الاغتيالات سياسة يائسة قصيرة الأجل، صحيح أنها قد تنجح أحيانا في قطف رؤوس قيادات رفيعة المستوى، عالية التأثير، لكنها في نهاية الأمر لا تقضي على المقاومة، ولا تغير «ميزان القوى»؛ فتلك القيادات التي تستهدفها إسرائيل بالقتل المتعمد صنعتها المقاومة. وتتعامى إسرائيل عن حقيقة أن الاحتلال يخلق المقاومة، لأنها نقيضه الذي لا يمكن أن يتعايش معه. ولهذا فإن المقاومة في جوهرها أكثر من مجرد أشخاص يتم اغتيالهم، وأعمق من مجرد أيديولوجية يتم تفتيتها أو تسميمها بالانقسامات، كذلك فإن المقاومة هي حقيقة غير قابلة للتزييف، مهما حاولت إسرائيل، ومهما حاولت أن تصفّ العالم ضدها، باعتبارها شكلا من أشكال الإرهاب. المقاومة تعبير عن إرادة التحرر الوطني. لقد اغتالت إسرائيل من قبل مؤسس حماس الشيخ أحمد ياسين، لكن حماس بقيت ونمت واتسع نفوذها، ولم تمت. وتحولت روح الشيخ أحمد ياسين إلى منظومة من القذائف الصاروخية، تفتك بأفراد ومدرعات الاحتلال حتى اليوم بعد مرور 20 عاما على اغتياله. واغتالت إسرائيل القائد العسكري لحزب الله عماد مُغنية، وهي لم تعترف بذلك رسميا، حتى اعترف رئيس وزرائها، وقت عملية الاغتيال، إيهود أولمرت أخيرا في حوار تلفزيوني مساء السبت الماضي على القناة 13 الإسرائيلية. ومع ذلك فإن حزب الله عاش وتمدد وأصبح أقوى عشرات المرات خلال الـ16 عاما الماضية منذ اغتيال مُغنية. وليس حسن نصر الله هو الزعيم الأول للحزب الذي اغتالته إسرائيل؛ فقبلة اغتالت عباس الموسوي، ليخلفه نصر الله في قيادة المسيرة. عين الحقيقة في كل ذلك هو أن المقاومة باقية ما بقي الاحتلال، حتى يزول.
رسالة نتنياهو
الدولة، أي دولة في العالم، هي حقيقة سياسية، وليست وعدا إلهيا يبرر قتل الرجال والنساء والأطفال وسرقة أراضيهم وممتلكاتهم، وبما أن الدولة حقيقة سياسية فإنها، في العصر الذي نعيش فيه، يجب أن تخضع للقانون الدولي، والقيم التي ارتقت بها البشرية. وتقع الدولة، أي دولة، في تناقض مع المجتمع الدولي، إذا هي أرادت أن تعيش بقانون خاص تسنه لنفسها، أو تسنه نخبة فيها، حاقدة على العالم، متطرفة متعطشة للدماء. وتريد إسرائيل أن تستمد بقاءها في العالم من نظرة استثنائية لنفسها على أنها دولة دينية – الدولة اليهودية الوحيدة في العالم، كما يحلو لهم أن يرددوا- تقوم على حق إلهي، تسمو به على المجتمع الدولي، وعلى شعوب العالم كله، وترتكب ما تشاء من جرائم وخطايا وذنوب باسم الرب. إنها تريد أن تشرع لنفسها قانونها الخاص الذي يحكم علاقاتها بالآخرين، وأن يخضع الآخرون له، وألا تخضع هي بأي شكل من الأشكال لما أجمع عليه الناس، واتفقت على الأخذ به دول العالم. وتعتقد النخبة الدينية المتطرفة المتعطشة للدماء التي تحكم إسرائيل في الوقت الحاضر بقيادة نتنياهو، أن لها الحق في أن تدوس على القانون الدولي، وأن تهزأ بقرارات المنظمات الدولية، وأن تمارس جرائم القتل والتخريب ضد الأفراد والشعوب، بلا نهاية حتى تحقق ما تريد. وقد وصل الأمر برئيس وزرائها في كلمته الأخيرة أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة أن يساوي، بتبجح لا مثيل له، بين إسرائيل والحقيقة المطلقة، وأن يزعم أنها تقاتل من أجل السلام!
المقاومة في جوهرها أكثر من مجرد أشخاص يتم اغتيالهم، وأعمق من مجرد أيديولوجية يتم تفتيتها أو تسميمها بالانقسامات، كذلك فإن المقاومة هي حقيقة غير قابلة للتزييف
قال نتنياهو لوفود الدول الأعضاء في الأمم المتحدة: «عندما تحدثت هنا في العام الماضي، قلت إننا نواجه الخيار الخالد نفسه الذي وضعه موسى أمام شعب إسرائيل منذ آلاف السنين، عندما كنا على وشك دخول (أرض الميعاد). أخبرنا موسى أن أفعالنا ستحدد ما إذا كنا سنورث الأجيال القادمة نعمة أم نقمة. وهذا هو الخيار الذي نواجهه اليوم: لعنة عدوان إيران المتواصل، أو مباركة المصالحة التاريخية بين العرب واليهود». وقال نتنياهو إنه «في الأيام التي تلت ذلك الخطاب، أصبحت البركة التي تحدثت عنها أكثر وضوحا، إذ بدا اتفاق للتطبيع بين المملكة السعودية وإسرائيل أقرب من أي وقت مضى». لكن جاءت ما سماها «لعنة 7 أكتوبر» لتوقف هذا التطبيع. نتنياهو يعيد بناء الأحداث القريبة، والتاريخ البعيد كيفما يشاء، ويضفى قداسة النبي موسى (عليه السلام) على أفعال المجرمين الذين يرتكبون جرائم الإبادة الجماعية بلا خجل. وكأن نبي الله موسى منح نتنياهو وسموتريتش وبن غفير تصريحا بالقتل والسرقة، وهو أيضا يبارك صفقة مزعومة مع العرب، مع أنه يقتلهم في فلسطين ولبنان وسوريا والعراق واليمن ومصر والأردن. ما قاله نتنياهو أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة يتكامل مع خطابه إلى الإسرائيليين باللغة العبرية مساء السبت الماضي. وهو عازم على مواصلة سياسة الكراهية والقتل والجرائم ضد الإنسانية، وكأن ضرب قلب بيروت وتخريبها هو رسالة محبة توجهها إسرائيل إلى عاصمة عربية مهيضة الجناح.
رسالة موجهة للشرق الأوسط كله
نتنياهو وقد اعترف بأن حسن نصر الله كان قلب ومركز محور المقاومة، الذي يصفه بأنه «محور الشر الإيراني»، وهو وصف مبتذل، يسعى من ورائه إلى ابتزاز دول عربية معينة، حتى تصطف معه ضد المقاومة وضد إيران، يتوهم أن غياب الرجل يغيّب المقاومة وينهي وجودها. وقد بلغت به أوهامه أنه خاطب الإسرائيليين فور عودته من نيويورك، قائلا، إن تصفية حسن نصرالله كانت شرطا ضروريا لتحقيق الأهداف التي حددتها إسرائيل: إعادة السكان النازحين في الشمال، وتغيير ميزان القوى في المنطقة لسنوات طويلة مقبلة. زاعما أيضا أن اغتياله سيدعو يحيى السنوار قائد حماس لقبول التفاوض من أجل استعادة المحتجزين الإسرائيليين. وهو بذلك يستدر تأييد الإسرائيليين القلقين من أجل العودة إلى مساكنهم في الشمال المهجور، أو آخرين منهم يريدون استعادة المحتجزين لدى حماس. الأهم في ما قاله نتنياهو بالنسبة للعرب والدول المحيطة بإسرائيل، هو أن اغتيال حسن نصر الله ليس رسالة موجهة فقط إلى حزب الله، بل هو «رسالة موجهة إلى الشرق الأوسط بأكمله، حتى يدرك الآن مدى قوة إسرائيل»، وأن إسرائيل تستطيع الوصول إلى كل من تريد وفي أي مكان، وأنها ستواصل الحرب حتى تحقق كل أهدافها أو ما عبر عنه بقوله «تحقيق النصر الكامل». وهو هدف فشل في تحقيقه في غزة، ولن يحققه في لبنان، ولا في أي مكان يتخذ من المقاومة سلاحا للحياة. وقد أتبع ذلك بضربات متتالية إلى لبنان واليمن وغزة والضفة الغربية.
قبل عملية اغتيال حسن نصر الله، كان نتنياهو يتحدث عن «تغيير توازن القوات» على جانبي الحدود الإسرائيلية اللبنانية. لكنه بعد عودته من نيويورك إلى تل أبيب استخدم في خطابه مساء السبت الماضي مصطلح «تغيير ميزان القوى» (balance of power) في الشرق الأوسط ككل، وليس «تغيير توازن القوات» (balance of forces) على جانبي حدود إسرائيل الشمالية. ويعني استخدام المصطلح الأول الأشمل أن نتنياهو يعتقد أن اغتيال نصر الله يعني إعادة تثبيت استراتيجية الردع الإسرائيلية، التي كانت حماس قد أسقطتها قبل عام تقريبا، وإطلاق حركة القوات الإسرائيلية، دون خشية ردود فعل غير محسوبة من الجانب الآخر، في لبنان وغزة والضفة (بما فيها القدس الشرقية)، وفي بقية الجبهات السبع التي تقول إسرائيل إنها تقاتل فيها (إيران وسوريا والعراق واليمن). هذا الاعتقاد بأن إسرائيل حققت تغييرا في ميزان القوى الإقليمي لسنوات مقبلة، يعكس حالة غرور القوة التي تسود في إسرائيل حاليا، وتعبر عن نفسها في وجود إجماع داخل النخبة الحاكمة في إسرائيل وأغلبية القوى المعارضة على ضرورة اجتياح جنوب لبنان بالقوات البرية، والتقدم إلى ما وراء نهر الليطاني إذا كان ذلك ضروريا. هذا الإجماع السياسي يعني ضمنا أن إسرائيل لم تحقق بعد التغيير المزعوم في ميزان القوى؛ فما تزال صواريخ حزب الله في لبنان تسقط على المنطقة الممتدة من شمال إسرائيل حتى تل أبيب. وما يزال الحزب يملك الصواريخ القادرة على ضرب إسرائيل، مداها يتجاوز 100 كم، حتى إذا رجعت قواته إلى ما وراء الليطاني. وما تزال المقاومة الفلسطينية في غزة والضفة الغربية تواصل عملياتها، حتى إن كانت أقل من حيث الحجم. وما تزال صواريخ اليمن والعراق والطائرات المسيرة حرة الحركة عبر الحدود في تهديد إسرائيل من يوم لآخر. ولن تستطيع القوة العسكرية الإسرائيلية، مع استمرار المقاومة، أن تنجح في تغيير ميزان القوى داخل المنطقة، رغم اعتمادها في التحليل الأخير أو الملاذ الأخير على الولايات المتحدة التي أمدتها بالصواريخ، التي اخترقت حصون مركز قيادة حزب الله في بيروت. كما أن نتنياهو لن يحقق الأهداف المعلنة لحرب لبنان، تماما كما فشل حتى الآن في تحقيق الأهداف المعلنة لحرب غزة.
كاتب مصري