لم يكن استهداف طائرة التجسس الأمريكية الضخمة “غلوبال هاوك” واسمها يعني بالعربي “الصقر العالمي” خطأً أو ردة فعل طبيعية لعبور طائرة من دولة معادية الأجواء الإيرانية، بل كانت عملاً منظما نفذ عن قصد بعد جهد استخباراتي واسع شاركت فيه “خلايا إيران الصامتة” في الإقليم. وقد أشار قائد الحرس الثوري الإيراني إلى أن طائرة عسكرية أمريكية كانت تقل 35 أمريكياً كانت ترافق الطائرة المسيرة التي أسقطت قائلاً “عندما رصدنا طائرة التجسس كانت هناك طائرة تجسس أمريكية أخرى تحت اسم p-8 تحمل 35 شخصاً برفقتها لكننا امتنعنا عن ضربها” رغم أنها كانت فوق المياه الإيرانية، ما يعني أن إيران لا تريد التصعيد وقد أرسلت رسالة إلى واشنطن بأن تتجنب هي أيضاً التصعيد.
الطائرة استهدفت وأسقطت لتوجه من خلالها إيران عدة رسائل في آن أهمها أنها مستعدة للمواجهة والذهاب إلى أبعد مدى في حرب مفتوحة تحرق الأخضر واليابس.
وبينما كان المحللون الاستراتيجيون يبحثون في كيفية الرد الأمريكي على ما سمي من قبل أعضاء نافذين في الكونغرس بالإهانة الإيرانية، وقال البعض إنه “ابتزاز” تمارسه طهران بإسقاطها الطائرة الأمريكية بدون أن تحصل على عقاب، كان أنصار الله وحلفاؤهم في اليمن أعلنوا عن استهداف لأول مرة منذ اندلاع الحرب على بلادهم محطة كهرباء، وأتبعوه بتصريح لافت لمتحدث عسكري رسمي (يوم إسقاط الطائرة الأمريكية) أنهم سينفذون عمليات نوعية لم تخطر على بال وأن لديهم دفاعات جوية لم يستخدموها بعد ستغير المعادلة، قائلاً “لدينا تقنيات متطورة لا تستطيع المنظومات الاعتراضية الأمريكية وغيرها المنتشرة في السعودية التعامل معها” ووعد باستهداف المزيد من محطات الكهرباء وبعدها محطات تحلية المياه ومطارات دولية كبرى في المنطقة.
ويقول وزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف إن “الصقر العالمي” تكسرت أجنحته في السواحل الإيرانية، وأن بلاده تملك بقايا حطام الطائرة للتأكيد على صحة روايتهم.
وسارعت طهران إلى تقديم شكوى لدى الأمم المتحدة ضمّنها إحداثيات الطائرة الأمريكية التي أسقطها الإيرانيون بمنظومة “الثالث من خرداد” المحلية الصنع وهذه أيضاً رسالة لها مغزى عن قدرة هذه المنظومة في استهداف طائرات F22 وF35
وجاء في الرسالة الإيرانية إلى أمين عام الأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش “إسقاط الطائرة الأمريكية تم بعد عدة انذارات وفي إطار المادة 51 من ميثاق الأمم المتحدة، وأن الانتهاك الأمريكي للأجواء الإيرانية يتناقض مع البند الرابع من المادة الثانية من ميثاق الأمم المتحدة”.
تدرك طهران جيداً أن الرئيس الأمريكي ترامب في وضع لا يحسد عليه بعد يوم من تدشينه رسمياً حملته الانتخابية، وقد استهدفت الطائرة الأمريكية بشكل مدروس وبجهد استخباري عالي المستوى حدد خروج الطائرة من مربضها في دولة عربية وتحركها باتجاه مضيق هرمز وبحر عمان ثم توجهها نحو أجوائهم المحلية وهناك كان القرار جاهزاً بإطلاق صاروخ عليها وتصوير ذلك.
وبدا واضحاً تماماً أن الرئيس الأمريكي الذي قدم له خبراء البنتاغون خيارات مختلفة للرد على إيران وكلها عسكرية، اختار الاستمرار في سياسة اللاحرب رافضاً تحمس البعض لرد عسكري وإشعال المنطقة، ومرجحاً الاستماع لأصوات رافضي الحرب في واشنطن بينهم زعيمة الديمقراطيين رئيسة مجلس النواب نانسي بيلوسي.
وقالت بيلوسي: “هذا موقف خطير وشديد التوتر يتطلب نهجاً قوياً وذكياً واستراتيجياً وليس متهوراً. لا أعتقد أن الرئيس يريد خوض الحرب. ليست هناك شهية في بلادنا لخوض الحرب”.
وبالفعل سارع ترامب مرة أخرى إلى إرسال رسالة جديدة إلى إيران وعرض المفاوضات حول مسائل محددة عبر سلطنة عمان التي استضافت في اليوم التالي لاندلاع الأزمة وزير الخارجية العراقي محمد علي الحكيم وهو يحمل أفكاراً للتهدئة من مبدأ حسن الجوار.
تهدئة أم مفاوضات؟
رسالة ترامب الأخيرة غداة إسقاط “الصقر العالمي” تعاملت معها طهران بمرونة أكبر وأبلغت الناقل العماني بأنها متأهبة لأي طارئ وإصبعها على الزناد لكنها مستعدة أيضاً لفتح صفحة جديدة مع ترامب فور عودته إلى الاتفاق النووي المصادق عليه بقرار مجلس الأمن الدولي رقم 2231 ورفع العقوبات. وقال مسؤول إيراني للعمانيين: “العقوبات والحرب وجهان لعملة واحدة، واستمرار العقوبات يؤدي للحرب شئنا أم أبينا ونحن جاهزون لها لكننا مستعدون أن يخرج ترامب رابحاً إذا عاد للاتفاق النووي ورفع العقوبات” مشيرين إلى أن مجرد الدخول مع الرئيس الأمريكي في مفاوضات سيدعمه في الانتخابات الرئاسية المقبلة، فالمفاوضات التي يريدها ترامب مستخدماً الضغوط الاقتصادية وإيجاد أجواء الحرب لن تجدي نفعاً مع إيران.
كذلك استثمرت طهران زيارات موفدين لها بالإبقاء على كوة صغيرة مفتوحة مع الاتحاد الأوروبي بإعلانها عدم الانسحاب من الاتفاق النووي، لكنها لوحت بالانسحاب من معاهدة عدم الانتشار النووي حسب ما تسمح به المادة 17 من المعاهدة. وقد أبلغت طهران زائريها أنها قد تنسحب من معاهدة الحد من الانتشار بسبب ضغوط البرلمان والشارع ما لم ينفذ الأوروبيون آلية للالتفاف على العقوبات.
أخيراً، أرسلت طهران رسالة أخرى من خلال تبنيها بشكل رسمي عملية إسقاط “الصقر العالمي” وهي أنها تفصح عن عملياتها العسكرية وتتحمل المسؤولية فيها، لكن ماذا عن تفجيرات الفجيرة والهجوم على ناقلات النفط في بحر عمان وهي ربما ستستمر وسيستمر الفاعل فيها “مجهولاً” ألا يمكن أن تؤدي إلى اندلاع حرب لا يرغب بها ترامب الغارق في معركة الانتخابات مع منافسين شرسين يرفضون الذهاب إلى حرب مع إيران؟
فهل ستنجح الوساطات وهي كثيرة أم سيعض ترامب على يديه إذا لم يحسن استخدام الورقة الإيرانية في الانتخابات الأمريكية؟