مع أن الحدث جلل والشهيد عظيم كتب اسمه بحروف من نور في كتاب التاريخ، فقد قررت أن أتجاوز رغبتي في كتابة مرثية لائقة بحياة وروح الشهيد يحيى السنوار الذي ارتقى بقيمة الشجاعة إلى مرتبة إنسانية لم تبلغها من قبل، للكتابة عن اليوم التالي لاستشهاده. السنوار لم تقتله قذائف الإسرائيليين فقط، لكن قتلته أيضا مؤامرة التواطؤ والسكوت على الحصار. هذا التجاوز لا يقلل أبدا من أهمية الاحتفال بتكريم كوكبة شهداء المقاومة، الذين دفعوا أرواحهم فداء لتحقيق الحرية والكرامة والعزة لشعوبهم. كما أن هذا التجاوز لا يقلل من أهمية التحذير من أن سياسة الاغتيالات مستمرة، وأن إسرائيل تخطط حاليا لاغتيال خالد مشعل وخليل الحية وآخرين. ومع ذلك، فإن متطلبات الوقت تفرض علينا إعادة تقييم معطيات المشهد الحالي، ورؤية ما بعدها من تطورات محتملة، على ضوء قراءة فكر العدو، والتحديات الجديدة على ساحات محور المقاومة، والمنطقة ككل، والعالم أجمع؛ فهي جميعا مترابطة.
نتنياهو يثبت كل يوم أنه ليس خطرا على الفلسطينيين فقط، وليس خطرا على شعوب المنطقة فقط، بل إنه خطر على اليهود أنفسهم لأنه سيجلب عليهم كراهية العالم
سؤالان كبيران نطرحهما هنا، ونحاول الإجابة على كل منهما بأدلة ظاهرة؛
الأول: هل أصبحت إسرائيل أكثر قوة بعد اغتيال زعماء المقاومة الثلاثة إسماعيل هنية والسيد حسن نصر الله ويحيى السنوار ورفاقهم؟
والسؤال الثاني هو: هل أصبح الشرق الأوسط أكثر أمانا مع حرب الإبادة ضد الشعب الفلسطيني وحروب الكراهية والتدمير ضد شعوب الدول المجاورة؟
إسرائيل ليست أكثر قوة
يروج نتنياهو لفرضية مفادها، أن اغتيال زعيم حماس يحيى السنوار، كتب نهاية حرب غزة، وأن «اليوم التالي للحرب» قد بدأ. وهو يكرر مصطلح «اليوم التالي» للحرب أكثر مما يتحدث عن ملامحه وسماته. وكيف تنتهي الحرب بينما لم تتحقق أهدافها التي أعلنها؟ المحتجزون ما يزالون في قبضة حماس، وكانت استعادتهم الهدف الأول للحرب. غزة ما تزال متلاحمة مع المقاومة، فغزة هي المقاومة والمقاومة هي غزة، وقد فشل نتنياهو وفشلت الولايات المتحدة وفشل المتواطئون معهم في إيجاد بديل لحماس يتولى إدارة غزة. وما تزال غزة تمثل تهديدا عسكريا للجيش الإسرائيلي واليمين الديني الصهيوني الإسرائيلي؛ ففي اليوم التالي لاستشهاد السنوار قتلت المقاومة قائد اللواء الإسرائيلي المدرع المكلف بتسوية مخيم جباليا بالأرض بشرا وحجرا. في اليوم التالي لاستشهاد السنوار ما تزال جثث العسكريين الإسرائيليين تعود إلى ذويهم في أكياس سوداء. كذب نتنياهو، وكذب من يقول إن استشهاد السنوار هو نهاية المقاومة في غزة، وكذب من يقول إن استشهاد السيد حسن نصر الله هو نهاية المقاومة في لبنان. لم يتمكن نتنياهو من استعادة المحتجزين، وربما لن يستعيدهم أبدا. هو لم يتمكن من محو وجود حماس والمقاومة، ولم يتمكن من إنشاء إدارة بديلة في غزة، وليست لديه استراتيجية لإخراج جيشه من هناك،
وعندما يزعم أن استشهاد نصر الله وهنية والسنوار قلب ميزان القوى لصالح إسرائيل تحت قيادته، فإنه يكذب أيضا، وتكذبه الحقائق. فإذا كان ما يزعمه صحيحا فلماذا إذن طلب من الولايات المتحدة إمداده ببطاريات صواريخ «ثاد» المضادة للصواريخ، ولما استعجل وصول المزيد من الأسلحة والذخائر عبر جسر الإمدادات العسكرية البحري والجوي الذي لم يتوقف يوميا منذ بدأت حرب الإبادة الإسرائيلية ضد الشعب الفلسطيني وشعوب المنطقة. نتنياهو في حقيقة الأمر يعلم علم اليقين أن الحرب لم تجعل إسرائيل أقوى رغم تضحيات المقاومة، وإذا كان لا يعلم فهو متوحش جاهل لن يتعلم من دروس الماضي شيئا. وربما نحتاج إلى تذكيره بأن مصر التي تعرضت لهزيمة عسكرية قاسية في يونيو 1967 صمدت وأعادت بناء قوتها حتى أصابت إسرائيل بأكبر زلزال هز كل أركانها في أكتوبر 1973. وربما نحتاج أيضا إلى تذكيره بأن زلزال 7 أكتوبر 2023 لم يتوقف بعد، وأنه طالما بقي الاحتلال لن تتوقف المقاومة حتى يزول. نتنياهو، رغم دخول قواته إلى جنوب لبنان لم يتمكن حتى الآن من إعادة سكان شمال إسرائيل النازحين، بل إن عدد النازحين قد زاد عن ذي قبل. ولما فشلت قواته في إبادة المقاومة في جنوب لبنان، فإنه توجه بطائراته إلى الشمال. وهو ما يزال يمعن في ضرب بيروت بكل قوته الغاشمة، بل إن طائراته المسلحة بأسلحة الدمار وصلت إلى طرابلس في الشمال. ومع ذلك فإن صواريخ المقاومة لم تتوقف، وما تزال تمطر مدن شمال إسرائيل من كريات شمونة إلى حيفا حتى تل أبيب وعسقلان وإيلات، كما ضربت قواعده العسكرية وآخرها قاعدة بنيامينا الحصينة بالقرب من حيفا. ومع استمرار المقاومة فرّ آلاف من مدن شمال إسرائيل، وسوف يفر كثيرون بعدهم، بل سوف تزيد الهجرة العكسية إلى خارج إسرائيل، كلما اكتشف اليهود أن الدولة الصهيونية هي مجرد أكذوبة، تستخدم الدين لتحقيق أهداف سياسية، وأن نتنياهو وبن غفير وسموتريتش ليسوا إلا إرهابيين مهووسين بالقتل والحرق والتدمير.
الشرق الأوسط ليس أكثر أمانا
يعتقد زعيم الصهيونية النازية العالمية بنيامين نتنياهو، أن اغتيال السيد حسن نصر الله قد غيّر ميزان القوى في الشرق الأوسط لصالح إسرائيل. أضغاث أحلام تراوده! فإذا كان الأمر كذلك فلماذا توقف عن الرد على ضربة إيران الصاروخية في 8 أكتوبر مباشرة مثلما كان يفعل من قبل؟ ولماذا يترك للقوات الأمريكية مهمة الرد على الضربات الصاروخية والهجمات بالطائرات المسيرة، التي تشنها المقاومة من اليمن والعراق؟ إنه لن يرد على إيران حتى يضمن تورط الولايات المتحدة في حرب شاملة في الشرق الأوسط، فهو لا يستطيع الرد ولا تلقي الضربة الثانية من دون حماية الولايات المتحدة ومشاركتها. وقد أرسلت الولايات المتحدة فعلا بطارية صواريخ «ثاد» بطاقمها المكون من حوالي 100 عسكري، واحتياجاتهم من المعدات والذخائر التكميلية، لكن إسرائيل تطلب المزيد. وإذا تورطت واشنطن في حرب شاملة، فإن الحرب ستشتعل في المنطقة بأكملها، ولن تكون بعدها كما نعرفها حاليا. كما أن احتمال أن تتحول إلى حرب عالمية ثالثة يتزايد بقوة مع احتمال فوز دونالد ترامب في انتخابات الرئاسية الأمريكية. إذا حدث، فإن تلك ستكون اللحظة التي ينتظرها نتنياهو لتحقيق «هدم المعبد على رؤوس الجميع»! فلا تكون إسرائيل ولا يكون الشرق الأوسط، ولا يكون العالم كما نعرفه الآن. وإني لأعجب من سلوك دول عربية في تأييد ترامب، مع أن قصور الحكم في كل منها من زجاج أو هي أكثر وهنا من بيوت العنكبوت! إن فوز ترامب في الانتخابات الأمريكية هو حلم نتنياهو الذي جند له عملاءه داخل وخارج الولايات المتحدة، ومن العار أن تتورط أي دولة عربية في ذلك.
نتنياهو يثبت كل يوم أنه ليس خطرا على الفلسطينيين فقط، وليس خطرا على شعوب المنطقة فقط، بل إنه خطر على اليهود أنفسهم لأنه سيجلب عليهم كراهية العالم، وخطر على العالم كله لأنه يؤمن بالحرب أسلوبا للحياة والبقاء. ولن تكون الحرب العدوانية أبدا طريقا لتحقيق الاستقرار. وإذا كان إسحق رابين قد لقي مصرعه برصاص متطرف صهيوني مهووس بالحرب، فإن أنصار السلام ومحبي الحياة في العالم كله، يجب أن يعلموا أن نتنياهو قاتل مهووس يقف لهم بالمرصاد. لقد انتقلت الحرب إلى داخل إسرائيل. وشيئا فشيئا يتم نقل المجهود الرئيسي للمقاومة من الدفاع إلى الهجوم داخل ما تعتبره إسرائيل «الجبهة الداخلية». هذا سيستمر، لن يغير منه اغتيال قيادات الصف الأول للمقاومة. ولن يغير منه استشهاد عشرات الآلاف، أو ترحيل مئات الآلاف من الفلسطينيين. ومع انتقال الحرب إلى داخل إسرائيل فإن نتنياهو يريد فتح جبهات جديدة يبعد بها الحرب عن الجبهة الداخلية، وهو في ذلك كمن يهتف «داوني بالتي كانت هي الداء»! إنه يريد فتح جبهة قتال جديدة في القرن الافريقي، وإقامة قاعدة عسكرية في «أرض الصومال» بمساعدة دولة عربية والولايات المتحدة. وهو يهدف من ذلك إلى تحويل البحر الأحمر إلى بحيرة دم. فتح جبهات جديدة لن يجعل الشرق الأوسط أكثر أمانا، وتورط الولايات المتحدة في حرب شاملة ضد إيران لن يجعل الشرق الأوسط أكثر استقرارا.
القضية الأساسية المفتاح لإنهاء كل آلام شعوب الشرق الأوسط هي إنهاء الاحتلال الإسرائيلي وإقامة سلام للتعايش على أساس العدل. ضد الاحتلال تولد المقاومة. وإن عهد المقاومة هو النصر أو الشهادة. والمقاومة في جوهرها هي أعلى درجات ممارسة حق الدفاع عن النفس. وإن للفلسطينيين حق الدفاع عن أنفسهم كما لكل شعوب الأرض. وإنكار هذا الحق عليهم عداء لهم، وعنصرية باغية ضدهم، تتناقض مع كل قيم البشرية ونضالها من أجل الحرية والعدل والسلام.
كاتب مصري