كما كان منتظرا، بل وكما هو العقل الإسرائيلي، سايرت حكومة الحرب الإسرائيلية سيناريو عملية عسكرية في رفح لممارسة قدر كبير من الضغط على المقاومة الفلسطينية لإجبارها على ترك خطوطها الحمر في المطالبة بوقف دائم للحرب، وانسحاب إسرائيلي شامل من قطاع غزة، وكسر الحصار، وإعادة الإعمار.
المنطق الإسرائيلي في التفاوض، يناقض كل القواعد التي تدرس في فن التفاوض وتسوية النزاعات، فالكيان الإسرائيلي عبر حليفه الولايات المتحدة الأمريكية، هو الذي شارك في وضع الورقة التي عرضها الوسطاء على الطرفين، أي عليه وعلى قوى المقاومة الفلسطينية، ثم يضغط باستعمال كل الوسائل من أجل أن يستصدر رأيا إيجابيا من قوى الفصائل الفلسطينية، حتى إذا جاء هذا الرد، نكس على رأسه، ولم يجبره أحد على الرد في آجال معينة، بل يدلي بتصريحات تنتقد جواب حماس إن كان إيجابيا، ثم يختار أن يناور باستعمال أوراق أخرى، عسى أن يجبر قوى المقاومة عبر آلية الضغط والحصار والتجويع على خفض سقف ممانعتها، ليخرج الكيان الإسرائيلي بأقل الهزائم.
الذين يتابعون بدقة متناهية الشأن الإسرائيلي الداخلي، يعممون تحليلا يقول بأن رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو يغلب مصالحه الشخصية على الأمن القومي الإسرائيلي، وأنه يريد بالاستمرار بالحرب أن ينجو من المساءلة، وأن يعمر طويلا على رأس الحكومة الإسرائيلية.
لكن الاعتبارات الاستراتيجية تقول شيئا آخر، فإسرائيل التي لم تحقق أي نجاح عسكري لأكثر من سبعة أشهر، ولم تخلص ولو أسيرا واحدا من أسراها أو رهائنها المحتجزين لدى فصائل المقاومة الفلسطينية، وتزعم أنها قوضت البنية العسكرية لحماس، ولم يبق لها إلا بضع كتائب فرت إلى رفح على حد روايتها، تجد في الأخير على طاولة المفاوضات (سياسيا) عدوا عنيدا لم يقدم أي تنازل يذكر، بخصوص المحددات الكبرى التي تحكم عقله التفاوضي، فأقصى ما قدمته حماس في ردها على الورقة التي اقترحت عليها من قبل الوسطاء، أنها قدمت مرونة في تحقيب مراحل التفاوض (المراحل الثلاث) وخفضت «المقابل» في تبادل المحتجزين بالأسرى الفلسطينيين، وما عدا ذلك مما له علاقة بخطوطها الحمر الأربعة، ناهيك عن الأثمان التي ستطلبها من الكيان الصهيوني في صفقة تبادل الأسرى، فقد أجلتها حماس إلى المرحلة الأخيرة، أي إلى حين الاتفاق على الخطوط الكبرى للتفاوض، أي النزول عند خطوطها الحمر.
المتشائمون في قراءة التطورات الجارية، يرون أن إسرائيل غير جادة بالمطلق في إنجاح أي عملية تفاوض، وأن الفشل سيكون مصير هذه الصفقة كما كانت مصير الصفقات السابقة، لكن، سواء الذين يضخمون تأثير رئيس الوزراء في القرار السياسي الإسرائيلي والأمني، أو المتشائمون في قراءتهم لمسار التفاوض، والطريقة التي تتعاطى بها إسرائيل مع الوسطاء، فإنهم يتغافلون معطيات كثيرة، تحكم بأن إسرائيل، بصدد لعبتها الأخيرة، وأنها إن فشلت في إدارة هذه اللعبة، أو للدقة، فشلت في الحصول على ما تريد من خلال هذه اللعبة، فإن السقوط سيتجاوز حكومة نتنياهو وأسلوبها في إدارة الصراع مع حماس، وسيمتد إلى المشروع السياسي الصهيوني برمته.
يوم ينتهي مفعول هذه الورقة ـ ورقة رفح ـ لا يبقى لإسرائيل سوى أحد سيناريوهين: العودة لطاولة المفاوضات والقبول بهذه الصفقة، أو سيناريو المغامرة
الذكاء الأمريكي حاول أن يلعب بورقة التطبيع، وهدية إدماج المملكة العربية السعودية فيه، حتى يقنع إسرائيل، بأن ما خسرته في حربها مع حماس، ستكسب أضعافه بتطبيع السعودية ومن سيأتي بعدها، لكن المنطق الإسرائيلي، هذه المرة، يريد أن يخوض مغامرة كسب أمنه القومي، من خلال إبادة جماعية لقطاع غزة، تضمن من خلالها ألا تتكرر «مغامرة» طوفان الأقصى مرة أخرى.
التحولات الاستراتيجية، تقول: لا الذكاء الأمريكي، ولا الدرس الإسرائيلي، يرسمان السيناريو الجاري اليوم، فالمملكة العربية السعودية لا تجد أمام واقع الإبادة الجماعية في غزة ما يحفزها على خوض «مغامرة التطبيع» فقد كانت في شروط أفضل، ومع ذلك، ربطت تطبيعها بشروط سياسية، يبدو اليوم تحقيقها من قبيل الحلم، فيما المقاومة الفلسطينية، تقدم كل يوم دروسا في الصمود والمواجهة، وتصر على نفس شروطها في التفاوض، بما يعني أن دروس إسرائيل، هي مجرد استهلاك إعلامي للداخل، ليس إلا.
في التحولات الاستراتيجية، نتوقف على أربعة محددات أساسية: أولها أزمة الداخل التي تواجهها إسرائيل وحلفاؤها، والتي لا يلوح أي حل أو تسوية لها دون وقف الحرب، والثاني، هو العزلة الدولية لإسرائيل، والتي أضحت مع عملية رفح شاملة، حتى إن رئيس الوزراء الإسرائيلي نتنياهو صار يستعيد دروس المحرقة، ويوجه الخطاب للأمريكيين، بأنه تعلم من هذه الدروس أن يسير لوحده إن تطلب الأمر حماية إسرائيل، وهو ما يعني، شعورا عاما لدى صناع القرار السياسي الإسرائيلي، أنهم صاروا لوحدهم في المعركة، معزولين من أي سند، حتى من حلفائهم، الذين صاروا يعتقدون أن تقديم سند مطلق لإسرائيل في ظل الشروط القائمة، يمثل تهديدا سياسيا وانتخابيا يصعب تحمله، والثالث هو خسارة إسرائيل معركة الرأي العام، وحدوث تغير غير مسبوق في دعم الشعب الفلسطيني، والرابع، هو تحول المؤسسات الدولية، المعنية بالعدالة والحقوق الإنسان، إلى طرف مدين يتعقب إسرائيل، ويحاكمها دوليا، ويقدم سندا كبيرا لعزلها وتقوية الموقف الفلسطيني المطالب بحق الشعب الفلسطيني بالحق في الحياة والكرامة والخبز.
لنتأمل مؤشرين دالين اثنين نضيفهما إلى استمرار وفاعلية التهديد الذي يشكله دور الحوثيين في البحر الأحمر، ووقف تركيا للعلاقات التجارية مع إسرائيل بشكل نهائي، وتعليق الولايات المتحدة الأمريكية لشحنات الأسلحة لإسرائيل وتهديدها بإيقاف إمداد السلاح لها في حال اجتياحها لرفح، فهذان المؤشران يؤكدان سيناريو اللعبة الأخيرة، وأن إسرائيل، ليس أمامها أي ورقة أخرى تلعب بها إن أصرت المقاومة الفلسطينية على الصمود.
أخلاقيا وسياسيا واستراتيجيا، كسبت المقاومة الفلسطينية المعركة في إدارتها لفن التفاوض، فقد خرجت بردها الإيجابي من الحرج والركن الضيق، وألجأت إسرائيل إليه، والعالم اليوم، بما في ذلك الداخل الإسرائيلي، يرى بأن مشكلة التفاوض هي إسرائيل، وفي الحالة التي تنتهي فيها ورقة رفح، وهي لا شك تنتهي لنفس المآل الذي انتهت إليه مراحل الحرب المختلفة التي قسمتها إسرائيل دون أن يعرف الخبراء الحد الفاصل بين مرحلة ومرحلة، وماذا تحقق في الأولى حتى تم الانتقال إلى الثانية، وهل دخلت المرحلة النهائية، أم لا تزال. يوم ينتهي مفعول هذه الورقة-ورقة رفح-لا يبقى لإسرائيل سوى أحد سيناريوهين: العودة لطاولة المفاوضات والقبول بهذه الصفقة مع توقع تشدد فلسطيني في طلب الأثمان مقابل الأسرى (المرحلة الثالثة) أو سيناريو المغامرة، والاستمرار في حرب لا يعرف أحد مستقبلها ومصيرها، وفي هذه الحالة، فإن إسرائيل ستكون رسمت لنفسها مصيرها النهائي، أي السقوط والزوال، تماما، كما توقعت المقاومة وفصائلها.
كاتب وباحث مغربي