قبل أيام احتفلت إسرائيل بالذكرى الـ 76 لإقامتها، وخلال أقل من عام على هذه الذكرى، كانت إسرائيل قد شهدت حدثين عصفا بكيانها، الأول: الانقسام الحاد في مجتمعها، على خلفية محاولة تنفيذ حكومتها الموغلة بالتطرف خطة «الإصلاحات القضائية»، التي رأى فيها معظم الإسرائيليين انقلابا على «ديمقراطيتهم»، ما أثار خشية مسؤولين فيها من احتمال زوالها، بما سموه بعقدة «العقد الثامن»، بمعنى أن إسرائيل قد تزول، كما زالت مملكة داوود وابنه سليمان (1020 ق.م)، وزوال مملكة الحشمونائيم (140 ق.م)، وكلا المملكتين لم تعمرا أكثر من 8 عقود. اما الحدث الثاني: فهجوم المقاومة الفلسطينية في 7 أكتوبر 2023، والحرب الانتقامية المتوحشة التي شنتها إسرائيل على قطاع غزة، من دون أن تتمكن بعد أكثر من سبعة أشهر على حسمها لصالحها، وكان من نتائج حربها هذه أنها اصبحت دوله «مجذومة» ومعزوله من دول كثيرة حول العالم، بعد أن خسرت معركة الرأي العام الدولي!
خسارة إسرائيل لم تقتصر على تزعزع ثقة الإسرائيليين بها، وبعدم قدرتها على حماية نفسها بعد أن فقدت استراتيجية الردع، بل بخسارتها دورها الاستعماري في حماية مصالح حلفائها الأمريكيين والأوروبيين
حالة «الجذام» التي أصيبت بها إسرائيل دوليا، تأتي بعد أن نجحت، قبل شنها حربها المتوحشة على غزة، بتطبيع علاقاتها مع عدد من الدول العربية، وإقامة علاقات دبلوماسية في ما عرف بـ»اتفاقيات إبراهيم» معها، كما كانت قد طورت علاقاتها الأمنية مع عدد من الدول الافريقية الواقعة جنوب الصحراء الكبرى، وأخرى في شرق وغرب القارة السوداء، ناهيك عن تطوير علاقاتها مع دول آسيوية كالهند وسنغافورة والفلبين وكوريا الجنوبية.
وفي المقابل، وعلى وقع حرب الإبادة الإسرائيلية على غزة، عادت القضية الفلسطينية لتتبوأ مكان الصدارة على أجندة السياسة الدولية، على الرغم من الثمن الباهظ الذي دفعه قطاع غزة من دم أطفاله ونسائه ورجاله، وتدمير منازله وبناه التحتية، هذا الثمن أثار غضب وتنديد العديد من الدول في قارات العالم الست، بالسياسة الإسرائيلية، لإنتهاكها القانون الدولي الإنساني، ولرفضها الدعوات كافة، حتى تلك الصادرة عن دول حليفة استراتيجيا لإسرائيل. وبعد أن ساندت أوروبا إسرائيل سياسيا وعسكريا، عند بدء الحرب في 7 أكتوبر تحت شعار «حقها في الدفاع عن النفس»، بدأت مواقف العديد من مواقف دول القارة العجوز بالتغير، تحت تأثير الفظائع التي ارتكبها جيش الاحتلال في قطاع غزة، ازدياد ضغط الرأي العام، واندلاع المظاهرات في شوارع العديد من المدن الأوروبية احتجاجا على الحرب، ما أثار خوف المسؤولين الإسرائيليين من خسارة المعركة في أوروبا، حسب صحيفة «غلوبز» الإسرائيلية.
ولم تقتصر ردود الفعل الأوروبية على الفظائع الإسرائيلية في غزة، على التنديد بالبيانات وتصريحات السياسيين فقط، بل تعدى الأمر ذلك إلى الدعوة لوقف أو تجميد إمداد اسرائيل بالإسلحة، كالقرار الصادر عن إحدى المحاكم الهولندية، بتجميد توريد قطع الغيار المخصصة للطائرات المقاتلة الأمريكية من طراز F-35 التي تستخدمها إسرائيل. وكان مفوض الشؤون الخارجية في الاتحاد الأوروبي جوزيب بوريل، قد توجه للرئيس الأمريكي جو بايدن بالقول: «إذا كنت تعتقد أن عدداً كبيراً جداً من الناس يقتلون، فربما يتعين عليك توفير أسلحة أقل». المواقف الأوروبية هذه وصفها دبلوماسي إسرائيلي سابق بالقول «إذا أخذنا جانباً كل هذه الانتقادات الأوروبية، فإنها ليست ذات طبيعة دراماتيكية، لكن الصورة العامة لصورة إسرائيل في العالم تزداد قتامة بسرعة، وليس من المؤكد أن الحكومة في تركيبتها الحالية قادرة على وقف هذا التدهور».
وفي المواقف الدولية الأخرى التي أدت إلى عزلة إسرائيل، استمرارها في انتهاج سياسة الإبادة الجماعية بحق المدنيين في قطاع غزة، على الرغم من أن محكمة العدل الدولية أمرتها في يناير/كانون الثاني 2024 بالتوقف عن أعمالها الإجرامية ضد الفلسطينيين، وبذل المزيد من الجهود لمساعدة المدنيين، الا أن إسرائيل لم تمتثل لقرارات المحكمة، واستمرت بالفتك بالمدنيين، وعرقلت دخول المساعدت الإنسانية إلى القطاع. وبعد نحو شهرين على قرار محكمة العدل الدولية، أصدر مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة في أواخر مارس/آذار، قراراً بوقف إطلاق النار، من دون ان تستخدم الولايات المتحدة حليف إسرائيل والراعي الأكبر لها لحق النقض «الفيتو».
إذن الجذام الذي أصاب إسرائيل وعزلها دوليا لم يقتصر على علاقاتها السياسية والدبلوماسية، بل تعدى ذلك إلى تجارتها الدولية، فتركيا التي يصل ميزان التبادل التجاري فيها مع إسرائيل لتسعة مليارات دولار سنويا، توقفت عن التصدير لإسرائيل، ما يضع قطاع البناء الإسرائيلي في مأزق، لاعتماده على الواردات من تركيا، إلى جانب الواردات الأخرى كالمواد الغذائية والمنسوجات وغيرها، ويأتي ذلك بالتزامن مع دعوة بلجيكا لفرض عقوبات اقتصادية على إسرائيل، وعليه فإنه من المحتمل أن تتخذ دول أخرى حول العالم مواقف مشابهة لموقف تركيا أما الولايات المتحدة التي تعتبر أكبر مورد عسكري وداعم مالي لإسرائيل، فقد اكتفت بالتلويح بتأجيل الإمدادات العسكريه لها فقط، ويأتي هذا نتيجة ضغط قواعد الحزب الديمقراطي، الذي سيترشح جو بايدن لفترة رئاسية ثانية ممثلا له، بالإضافة لضغط الاحتجاجات في شوارع مدن وجامعات أمريكية مطالبة بموقف أمريكي يوقف حرب إسرائيل على قطاع غزة. إلا أن صحيفة «هآرتس» رأت في تقرير لها أن تأخير نقل الأسلحة الأمريكية كتحذير لإسرائيل لئلا توسع عملياتها في رفح، يعني أنه على المدى الطويل، قد يؤدي إلى إنهاء شراكات الأبحاث العسكرية في المعاهد والجامعات الأمريكية.
إن خسارة إسرائيل لم تقتصرعلى تزعزع ثقة الإسرائيليين بها، وبعدم قدرتها على حماية نفسها بعد أن فقدت استراتيجية الردع، بل تجاوز الأمر ذلك بخسارتها لدورها الاستعماري في حماية مصالح حلفائها الأمريكيين والأوروبيين، كإحدى نتائج حربها على غزة، فأصبحت بحاجة لحماية أساطيل ومدها بالمال والسلاح من هؤلاء الحلفاء. ناهيك عن خسارتها لصورتها كضحية للجرائم النازية، وبأنها الدولة الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط، بمثولها في قفص اتهام محكمة العدل الدولية.. كما أن المظاهرات التي تشهدها مدن كثيرة حول العالم، واحتجاجات الطلاب في جامعات أوروبية وأمريكية دعما للشعب الفلسطيني والقضية الفلسطينية، وإدانة توحش إسرائيل ضد الشعب الفلسطيني في قطاع غزة، جعل من إسرائيل دولة مصابة بـ»الجذام» ومعزولة دوليا.
كاتب فلسطيني