إسرائيل تعتبر القدس جواز مرورها إلى العالمية

إبراهيم نوار
حجم الخط
0

من بين كل دول العالم التي تعترف بإسرائيل، لا تقيم غير دولتين هما الولايات المتحدة وغواتيمالا سفارة لها في القدس، العاصمة الرسمية منذ العام 1980. أما الدول الأخرى التي تقيم علاقات معها فإنها ما تزال تحتفظ بسفاراتها وقنصلياتها في تل أبيب. إسرائيل فيها نحو 77 سفارة و22 قنصلية لدول تقيم علاقات معها. ولهذا فإنها تبذل محاولات مستميتة من أجل استمالة دول كبيرة، مثل استراليا، كما تبذل ضغوطا هائلة على دول صغيرة في أفريقيا وأمريكا اللاتينية وآسيا من أجل نقل سفاراتها إلى القدس، لكنها فشلت حتى الآن.

يقف وراء الفشل، ليس الخوف من (المقاطعة العربية) التي سقطت عمليا، وإنما قوتان فاعلتان، الأولى هي صمود الإرادة الوطنية الفلسطينية، واتصال هذا الصمود من جيل إلى جيل، حتى أصبحنا نرى أطفالا ينضمون اختيارا إلى قائمة الشهداء، رغم مرور أكثر من مئة عام على حرمان الشعب الفلسطيني من ممارسة حقه في تقرير مصيره، وإقامة دولته المستقلة مثل غيره من شعوب الدولة العثمانية، بعد الحرب العالمية الأولى. في الأسبوع الماضي حلت الذكرى الخمسون لإحراق المسجد الأقصى، وسط تداعيات لا تقل خطورة، تتمثل في الحفريات الخاصة بما يسمى طريق الحجاج إلى مدينة الملك داوود، وغيره من الحفريات تحت المسجد الأقصى، واستمرار الاشتباكات بين الفلسطينيين والإسرائيليين حول القدس وفي الضفة وعلى حدود غزة.

القوة الثانية هي احترام القانون الدولي الذي ما يزال يعتبر القدس الشرقية أرضا محتلة، كما يعتبر القدس كلها مشروع عاصمة لدولتين هما فلسطين وإسرائيل. هذا الاحترام ليس مجرد قوة معنوية، لكنه سياسة حية تلتزم بها، حتى الآن، قوى رئيسية في العالم هي الاتحاد الأوروبي، وروسيا، والصين، ودول أخرى كبيرة وصغيرة. القانون الدولي إذن ما تزال له قوة الفعل، على الرغم من كل مظاهر الضعف التي نراها. آخر محاولات إسرائيل الفاشلة لإقناع دولة بنقل سفارتها إلى القدس كانت الأسبوع الماضي خلال الزيارة التي قام بها بنيامين نتنياهو إلى أوكرانيا. نتنياهو تلقى ردا قاتما من الرئيس الأوكراني فلاديمير زيلنسكي، الذي رفض طلب نقل السفارة. لكنه وافق على طلب بتأسيس مركز تكنولوجي واقتصادي لبلاده في القدس.

إسرائيل وهي تنتقل من مرحلة التفوق الساحق في ميادين القوة العسكرية والاقتصادية في مواجهة العرب، تسعى الآن إلى تعظيم مقومات القوة الناعمة بمواردها المختلفة. أهم مصادر القوة الناعمة في إسرائيل يتمثل في تاريخ القدس، وفي التفوق العلمي والتكنولوجي. إسرائيل لا تريد أن تظل أمام العالم دولة بلا تاريخ، أو أن يرتبط تاريخها بالعقود الدموية الممتدة من ثلاثينات القرن الماضي حتى الآن. وقد رأى جيل الآباء المؤسسين للدولة قبل أن يرحل، أن أحد أفضل موارد القوة الناعمة لإسرائيل هو أن تسطو على تاريخ مدينة القدس. ولذلك فإن قانون الكنيست بإعلان القدس عاصمة لإسرائيل، منذ نحو أربعين عاما، كان بمثابة خطوة مهمة على طريق إعادة تقديم إسرائيل للعالم بعاصمة لها تاريخ، بدلا من عاصمة لا تاريخ لها هي تل أبيب. القدس في المنظور الإسرائيلي هي مصدر رئيسي من مصادر قوتها الناعمة. هذه القوة ليست بديلا عن القوة الغاشمة والمادية، لكنها تسهم في تعظيم القوة الغاشمة، ورفع مكانة الدولة إلى مصاف الدول ذات التاريخ. إسرائيل الآن تتاجر بمقولة أن عاصمتها لها تاريخ يمتد زمنيا لثلاثة آلاف عام مضت. ومع ذلك فإنها لم تنجح حتى الآن في فرض قبول القدس كعاصمة لها على المستوى العالمي.

هذا الإحجام الدولي عن الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل، وإحجام أغلبية الدول التي تقيم علاقات دبلوماسية معها عن نقل السفارات، جعل القدس واحدة من القضايا المركزية الشائكة فيما يسمى “صفقة القرن”. ولقد بذل خبراء القانون الدولي في إسرائيل جهودا استمرت لسنوات، لإنجاز بحوث ودراسات لإثبات أن أراضي الضفة الغربية بما فيها القدس الشرقية هي “أراض متنازع عليها” يمكن لإسرائيل أن تبسط عليها سيادتها وتخضعها لقانونها المدني، إلى حين تتم تسوية النزاع مع الطرف الآخر، وليست “أرضا محتلة” يتوجب عليها عدم تغيير ملامحها، والمحافظة على حقوق سكانها، والانسحاب منها. هذا التكييف القانوني يسمح لإسرائيل بمد ولايتها القانونية على ما تريد ضمه من مناطق الضفة. وطبقا لذلك يجري توسيع القدس شمالا وجنوبا وشرقا، ولا يتبقى للفلسطينيين ما يمكن التفاوض عليه.

وقد كانت نتيجة توسيع القدس حتى الآن، أن تحولت المدينة التاريخية القديمة إلى مساحة ضئيلة جدا داخل القدس الكبرى، تعادل نحو كيلومتر مربع، أي أقل من 1 في المئة من مساحة القدس الحالية (حوالي 126 كم مربع). وتكتسب القدس القديمة أهمية دينية وتاريخية، حيث توجد فيها أحياء المسلمين والنصارى والأرمن واليهود. وتعمل إسرائيل حاليا على تغيير طبيعة الأبنية الدينية فوق الأرض، عن طريق الحفر تحتها للتنقيب عن آثار يهودية، تعزز محاولات دمغ القدس بالهوية اليهودية للدولة. كما يتيح الطابع التاريخي للمدينة إمكان استثمارها كمركز عالمي يحتضن تراث الأديان الثلاثة السماوية.

إسرائيل تعتبر القدس جواز مرورها إلى العالمية. لهذا فإنها تحاول أن تجعل منها مركزا تكنولوجيا متقدما، لتصبح واحدة من مدن العالم الرئيسية القائدة في تكنولوجيا المستقبل مثل الذكاء الاصطناعي، والاتصالات الفائقة السرعة “كوانتوم” وتكنولوجيا الأسلحة الجديدة مثل أسلحة الليزر والموجات الكهرومغناطيسية، ونظم المدفوعات الإلكترونية، والتكنولوجيا الحيوية، والفضاء، والعلاج الجيني وغيرها. ومع أن عددا كبيرا من الشركات الدولية العاملة في إسرائيل تحتفظ بمراكزها العاملة في مجالات الأبحاث والتطوير في مدن غير القدس، خصوصا في تل أبيب وحيفا، فإن الاتجاه حاليا ينصرف إلى إقناع هذه الشركات بالتوسع في القدس، بإضافة استثمارات جديدة أكثر تقدما، ذات قدرات تنافسية عالمية.

إسرائيل لا تكتفي بمحاولات الضغط على الدول أو استمالتها لنقل سفاراتها من تل أبيب إلى القدس. إنها دائما تحتفظ لنفسها ببدائل مختلفة، للوصول إلى الهدف نفسه، فإذا فشل هذا نجح ذاك. في حال القدس تتمثل (الخطة باء) في جعل القدس مدينة شديدة الجاذبية، عظيمة التقدم، أكثر راحة وبهجة من تل أبيب، أقل ازدحاما، وأقل ضجيجا. وفي هذا السياق تتوسع القدس، باقتحام أراض وممتلكات فلسطينية، وشق طرق، ومد شبكات الاتصالات، وتوسيع البنية الأساسية الخدمية والاقتصادية. وقد نجحت بالفعل في مضاعفة عدد سكان القدس حت تجاوز قرابة المليون شخص، أي أكثر من ضعف عدد سكان تل أبيب، يشكل الفلسطينيون نسبة 40 في المئة منهم تقريبا، ومدت خط قطار كهربائي سريع في العام الماضي، يربطها بمطار بن غوريون وتل أبيب، يقطع المسافة في حوالي نصف الساعة، ووفرت خدمات أفضل وأرخص، بحيث باتت تكلفة المعيشة في القدس تقل عن مثيلتها في تل أبيب بنسبة 10 في المئة على الأقل، كما جعلت المدينة المركز الرئيسي للخدمات الحكومية والإدارية، الأمر الذي يفرض سطوتها محليا على غيرها من المدن. في المقابل ما يزال المشروع الفلسطيني متعثرا، رغم كل التضحيات.

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية