«إرهابيس.. أرض الإثم والغفران» لعزِّ الدين ميهوبي، دائرة المكتبة الوطنية ـ المملكة الأردنية الهاشمية، رواية تثير الكثير من الإشكاليات، على مستويي الرؤية والبنية الروائية. في ما يأتي، نحاول أن نتبيَّن بعض هذه الإشكاليات، وأن نثير أسئلتها، ونجيب عنها.
جاء في نهاية هذه الرواية: «انتهى مؤتمر إرهابيس، رأينا كل شيء، أفقت مذعوراً، سألني ابني: ما معنى داعش، اللعنة على إرهابيس وأهلها».
تفيد هذه النهاية، أوَّلاً، بأنَّ الرواية حلم أفاق منه الراوي مذعوراً، وثانياً أنَّ فضاء عيشه في عالمه، هو فضاء خوف تشكِّله منظَّمة «داعش» الإرهابية، فابنه يسأل عن معناها، لكثرة حضورها في عالمه، وثالثاً أنَّ الحلم لم يؤدِّ وظيفته، وهو كما يقول علم النفس التحليلي، تحقيق رغبة مهيمنة على الذات في وعيها ولاوعيها، والخلاص من الخوف الذي كوَّنها رغبةً فاعلة.
الأسئلة التي تُطرح، هنا، كثيرة، منها: ما هو هذا الحلم/ الرواية؟ ولمَ لمْ يؤدِّ وظيفته؟ وما هو عالم هذا الحلم؟ وهل الخوف على الذات وعلى الابن، بوصفه الدالَّ على تجدُّد الحياة والمستقبل، هو الذي لم يجعل الحلم فاعلاً؟ ولمَ كان ذلك؟
تفيد قراءة الرواية أنّ الحلم غرائبي، وعالمه عالم غريب، ولشدَّة رغبة الراوي في العيش فيه، يقول، في ما يقوله عن واقعه: «إنِّي أستسلم لواقع لم أكن أحلم يوماً بأن أكون على تماسٍّ معه». كما أن ترْك ماري، وهي إحدى شخصيات الرواية، لابنيها والمجيء لمعرفته والإسهام في كتابة تحقيق عنه، ما أدى إلى وصفها بالمجنونة، وطلب المغفرة لها من الرب كأنها ترتكب خطيئة، دالُّ على شدَّة هذه الرغبة وقوَّة فاعليتها، فما هو هذا الحلم/ الرواية؟ وما هي الرؤية التي ينطق بها؟
كان الوقت شتاءً، حين يبحر ستة صحافيين هم: كوستا البرازيلي، وماريا الروسية، وجون البريطاني، وكوامي الغاني، وأمين الجزائري، وهو راوي هذه الرواية، وجواد الباكستاني، في اتجاه جزيرة يقول ماركوس، ربان المركب الذي يستقلُّونه عنها: الجزيرة مهجورة إلا من بعض الناس الغرباء الذين وفدوا إليها ليلاً، من مناطق بعيدة، لا أحد يعرفهم، اختاروا أرخبيل «غالاباغوس» النائم على كتف الأكوادور، واستقرَّ كثير منهم في جزيرة «داروين». وسُمِّيت هذه الجزيرة «إرهابيس» تخليداً لأسطورة «أتلانتس» الغارقة في المحيط، وتيمُّناً باسم تلك الجزيرة ذات الحضور الأسطوري في التاريخ. يبدو أنَّ المراد من التسمية «إرهابيس» إعطاء بعد أسطوري غرائبي للجزيرة، وما يؤيِّد ذلك قول الراوي، لدى وقوفهم أمام أحد مشاهدها: نحن «أمام مشهد أسطوري في غاية الغرابة». إن يكن الأمر هكذا، فإن الاسم بالعربية دالٌّ على «الإرهاب» خصوصاً أن الاسم الاَخر الذي تُعرف الجزيرة به هو «إرهابستان» أي دولة الإرهاب، والغلاف بفضائه القاتم وصورته المرعبة يؤكِّد هذه الدلالة.
عندما يصل الصحافيون إلى ميناء الجزيرة، يستقبلهم ستة رجال مسلحين، بقيادة «مانكو» الذي يعرِّف عن نفسه بأنَّه كان يقود كتيبة ثورية مسلحة، ضمن «الفارك» ولم يستسلم كما فعل الخونة. يقود مانكو ورجاله الصحافيين إلى ساحة اسمها «اتلانتس» ويعرِّفهم بأحياء الجزيرة، التي تدلُّ على كلٍّ منها، لافتة ذات لون دالٌّ على هوية من يسكنها، وهذه الأحياء هي: الضاحية الحمراء لقادة الحركات الثورية جميعاً، لتشي غيفارا وقادة الجيش الأحمر الياباني وبادر ماينهوف الألمانية، والضاحية الخضراء لقادة الحركات الإسلامية المسلحة، وعلى رأسهم أسامة بن لادن، والضاحية السوداء لرجال المافيا والمخدرات وقراصنة الكراييب، والضاحية المنسية، وكان اسمها الصفراء، لأشهر الجلادين والحكام الديكتاتوريين في التاريخ.
وهذا يعني أن سكان هذه الجزيرة خليط يتكوَّن من ثوريين مقاومين وإرهابيين ومجرمين وديكتاتوريين ومهربين، أي أن معظمهم أبناء الإثم وصنَّاعه، أي ينتمون إلى الطرف الأول من طرفي ثنائية العنوان الثاني لهذه الرواية: «أرض الإثم والغفران» فإن كانت «إرهابيس» هي الأرض، وإن كان هؤلاء يمثلون الإثم، فمن يمثل الغفران؟ ثم يقود مانكو الصحافيين إلى مقر إقامتهم، فيقرأ أمين، كراريس تتضمن بيان تأسيس «إرهابيس» ونشيدها، وأسماء الاَباء المؤسِّسين لها، ودستورها.
الأسئلة التي تُطرح، هنا، كثيرة، منها: ما هو هذا الحلم/ الرواية؟ ولمَ لمْ يؤدِّ وظيفته؟ وما هو عالم هذا الحلم؟ وهل الخوف على الذات وعلى الابن، بوصفه الدالَّ على تجدُّد الحياة والمستقبل، هو الذي لم يجعل الحلم فاعلاً؟ ولمَ كان ذلك؟
ثم يوزَّع عليهم برنامج الزيارة. ينفذون هذا البرنامج طوال الأيام الخمسة التي يقضونها في الجزيرة، فيتعرفون إليها، وإلى سكانها، ووثائقها : بيان تأسيسها، نشيدها، علمها، عملتها، دستورها، مؤسساتها، ويجرون لقاءات مع بعض قادتها، ويحضرون ندوات لبعض اَخر منهم، كما يحضرون المؤتمر العام لقادة الجزيرة وسكانها. وهكذا، ينجز الصحافيون تحقيقهم الصحافي، فيعرفون أن الآباء المؤسسين لـ»إرهابيس» هم: غيفارا، بن لادن، ماينهوف، باتيستا، بتزكية من موسوليني وستالين وبول بوت وبينوشيه وعيدي أمين وصدام حسين والقذافي وتشاوتشيسكو واعتذار هتلر، بسبب وعكة صحية، ويطَّلعون على بيان تأسيسها، وجاء فيه: بغية الحاجة إلى عالم بديل، أعلنَّا الحرب على عالم مزيَّف، وبنينا عالماً مختلفاً، يلتقي فيه القاتل من أجل لقمة العيش، والمؤمن من أجل فرض شرع الله، والثوري من أجل اقتلاع أنظمة فاسدة، والديكتاتور الذي يرى القوة سبيلاً للاستقرار، والمتاجر بالسلاح والمخدرات، ويقرأون ما جاء في دستورها: «إرهابيس» ليست دولة، ولا مملكة، ولا إمارة، ولا إمبراطورية، هي عائلة تجمع منظمات وحركات شعارها «القوة أبداً» ورجالاَ يريدون تغيير العالم، ويقولون: «التغيير، أو التدمير، ليس عيباً، إنما العيب أن تدمِّر شيئاً، ولا تستبدله بأفضل منه». لكن، كيف لمكوِّنات هذا الخليط أن تتعايش، وأن تغيِّر إلى الأفضل؟ جاء، في دستور «إرهابيس»: تُدار العائلة بالتشاور بين أعضاء هيئة تُسمَّى «سيكوبا» الحكمة، وليس في إرهابيس من يجرؤ على أن يفرض رأيه بالقوة، ولكلٍّ حقه في دينه وطقوسه، ويقول مانكو للصحافيين: مفتاح التعايش في «إرهابيس» هو التسامح، فلا يحقُّ لأيٍّ كان أن يفرض على الاَخر شيئاً بالإكراه، نحن فهمنا أخطاءنا في عالمكم سيِّئ الذكر. ولهذا، يعيش الجميع في وئام، ويتعاملون باحترام، وهم أكثر ديمقراطية.. وبهذا، تبحث «إرهابيس» عن معارج الفردوس البعيدة، فتحفر على ألواح الصخر الصلدة صحائف الغفران». وهكذا يتشكل الطرف الثاني من ثنائية «أرض الإثم والغفران» تُفهم أخطاء العالم سيِّئ الذكر، ويُبنى عالم بديل «أكثر ديمقراطية» يعيش فيه الناس، المختلفون، في وئام واحترام، وليس أدل على رقيِّ إنسانية هذا العيش من الأعمال الأدبية والفنية التي تشكل فضاءه، وهذه الأعمال تتمثل في أغانٍ وموسيقى ولوحات وقصائد ونصوصٍ أدبية لأهم المغنين والموسيقيين والرسامين والشعراء والأدباء العالميين.
هذه الأعمال، إذ تشكل فضاء الجزيرة، وهو فضاء الفن الجميل، تدلُّ على سعة معرفة المؤلف الفنية، وعلى بذله جهداً كبيراً لجمع هذه الأعمال وتقديمها في السياق السردي، فيتشكل نسيج الرواية من عناصر كثيرة متنوعة: سرد، وصف، حوار ثنائي، حوار ذاتي، نصوص فنية متنوعة، يضاف إلى هذه العناصر عنصر اَخر، يبدو أن المؤلف بذل جهداً كبيراً في تحصيله ونظمه في سياق السرد، وهو هذه المعرفة المتنوعة التي تتضمنها الرواية: معرفة جغرافية وسياسية واقتصادية ودينية، ووثائق منها: العمليات المقاومة/ الإرهاب، جرائم الحرب، مذابح الكيان الاستيطاني وجرائمه في فلسطين منذ إعلان التقسيم عام 1947 وإلى عام صدور الرواية، وكذلك النصوص الفكرية التي وضعها، ومنها: بيان التأسيس، بيان الإثم والغفران، الدستور، ما بدا كأنه نصوص بناء دولة تحقق لأبنائها، الاَثمين والحاصلين على الغفران بعد معرفتهم اَثامهم، والمختلفين على جميع المستويات، العيش في وئام واحترام.
يشكل هذا النسيج راوٍ مشارك، هو أمين الجزائري، يروي ما يعرفه وما يشاهده، ويستخدم الوسائط لتقدِّم ما لا يتيح له موقعه تقديمه، فيتنحى، ليُجري الحوار، وليروي الاَخرون، فيبدو مسار هذا النسيج مقنعاً، في شروط العالم الغرائبي الذي تُروى روايته.
الرواية تثير هذا السؤال وما يتفرع منه من أسئلة كثيرة، في نهاية مسار روائي يروي قصة الحلم بعالم بديل، يتمثل في رحلة إلى عالم اَخر غرائبي، فتنتمي بذلك إلى نوع قصصي هو قصص الرحلة الغرائبية إلى عالم اَخر، يمثل الحلم بعالم بديل.
ينجز الصحافيون التحقيق الصحافي كما ينبغي، لكن هل يعني هذا أنَّ هذه الرواية هي تحقيق صحافي حسب، يقدِّم معرفة وافية بتلك الجزيرة؟ الإجابة بالتأكيد: لا. كما أنَّ الرواية ليست مساراً سردياً تُقدَّم في سياقه معرفة متنوعة حسب، وهو مسار عرفته الرواية العربية في مرحلة من مراحل تطوُّرها. ليست هذه الرواية تحقيقاً صحافياً، وإن كانت تقدم ذلك، وليست رواية تتوسل السرد لتقديم معرفة وحسب، وإن كانت تفعل ذلك، وإنما هي إضافة إلى هذا وذاك، ومن حيث النوع القصصي، بناء روائي متخيَّل يروي قصة متخيَّلة، وهي قصة رحلة الخروج من العالم الواقعي المعيش، عالم الإثم، إلى عالم اَخر، متخيَّل، هو عالم الغفران والتعايش فيه، يقطنه خليط يتكوَّن من أكبر الذين ارتكبوا الإثم، في عالم الإثم، حينما كانوا يعيشون فيه، وعندما انتقلوا من هذا العالم، أسسوا عالما اَخر، يتم فيه الغفران، ويكون عالماً مختلفاً بديلا، يحيا فيه الناس، وإن كانوا مختلفين أشد الاختلاف، على مختلف المستويات، دون أن يجرؤ أيٌّ منهم على فرض رأيه بالقوة على الاَخر.
هذه الرواية إذن، هي رواية الحلم الذي يحقق الرغبة في الخروج، من عالم مخيف، إلى عالم اَخر بديل مطمئن، يُرتقى فيه إلى معارج الفردوس، يؤسسه كبار مرتكبي الإثم، من قتلة وديكتاتوريين وتجار ممنوعات، وثوار، وكان ممكناً تمييز الثوار، بالإشارة إلى أن هذا العالم هو ما كان الثوار يسعون إلى إقامته في عالم الإثم، فهم لم يكونوا من الاَثمين، وإنما كانوا من الساعين إلى إقامة العالم البديل. تذكِّر هذه الرواية التي تروي قصة الرحلة الغرائبية إلى عالم اَخر، بنوع من القَصص عرفه السرد العربي التراثي، وهو قَصص الرحلة إلى العالم الاَخر، المتناسلة قِصصه من قِصص الإسراء والمعراج، وبعضها تم عن طريق الحلم، مثل «معاريج الصوفيين» وبعضها الاَخر اتخذ شكل الرسالة، مثل «رسالة التوابع والزوابع» لابن شهيد، ورسالة الغفران، لأبي العلاء المعري. تروي هاتان القصتان الأخيرتان رحلة غرائبية إلى العالم الاَخر؛ حيث يتم الحوار والغفران، الفرق بين هذه الرواية والقصتين التراثيتين أنَّ عالمها البديل يُبنى على أرض الإثم، وليس في عالم الاَخرة، وأنَّ سكان عالمها اَثمون كبار، وليسوا أدباء وشعراء، وأن نظامها من صنع هؤلاء الاَثمين، لكن المحفِّز للخروج من عالم الإثم هو نفسه، وهو الشعور بالفقد/ الخوف، المكوِّن للرغبة في الخروج إلى عالم بديل، واتخاذ القرار بذلك، وإذ يحول العجز دون تنفيذ القرار، يحضر الحلم بديلاً، ويحقق الرغبة. والجدير بالذكر أنه، في الكوميديا الإلهية لدانتي، المتأثرة بقصص الرحلة الغرائبية العربية، لم يلاحظ الراوي وقوع أيِّ صدام بين سكان عالمها.
يبدو أن نسيج رواية الحلم، في هذه الرواية، احتاج إلى بذل جهد كبير في جمع المعلومات ونظمها، وفي وضع النصوص، وفي التفكير والتخيل، وإقامة البناء الروائي المتخيل، ويبدو أنَّ هذا جرى في زمن طويل، ما يعني أن عيش الخوف في أرض الاثم مزمن، وأنَّ العجز عن الخروج منه مهيمن، ويبدو أنَّ نهاية الرواية تفيد بأنَّ الحلم لم يفض إلى خلاص، فالابن يسأل أباه الراوي عن «داعش» وفي الحلم نفسه، أدى حضور أبي قتادة إلى أن يستعيد الراوي، أمين الجزائري، السنوات السود التي عاشها شعبه، وكاد يتقيأ عندما علم أن قَتلة شعبه هم الذين أعدُّوا الطعام، وفي الحلم نفسه، يقول كوامي الافريقي: «لو تم توثيق الجرائم التي ارتكبها الاستعمار، في افريقيا، ما حوتها هذه الجزيرة كاملة» هذا ما فعله الاستعمار في افريقيا، فكيف في ما فعله في أنحاء العالم جميعها، خصوصاً في أمريكا، حيث أباد شعوباً هي صاحبة الأرض؟ والإشكالية الكبرى تتمثل في قضية فلسطين، ففي حين يُرفع نصب في الجزيرة تُسجَّل عليه مذابح الكيان الاستيطاني وجرائمه، منذ إعلان قرار التقسيم عام 1947، يغيب شارون في غيبوبة، فهل هذا هو الحل؟ وكيف يحل «التسامح» هذه القضية؟ وكيف يعود الوطن السليب إلى أبنائه وأصحابه؟
السؤال الذي يُطرح هنا هو: إن كان الخروج من أرض الإثم إلى أرض الغفران هو حلم البشر، فكيف يتم ذلك؟
يمكن القول في الختام: إن هذه الرواية تثير هذا السؤال وما يتفرع منه من أسئلة كثيرة، في نهاية مسار روائي يروي قصة الحلم بعالم بديل، يتمثل في رحلة إلى عالم اَخر غرائبي، فتنتمي بذلك إلى نوع قصصي هو قصص الرحلة الغرائبية إلى عالم اَخر، يمثل الحلم بعالم بديل.
كاتب لبناني