إسلام ميمونة

حجم الخط
5

مع حلول شهر رمضان تبدأ حياة المجتمع الإسلامي تتخذ طابعا مختلفا عن باقي الشهور. استعدادات لإعداد «الشهيوات» من المآكل والمشارب، وإعلان عن الإقلاع عن بعض «الشهوات»، وإصرار على تبادل رسائل التهاني والدعاء بطول العمر، ليعيده الله علينا بالصحة والعافية واليمن والبركات.
شهر كريم فعلا بكل شيء. تتغير فيه برامج الإذاعات والقنوات، وتسهر السلطات على توفير المواد الغذائية ومراقبة الأسعار، وتمتلئ ساحات المساجد في كل الأوقات عن آخرها بالمصلين والمصليات، لا فرق في ذلك بين العشاء والفجر. تمتد موائد الرحمن في بعض المناطق، ويقبل الناس على إفطار غيرهم من العزاب والمشردين، وحتى الجمعيات الثقافية تحرص على جدولة أنشطة ثقافية، ناهيك عن الخطباء والوعاظ،، ولائحة التغييرات لا حصر لها. إنه فعلا شهر مختلف عن كل الشهور القمرية وحتى الشمسية التي يعيشها المسلمون. إنه شهر التغيير الذي بانتهائه تعود حقا الحليمات إلى عاداتهن القديمات، في انتظار حلول الأسبوع الأخير من شعبان آخر ليبدأ الإعداد والاستعداد لقدوم الشهر الفضيل.
لا أخفي حبي لهذا الشهر. ومن عاش طفولته في الأحياء الشعبية لا يمكنه إلا أن يقر بعظمة هذا الشهر وخصوصياته، لكن أهم ما كنا نستشعره في هذا الشهر هو الأمان ليلا، حيث كانت تزول نهائيا المعارك التي يتسبب فيها السكارى من الفتوات والمنحرفين من الشباب. هذا إلى جانب كونه يكسر الكثير من العادات التي ألفناها، ويخلق ألفة جديدة بين الجيران. يدفعني هذا الشهر إلى طرح الكثير من الأسئلة المتصلة بالدين والمجتمع والفرد. وفي خضم ما آل إليه المجتمع الإسلامي منذ بدايات هذا القرن أجدني أبدا أتساءل: ما موقف المثقفين من الإسلام؟ ما هي الكتابات التي يمكن أن تقدم لنا صورة جديدة، وبديلة عنه في الحياة العامة؟ وكيف يمكن الارتقاء به لتحقيق نصيب مما جاء به لتحقيق إنسانية الإنسان المكرمة؟
منذ أكثر من ثلاث سنوات كتبت عن «الإسلام الثقافي» الذي قدمته بديلا عما صار متداولا تحت مسمى الإسلام السياسي. وكان السؤال الذي يؤرقني دائما هو: بماذا نحن مسلمون؟ وما الذي يحدد إسلامنا؟ وإذا كان القرآن الكريم يميز بين الإسلام والإيمان، ما الذي يجعل المسلمين يقفون عند حد الإسلام، ولا يتجاوزونه إلى الإيمان؟ وهل بالإمكان الارتقاء إلى الإحسان؟ لماذا حين يزور مسلم بسيط بلدا غربيا، ويرى الحياة اليومية المختلفة عما يعيشه في وطنه، وكيف يتصرف الناس، وكيف تشتغل الإدارات والقطارات، يصرخ: الإسلام الحقيقي هنا، ونحن مسلمون فقط باللسان؟ فهل هناك إسلام حقيقي؟ وآخر مزيف؟ كيف يفكر المسلمون في الإسلام؟ أسئلة كثيرة تفرض نفسها حين تتصل بالسلوك الفردي والتعاقد الاجتماعي، لأنها تدعونا إلى التفكير في الإسلام باعتباره ثقافة وموقفا من الحياة، وليس فقط شعائر وطقوسا.

من عاش طفولته في الأحياء الشعبية لا يمكنه إلا أن يقر بعظمة هذا الشهر وخصوصياته، لكن أهم ما كنا نستشعره في هذا الشهر هو الأمان ليلا، حيث كانت تزول نهائيا المعارك التي يتسبب فيها السكارى من الفتوات والمنحرفين من الشباب.

يمكننا إعادة صياغة كل الأسئلة الممكنة في سؤال واحد: لماذا لم يؤدب الإسلام المسلمين فيحسن تأديبهم؟ وما الذي قصر بهم عن أن يكونوا خير أمة أخرجت للناس، وفي طليعة الشعوب في العصر الحديث؟ هذه هي الأسئلة التي أرى ضرورة طرحها عن الإسلام في زماننا. إنها أسئلة الإسلام الثقافي.
منذ عصر النهضة إلى الآن كان السؤال حول الدين عموما، والإسلام خاصة، ذا بعد سياسي. فظهر الخطيب والواعظ، أي الشيخ الذي يدافع عن الإسلام من منظور أنه صالح لكل زمان ومكان. وبرز الصحافي والكاتب العصري، أي المثقف الذي يرى أن الدين أفيون الشعوب. ووقف كل منهما عند هذا الحد لا يزيد ولا ينقص. وظل التجاذب بينهما والتصارع بينهما قائما إلى الآن. وكل يلقي باللائمة على الآخر باعتباره سبب التعثر والتخلف. وبين الشيخ والمثقف كان الشعب يمارس إسلامه بعيدا عن السجال والصدام، وهو يتشبث به، ويمارسه ثقافة ومتخيلا غير آبه بما يدور حوله. كان إسلام الشعب بسيطا بساطة «إسلام ميمونة»، كما في المثل المغربي. كانت ميمونة أمية، ولا تحفظ شيئا من القرآن. ولا تزيد في كل صلواتها وأدعيتها إلا على قول: «ميمونة تعرف ربي، وربي يعرف ميمونة». إعادة التفكير في الإسلام رؤية للإنسان وتنظيم لحياة الناس بما يضمن سعادتهم الدنيوية والأخروية مطلب حيوي لتجديد فهمنا للإنسان وللعلاقات الاجتماعية. أما الوقوف على الجزئيات والتفاصيل المبنية على الخلاف فلا يمكنها إلا أن تسهم في تعميق الهوة وإعطاء من يتحدث باسم الإسلام شرعية الدفاع عما يراه مستهدفا من لدن أعدائه. لم يجدد الشيخ أسئلته، وظل المثقف يدور في العموميات. فما هي الحصيلة: إسلام بدون رؤية ولا بحث. أقاويل مغرضة وفتاوى باطلة.
إن اعتماد البحث العلمي في الإنسانيات والعلوم الاجتماعية في المجال العربي كفيل بتغيير النظر إلى الإسلام الثقافي. كما أن تطوير الدراسات الإسلامية العربية رهين بإعادة النظر في العديد من التصورات الجاهزة. من السهولة بمكان الطعن في التراث الإسلامي، وأسهل منه الدفاع عنه. لكن تجديدَ النظر في الإسلام لدى الحداثي والتقليدي لتجاوز «إسلام ميمونة المثقفية» يتطلب جهد العالم الجاد، وأخلاق الباحث الحصيف، صعب طويل سُلّمه.

٭ كاتب مغربي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول .Dinars.:

    ” ميمونة تعرف ربي وربي يعرف ميمونة “.

  2. يقول علي:

    المشكل الحقيقي هو وجود الحكم العسكري الاستبدادي المنشاري الذي يستأصل الإسلام ويحاربه تحت لا فتة الإرهاب أو التطرف أو التشدد، ويتدخل في اختيار الخطباء والأئمة والوعاظ من أشباه الأميين الذي لا يحسنون حفظ القرآن الكريم ولايتقنون اللغة ولا يفقهون معنى الدعوة، كما منعوا تدريس الإسلام في المدارس والجامعات أو جعلوه مقررا لا قيمة له ولا يضاف إلى المجموع، فنشأت أجيال لا تعرف شيئا عن دينها ولا قيمه ولا سلوكياته، بينما تضخ في آذانهم ليل نهار عبر الميديا أسوأ مافي الغرب من قيم وسلوكيات، ناهيك عن تخليق نخبة ثقافية ترى أن التقدم والتحضر والتنوير والحداثة تتمثل في سحق الإسلام واستئصاله من النفوس والقلوب!

  3. يقول Naila:

    سعدت بقراءتي لهذا المقال .

  4. يقول S.S.Abdullah:

    هل عنوان (إسلام ميمونة) للمسخرة والتهريج يا (د سعيد يقطين) كحل وسط بين صراع الشيخ والمثقف، في دولة الحداثة تحت حكم آل البيت في المغرب/الأردن، أم ماذا؟

    أنا أظن ما ورد في مقالة (نزار بولحية) في نفس العدد تحت عنوان (مساواة رمضان بشعبان في تونس!) أحب أعيد صياغته (الفوضى الخلاقة للضبابية اللغوية تساوي ديمقراطية التوافقية الشرعية) على حساب معنى المعاني في قواميس وهيكل أي لغة، هو إشكالية دولة الحداثة،

    ليس هناك مفهوم للزمن في دولة أساسها النظام الربوي والتأمين عليه، لرفع المسؤولية عن الموظف، وذلك بالتأكيد على حساب الإنسان والأسرة والشركة المنتجة في الدولة.

    الفضيحة بعد ذلك عندما يلطم خدوده الموظف العالة/الآلة في الأجهزة الأمنية والعسكرية والقضائية والإعلامية لماذا لا يتم تسديد راتبه في الموعد.

  5. يقول S.S.Abdullah:

    فالضرائب والرسوم والجمارك لتمويل حروب الجيش والأجهزة الأمنية والقضائية والإعلامية العبثية وغير المنطقية ولا الموضوعية ضد الإرهاب، بعد 11/9/2001 من أجل المحافظة على كرامة وسمعة موظف الدولة في أمريكا أو الكيان الصهيوني أو آل البيت،

    على حساب جودة وكفاءة الخدمات، التي يجب أن تقدمها الدولة للإنسان والأسرة والشركة المنتجة في الدولة وهنا هي المأساة على أرض الواقع.

    أو بمعنى آخر، لماذا ثار أهل السودان والجزائر في عام 2019؟!??
    ??????

إشترك في قائمتنا البريدية