بعد أحداث متسارعة دامت 11 يوما فحسب، أنجز السوريون، فجر أمس، انقلابا دراميّا تاريخيا هائلا، ختموا به ثورة دامت 13 عاما، فأسقطوا أحد أكثر الأنظمة وحشية وإجراما وفسادا في المنطقة.
تمكن السوريون من فعل ذلك رغما عن كل العوائق الرهيبة، بدءا من العنف الأعمى للنظام منذ الأيام الأولى للاحتجاجات السلمية، وهو عنف انتقل تدريجيا من أشكال القمع والقتل والاعتقال إلى عمليات إبادة وتغيير ديمغرافي وتطهير طائفي؛ مرورا بالتدخلات العسكرية الخارجية التي دمّرت مدنا وحواضر وشرّدت الملايين؛ وترافق ذلك مع أطوار من التواطؤ الدولية والعربية سعت بالطرق الاصطناعية لإطالة عمر نظام ميّت سريريا.
بعد 55 عاما من قيامه، انهار نظام آل الأسد الرهيب مثل تمثال ملح هشّ بعد أن فاجأت فصائل المعارضة السورية الإسلامية المنزع، والقادمة من الشمال العالم باقتحام مدن حلب وحماة وحمص.
في تلك الأثناء، سيطر مسلحون من أطياف متعددة، على جنوب سوريا. جرى ذلك في درعا، المدينة التي انطلقت منها الثورة، وقمعت بوحشية، مما أبقى ثأرها مع النظام مشتعلا، ومحافظة القنيطرة، التي تركها النظام عاصمتها مشلولة وفارغة عبر اتفاق هدنة مع إسرائيل بعد حرب 1973، ومحافظة السويداء، التي تواصل الاحتجاجات الشعبية منذ عام 2022، وخلال زحف مقاتلي الشمال والجنوب نحو العاصمة، فاجأت أرياف دمشق، وبعض أحيائها (التي سامها النظام وحلفاؤه أنواعا فظيعة من العسف خلال بدايات الثورة، وخصوصا في داريّا) الجميع بالانتفاض والسيطرة على المربّع الأمني، ورئاسة الأركان، والإذاعة والتلفزيون، والقصر الجمهوري، وغيرها من مراكز القيادة والسيطرة، وبث الإعلام الرسمي خبر سقوط «النظام المجرم» وهروب الطاغية.
حاول الأسد، خلال ساعات النزع الأخيرة للنظام، على ما تشير التوقعات، الفرار بطائرة اتجهت إلى الساحل السوري، ثم استدارت نحو الساحل اللبناني، ثم اختفت عن شاشات الرادار، فيما أعلنت أنباء أخرى احتمال تحطّم الطائرة.
يبدو أن وجهة الأسد الأخيرة لم تكن موافقا عليها من أي دولة أخرى، وحين سئل مسؤول في الإمارات، البلد التي كانت مرشحة لاستقباله، عن قدوم رأس النظام المنهار، قال إنه لا يعرف، وهو أمر يدلّ على أن الأسد صار مسؤولية جسيمة وعبئا ثقيلا على أي دولة في العالم.
تلخّص النهاية التراجيدية لنظام الأسد ختام انحراف تاريخي هائل، فعلى عكس ما كان النظام يردّد، خلال أيام شعبويته الأيديولوجية، شعارات الوحدة، فقد كان النظام، في مجمل حقبته نموذجا للعداء لجيرانه العرب وممارسة البلطجة والإرهاب في لبنان والأردن والعراق، كما ساهمت ممارسات النظام الطائفية شرخا في التاريخ الأموي شديد الأهمية لشعبها.
شكّل النظام أيضا «استعصاء» سوريّا، وعربيا، وعالميا، لا يحتمل.
ترافق الرعب الأقصى الذي قاساه السوريون، تحت حكم الأسد، مع اليأس من إمكانية تحرّك العالم لصالحهم، فتحوّلت شعاراتهم الأولى من شعار إسقاط النظام إلى «ما إلنا غيرك يا الله» ووصل اليأس إلى أقصاه مع رؤيتهم إمكانيات نجاة النظام وتطبيع العرب والعالم معه.
دفع القهر السوريين ليصبحوا أكبر هجرة بشرية في العصر الحديث، وفيما نجح أكثر من مليون منهم في الوصول إلى أوروبا وبلاد الغرب، فقد بقي قرابة 8 ملايين في مخيّمات في تركيا والأردن ولبنان والعراق، وفي سوريا نفسها التي نزحوا إلى مناطق فيها، وعانى هؤلاء ظروفا قاسية، كما عانى الباقون تحت حكم الأسد، من أشكال الشظف والفقر والفساد والمهانة.
يؤدي سقوط النظام إلى انفتاح احتمالات انفراجات كبيرة، لصالح السوريين أولا، الذين سيعود الكثير منهم بسرعة إلى مدنهم وبلداتهم وقراهم التي هجّروا منها، وللبلدان الجارة القريبة، حيث سيتخلّص لبنان من الطغيان والتحكّم والإجرام الذي عانى منه طوال عقود الحكم الأسدي، وسيتوقف تهريب المخدرات والبلطجة ضد الأردن، وسيساهم التواصل الإيجابي، بين عاصمتي الأمويين والعباسيين، في استعادة توازن تاريخي مفتقد، وستستعاد العلاقات مع تركيا، ومع الأشقاء العرب، وكذلك مع الدول الغربية، التي سارعت إلى الترحيب بسقوط النظام، وربما ستنعكس العلاقات الجديدة بشكل إيجابي على العلاقات مع الشعوب الروسية والإيرانية.
إسقاط النظام السوري، بكل المعاني، هو بداية إيجابية جديدة للعالم، وسيكون يوم 8 كانون أول/يناير حدثا يغيّر معادلات المنطقة.