يبدو جليا أن نتنياهو لن يحيد عن التصلب السياسي والدبلوماسي الذي عهدناه متوارثا لدى المؤسسة الإسرائيلية، وهو شديد التمترس في الدفاع عن الوضع الراهن، لإدامة احتلال الأرض العربية، وبدا مندفعا ومتحمسا إثر فوزه بالانتخابات الأخيرة في إسرائيل بعد أن نال هدايا سخية من إدارة ترامب ذات النوازع المرضية الشبيهة بإدارة بوش الابن.
وبعد كل ذلك لم تكن الشعوب العربية لتتوقع ما هو غير متوقع من أصحاب «المعالي» و»الفخامة» و»السمو». فقد اعتادت اجتماعات الجامعة العربية أن تعكس حالة الانقسام العربي، وتفضح واقعهم المتخاذل أمام قضايا الأمة ومصائر الدول المؤسسة لهذا التشكيل الضعيف والمتهاون منذ تأسيسه، وإن كانت الإرادة الأخلاقية هي الحصان الذي يقود العربة، والإرادة السياسية هي العربة فقط، فإن تكرار المصطلحات نفسها بلغة تنديد مستهلكة وممجوجة في كل بيان ختامي لما اُصطلح على تسميته «قمة» تؤكد فقدان جميع الإرادات، فما بالك بمواصلة التمسك بمبادرة السلام العربية التي تتجاهلها إسرائيل تماما، وتتمادى في الاستيطان والقتل والتدمير وضم الأراضي العربية. ومثل هذا الجمود العربي الاختياري لم يدرك بعد، أن المعسكر الاسرائيلي الأمريكي يلفظُ مساعي السلام والتسوية، التي أصبحت عنوان حماسة ببغائية لمن يرددها من العرب، ويخادعون أنفسهم أملا في من يدعي الصدق والوساطة وهو أقوى ظهير لإسرائيل، يشاركها إدارة الأزمة وإطالة المأساة .
ولعل التوجس الذي أظهرته أمريكا وإسرائيل من الانتفاضات العربية، والسعي الدؤوب لاحتوائها، خير دليل على أن الأمر غير مرغوب فيه، وشعار تصدير الديمقراطية، الذي تردد من واشنطن وكان مبررا لغزو العراق، انكشف زيف ادعائه، فالمحبذ لدى واشنطن وتل أبيب الاستقرار الإقليمي الذي تضمنه الأنظمة السلطوية، ولا يمكن لما حدث من انتفاضات أن يخدم مصالح إسرائيل وأمريكا، أفضل مما فعله السلطويون، لذلك لا يمكن أن نُصدق أن هؤلاء يعنيهم تغير المشهد السياسي في المنطقة، وترسيخ الديمقراطية بديلا للطغيان السياسي. فقد عمق الربيع العربي الصراع الإسرائيلي مع الفلسطينيين، وتوالت مسيرات العودة تساوقا مع غضب شعوب المنطقة وتحركاتها الاحتجاجية، ومن المثير للانتباه أن يتخوف الإسرائيليون من الاحتجاجات التي سادت المنطقة العربية، وكان جوهرها المطالبة بإحلال الديمقراطية، وإقصاء أنظمة الحكم الفاسدة والديكتاتورية. فقد اعتادت إسرائيل اعتبار نفسها «دولة ديمقراطية» في محيط إقليمي تسلطي، تحْكُمه أنظمة قمعية لا تحترم حقوق الإنسان، وإذ بها تكشف عن مخزون منَ الخوف منْ أن التحول من السلطوية الاستبدادية إلى الديمقراطية التشاركية داخل المجتمعات العربية سيُولد عدم الاستقرار. وقد فضحت بذلك تناقضاتها التاريخية، ودعمت الفوضى والاحتراب في أكثر من بلد عربي، خاصة في سوريا واليمن والسودان، في تناغم وانسجام مع المملكة السعودية والإمارات المتحدة، وتعمل مثل هذه القوى الإقليمية بإيعاز غربي مباشر، على منع أي نتيجة ثورية مثمرة إيجابا في أي قطرٍ من الأقطار، التي عرفت حركات شعبية احتجاجية.
المراكز الإقليمية للثورة المضادة معروفة وتستخدم عوائدها النفطية الهائلة لإسكات الانتفاضات الجماهيرية
المراكز الاقليمية للثورة المضادة أصبحت معروفة، وهي تستخدم عوائدها النفطية الهائلة لإسكات الانتفاضات الجماهيرية التي تنشد الحرية والعدالة الاجتماعية والتغيير السياسي، وتبحث عن فرص اقتصادية أفضل، بما يفضي إلى حياة كريمة داخل الأوطان، وشعارات «الكرامة الوطنية» التي صدحت بها الحناجر في أكثر من قطرٍ عربي عبرت بوضوح عن نفاد الصبر من عقود الركود السياسي والاقتصادي والاجتماعي، ولكنها أهملت إلى حد كبير فلسطين وكل عناوين التضامن الوحدوي والتكامل القومي العربي، الأمر الذي جعل البعض يدعي أن الانتفاضات العربية كشفت أخيرا «النظرية الزائفة» بأن فلسطين هي القضية المركزية لدى الأنظمة العربية، بينما هي في الواقع ليست سوى تضليل من جانب الطغاة الذين حكموا ويحكمون، ومثل هذا الادعاء لا يمكن أن ينسحب على الشعوب بالتأكيد، وإن كان يدعم تلك المعتقدات الراسخة لدى أنصار إسرائيل في الأوساط الغربية التي تعتبر أن فلسطين «قضية هامشية» يتعمد الحكام العرب تضخيمها ويتاجرون بها قولا وشعارا، من دون فعل يُذكر، لصرف اهتمام شعوبهم عن أوضاعها الاجتماعية والمادية المزرية. يبقى الفعل الثوري عنوان تجديد الأمل للشعوب العربية ولفلسطين، وتغير الأنظمة التي لم تقدم شيئا يُذكر للقضية الفلسطينية، قد يأتي بإصلاح سياسي حقيقي وبإرادة عربية تستعيد الموضوع الفلسطيني، كعنوان للكرامة بما يعنيه ذلك من انهاء الخضوع المفضوح للولايات المتحدة وإسرائيل واسترجاع الحقوق العربية والفلسطينية المسلوبة.
كاتب تونسي