس ذلك، وهذا ما يدفعنا إلى التسليم بأن العملية برمتها كانت تنهض على قرار سياسي واجب التحقق، بغض النظر عن فهم تعقيدات الموضوع. إن النقد الذي وجهه إدوارد سعيد للرئيس الراحل ياسر عرفات، ولاسيما نهج التفاوض بدا أقرب حينها إلى محاولة رسم صورة، أو التبشير بنتائج أدرك عرفات أبعادها لاحقاً، ما تسبب بانطلاق الانتفاضة الثانية، وما نتج من حصار للمقاطعة، وغير ذلك من الأحداث.
إن التضحية بمبادئ بدون تحقيق مكتسبات فعلية، بدا حينها مغامرة غير مدروسة، وهذا ما يعني أن تلك المقدمات أوصلتنا إلى نتائج كارثية، إذ يضيف سعيد في هذا السياق نقده للنخب السياسية التي تؤمن بأن إسرائيل دولة يمكن لها أن تتغير، حيث يقول عبارة تبدو شديدة الصلة بزمننا هذا، ولاسيما مع إقرار قانون القومية اليهودي: «هل تغيرت إسرائيل؟ أو لا يزال هناك تعارض أساسي في المصالح بين العرب والإسرائيليين؟ وما الذي تعنيه إقامة سلام مع دولة تعلن باستمرار أنها دولة الشعب العبري حيثما كان وليست دولة مواطنيها وسكانها «.
يلخص سعيد إشكالية هذا الواقع الذي وصلنا إليه أننا قبلنا أن نتخلى عن الماضي، في حين أن إسرائيل ما زالت تعنى بالماضي، ذلك الذي يميز بين الحق والحق، كما يصف سعيد نصاً للأديب عاموس عوز، حيث تتعالى الأكاذيب.
وختاماً فإن نقد سعيد بدا حينها ضربا من الكتابة عكس التيار، غير أن واقع الحال يبين لنا كم كانت رؤى المعرفة العميقة التي نتجت من لدن سعيد ـ لو استثمرت – قادرة على تجنيبنا قدرا كبيرا من الإحباط الذي نعيشه، بالتجاور مع قلة الحيلة التي أصبحت تكبلنا بعد أن فقدنا الكثير من أدوات القوة، ولعل هذا الحال ما هو إلا نتاج منهج السياسة العربية التي لم تتمكن من تكوين عقد حقيقي بين المعرفة أو المثقف والقرار.

٭ كاتب فلسطيني أردني

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية