إسرائيل تصعّد وأمريكا تجاريها

تواصل الدولة الصهيونية السير بمسعاها الرامي إلى توسيع رقعة الحرب. فكما كان متوقعاً، بعد أن استولت على معظم أراضي قطاع غزة ودمّرت ثمانين في المئة من مباني شطره الشمالي، وما يزيد عن أربعين في المئة من مباني خان يونس وحوالي ربع مباني منطقتي دير البلح في الوسط ورفح في الجنوب، وفق أحدث التقديرات، مع ما رافق ذلك التدمير الجنوني من إبادة جماعية، أودت بحياة ما يزيد عن واحد في المئة من سكان القطاع وهي نسبة مروّعة، ومن تهجير للغالبية الساحقة من السكان، بما يرى فيه أقصى اليمين الصهيوني المشارك في الحكومة مقدمة لتطهير عرقي يقوم على منع السكان من العودة إلى المناطق التي كانوا يقطنون بها استكمالاً لما دخل التاريخ بتسمية «النكبة الثانية» مهما كان مصير المهجرين اللاحق، بعد كل هذه الفظاعات إذاً، انتقل الحكم الصهيوني إلى تسعير نار جبهته الشمالية.
وقد أشرنا إلى هذا الانتقال في مقال الأسبوع الماضي الذي كُتِب صبيحة اليوم الذي شهد في مسائه اغتيال صالح العاروري ومن رافقه في ضاحية بيروت. وقد تلى ذلك اغتيالان آخران يوم الإثنين الماضي، طالا أحد قادة «حزب الله» الميدانيين في لبنان الجنوبي وأحد قادة «حماس» الميدانيين في سوريا، في سياق عام من التصعيد في تبادل القصف بين الدولة الصهيونية والمقاومة في جنوب لبنان. وفي هذه الأثناء، أضاف وزير «الدفاع» الصهيوني، يوآف غالانت، تهديداً جديداً إلى سلسلة تهديداته الموجهة إلى «حزب الله» فصرّح في مقابلة نشرتها صحيفة «وول ستريت جورنال» يوم الإثنين أنه لن يتردد في إجراء «نسخ ولصق» بين غزة ولبنان، مستعيراً لغة الكمبيوتر للتدليل على نيته إلحاق دمار بلبنان مماثل لما لحق بغزة.
ويترافق هذان التصعيد والتهديد بمطالبة الحكم الصهيوني «حزب الله» بسحب قواته العسكرية إلى شمالي نهر الليطاني، وهو يدرك تماماً أن الحزب سيأبى الإذعان إلى هذا المطلب المُهين. وقد أعلن الحزب أنه لن يجدد العمل بالتسوية التي تلت العدوان الصهيوني على لبنان في عام 2006 سوى بعد أن تتوقف الحرب في غزة، والحال أن الحكم الصهيوني يعلن بشتى أصواته أن هذه الحرب سوف تدوم طيلة السنة الجديدة. هكذا فإن احتمال انتقال إسرائيل إلى قصف مركّز للبنان، وبالأخص مناطق انتشار «حزب الله» فيه، بات مرتفعاً للغاية. طبعاً، يعلم الحكم الصهيوني أن لدى «حزب الله» إمكانيات عسكرية تفوق بكثير ما كان لدى المقاومة في غزة، لكنّه يبدي استعداداً لخوض غمار حرب جديدة طاحنة ضد لبنان، بحجة أنه لا يستطيع أن يقبل باستمرار تسليط الحزب لوسائط قصفه عليه. وقد أضاف غالانت في مقابلته سابقة الذكر أن الإسرائيليين «مستعدون للتضحية».
وثمة ملاحظتان مهمتان في صدد التصعيد الراهن. الملاحظة الأولى أن الدولة الصهيونية ليس بمقدورها أن تخوض حرباً شاملة على جبهتها الشمالية بلا مواصلة أمريكا لمشاركتها الكاملة فيها، مثلما شاركت ولا تزال في العدوان على غزة. ذلك أنه لولا الجسر الجوّي الأمريكي الذي زوّدها بآلاف الأطنان من السلاح والعتاد بواسطة ما يناهز 250 شحنة بطائرات النقل و20 شحنة بالسفن، فضلاً عن إتاحة واشنطن لإسرائيل استخدام السلاح والعتاد الأمريكيين المستودعين لديها، ناهيك من التمويل الأمريكي القائم والموعود، لولا كل ذلك ما كانت إسرائيل لتستطيع مواصلة قصف بمثل كثافة قصفها لغزة طيلة ثلاثة شهور. فما بالك من قيامها بحملة قصف مماثلة على لبنان وهي خارجة تواً من تدميرها المكثّف لغزة!

الإدارة الأمريكية، بالرغم من إعلاناتها الخبيثة بأنها تصرّ على إسرائيل كي تُبدي بعض الرأفة بالمدنيين الفلسطينيين، لم تبدِ أي استعداد لممارسة ضغط فعلي على حليفتها

بيد أن الإدارة الأمريكية، بالرغم من إعلاناتها الخبيثة بأنها تصرّ على إسرائيل كي تُبدي بعض الرأفة بالمدنيين الفلسطينيين، لم تبدِ أي استعداد لممارسة ضغط فعلي على حليفتها حيث يكفيها أن تهددها بالتوقف عن دعمها وإمدادها بمستلزمات الحرب كي تُجبرها على الانصياع. ولم تواصل الإدارة دعمها لإسرائيل بلا هوادة وحسب، بل تخطت الكونغرس مرّتين حتى الآن لتمرير تمويل عاجل لشراء العتاد لحليفتها بما أثار احتجاج بعض نواب حزبها بالذات. والحقيقة أن الإدارة عوضاً عن الحؤول دون جولة حرب جديدة ضد لبنان، إنما تستكمل الضغط الإسرائيلي بنقل شروطه إلى لبنان بواسطة مبعوثها آموس هوكستاين، حامل الجنسيتين الأمريكية والإسرائيلية والمجنّد السابق في أحد ألوية الجيش الصهيوني المدرّعة. وقد وصفته إحدى المعلقات في صحيفة «هآرتس» الإسرائيلية قبل سنة ونيف، عندما كان وسيطاً في التفاوض في شأن الغاز البحري، بأنه «سمسارٌ غير نزيه»!
أما الملاحظة الثانية، فهي أن التفسير الذي نجده في شتى وسائل الإعلام، بأن استمرار الحرب طوال السنة الجديدة خطة ينتهجها نتنياهو من أجل البقاء في كرسي رئيس الوزراء، إنما يقصد تحميل الرجل وحده النوايا الحربية التي يشاطره إياها سائر الطاقم الإسرائيلي الحاكم. والحال أن غالانت، وهو منافس نتنياهو ومن المرجّح أن يليه على رأس حزب الليكود، لاسيما بعد أن زادت شعبيته لدى الإسرائيليين المتحمّسين للحرب بنتيجة دوره كوزير دفاع وتصريحاته المتميزة بهمجيتها، يشاطر تأكيد نتنياهو على مواصلة الحرب في غزة طوال السنة الجديدة، كما يشاطرها الرجل الثالث في الثلاثي المشرف على الحرب، بيني غانتس، وهو معارض لحزب الليكود. بل يشاطرها زعيم المعارضة الآخر يائير لبيد، الذي رفض الانضمام إلى حكومة الطوارئ التي جرى تشكيلها إثر «طوفان الأقصى».
ويعلم هؤلاء جميعاً أن دولتهم باتت هذا العام في موقع ممتاز للحصول على ما تبغيه من واشنطن، إذ إن معركة الانتخابات الرئاسية الأمريكية القادمة قد بدأت من الآن، وهم واثقون من أن الرئيس الحالي بايدن لن يتجرأ على الضغط على إسرائيل خشية مزايدة سلفه ومنافسه ترامب عليه. فالأشهر القادمة توفّر فرصة ذهبية أمام الدولة الصهيونية كي تصعّد الحرب وتوسّع رقعتها إقليمياً، مستقوية بانتشار قوات بحرية وجوّية أمريكية كبيرة في المنطقة. هذا وبينما يعلن وزير الخارجية الأمريكي أنه يسعى وراء الحؤول دون توسّع الحرب إقليمياً، الواقع هو أنه بدأ جولته الأخيرة بُعيد اغتيال القوات الأمريكية لأحد مسؤولي «الحشد الشعبي» في العراق بعد يومين من اغتيال إسرائيل لصالح العاروري، بما يتنافى تماماً مع زعم الوزير.

كاتب وأكاديمي من لبنان

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية