تتجذر إشكالية القبلية في التركيبة الاجتماعية في المجتمعات العربية المعاصرة، فمن الثابت أن المشكلة القَبْلية، حاضرة في التأثير الثقافي العربي، وتبدو في تفاعل القبائل العربية التي هاجرت من الجزيرة العربية منذ قرون بعيدة مع السكان الأصليين، وعملية التأثير والتأثر التي تمت، وأثّرت في تكوين اللهجات المحلية، ولا شك في أن هناك امتزاجا بين السكان في أقاليم العروبة وأقطارها المختلفة، وأن مفهوم الوطنية بدلالته الحديثة صاغ شخصية عربية جديدة، لها أبعادها الإيجابية، فمفهوم المواطنة جوهره الانتماء إلى وطن بحدود معلومة، بما يدفع سكانه إلى إقامة علاقة اجتماعية تقوم بين بعضهم بعضا من خلال التواصل المكاني الحميم، كما يجعلهم يقيمون علاقة طاعة مع سلطة الدولة، بأن يقدم المواطن الولاء للدولة، التي تقوم بحمايته وتقديم أوجه الرعاية له، كما يولّد شعور الفرد بالروابط المشتركة بينه وبين أفراد الجماعة الوطنية؛ وأبرزها رابطة: الدم، والجوار، والموطن، وطريقة الحياة بما فيها من عادات، وتقاليد،، ونظم، وقيم، وعقائد، ومهن، وقوانين.
وأيضا شعور الفرد باستمرار بانتمائه إلى هذه الجماعة في أزمنة عديدة، وأنه ابن لهذه الجماعة نسبا وإقامة، وأنه وجيله بذرة المستقبل، وانعكاس كل ما يصيبها على نفسه، وكل ما يصيبه عليها، واندماج هذا الشعور في فكر واحد، واتجاه واحد، وحركة واحدة، ما يعزز تيار الروايات الوطنية، التي تتناول جهاد الشعوب العربية ضد الاحتلال الأجنبي، وكيف أن مفهوم الوطن كان في وعيها، جنبا إلى جنب مع مفهوم الجهاد والنضال، كما تتناول هذه الروايات مراحل النهضة المحلية، وما صاحبها من مشكلات، وأيضا ظاهرة الهجرة داخل أقطار العالم العربي، أو إلى خارجها، وتغوص في مسبباتها الاجتماعية والاقتصادية، وتنظر أيضا في المشكلات السياسية التي عصفت بأقطار العروبة، بعد مرور أكثر من ستة عقود على التحرر من الاستعمار، وإظهار مآلات الحكومات التي تولت السلطة في بعض الدول القطرية، وما قامت به نحو شعوبها، ما أوصل مشروع الدول القطرية إلى آفاق مسدودة، نراها جميعا ماثلة، في الأزمات الحادة التي فككت بعض الدول، وانهارت أنظمتها.
وهنا نؤكد على أهمية عدم التغاضي عن الحضارات السابقة على الحضارة العربية الإسلامية، خاصة بعد التقدم الكبير في علوم الآثار، وتدوين تاريخ هذه الحضارات، واعتزاز الإنسان العربي بجذور حضارية تمتد إلى آلاف السنين، ضمن ما يسمى التنوع التاريخي الحضاري، الذي لا ينفي حضارة أخرى، بل يعتز الفرد العربي بكون الجغرافيا العربية كانت حاضنة لحضارات قديمة زاهرة، مثلما احتضنت الحضارة الإسلامية، وهو ما انعكس إيجابا على توظيف الرواية العربية لأساطير هذه الحضارات، وأيضا على الروايات العربية التي تناولت التاريخ الإسلامي؛ الشخصيات والأحداث، والأمجاد، والصراعات، وهذه روايات وإن كانت تتخذ التاريخ موضوعا، إلا أنها تنظر للإنسان الحاضر، تعزز فيه الانتماء الحضاري، وتعطيه امتدادا تاريخيا ـ وتستدعي البطولات في أزمنة الانكسارات، والأهم أنها تصوغ التاريخ سردا مشوقا.
يضاف إلى ما تقدم، موقف الهوية العربية الإسلامية المتسامح مع عرقيات، تمثل هويات أخرى، تعيش بين ظهرانينا، ممثلة في الأقليات غير العربية، مثل الأكراد، والأمازيغ، والنوبيين، فهؤلاء نعتز بتنوعهم الثقافي، وتميزهم اللغوي، وإن كان الكثير منهم يتكلمون ويكتبون ويبدعون باللغة العربية، وقد تناولت روايات عربية عديدة مشكلاتهم وقضاياهم، وأيضا ثقافاتهم وعاداتهم وتقاليدهم، التي لا تبتعد كثيرا عن الهوية الثقافية العربية، على أساس أن الإسلام يشكل قاسما مشتركا بين الثقافة العربية وثقافة الأقليات، وفي هذا الصدد، لا نؤمن بكل المحاولات التي جرت من أجل طمس هويتهم اللغوية، وإذابتها في القومية العربية، وإعمال مفهوم الهيمنة الثقافية للثقافة العربية كونها ثقافة رئيسية على ثقافة الأقليات، بوصفها ثقافة فرعية أو ثانوية، فلا داعي لما سماه لويس كافيلي «صراع اللغات» في كتابه «حرب اللغات والسياسة اللغوية» (المنظمة العربية للترجمة، بيروت، 2004) ويعني: الصراع الذي يفضي إلى سيطرة لغة، وإزاحة أخرى بما يهدد الأخيرة بالانقراض نتيجة عدم الاستعمال والتداول، خصوصا حينما ترتبط اللغة بالعرق، وعندما يتاح للغات الأقليات كتابة الإبداع والعلوم بها، ما يسمح لها أن تكون حافظة للتراث، وناقلة للمعارف والأفكار.
جدير بالذكر أن الاجتهاد الفقهي الإسلامي المعاصر يلتقي مع منظور حقوق الإنسان للأقليات، ويدعو إلى الاعتراف بثقافة الأقلية، ورفض انعزالها عن محيط المجتمعات الكبرى التي تعيش فيها، ويدعو إلى اندماجها في المجتمعات على قاعدة التعايش والتعارف، كما يدعو المجتمعات العربية إلى التفاعل الإيجابي والانفتاح على واقع الأقليات على أسس القيم المشتركة، والاعتراف بثقافتها ولغاتها. فلا بأس بكتابة هذه الأقليات لآدابها بلغاتها، ويمكن ترجمة الإبداعات إلى العربية إليها، وإن كانت العربية هي اللغة الأولى لهذه الأقليات التي تعيش في المجتمعات العربية. والمثال على ذلك الأدب الكردي الذي ينهض برهانا على إمكانية ردف الرواية العربية برافد فرعي مواز، يمكن – مع تفعيل منهجيات الأدب المقارن- معرفة آثار الثقافة العربية والإسلامية فيه، وأيضا أوجه التشابه والتلاقي في القضايا الإنسانية، خاصة أن الأكراد يعيشون في أكثر من قطر عربي، ولهم إسهامات حضارية وثقافية وسياسية بارزة تاريخيا وحديثا، ومن المعلوم أن الشعب الكردي موزع بين أربع دول: العراق وسوريا، وتركيا وإيران؛ بفعل التقسيم الاستعماري بعد سقوط الدولة العثمانية، عقب اتفاقيتي سايكس بيكو 1916، وسان ريمو 1920، وقد تمزقت الدول العربية وفق الأطماع الاستعمارية.
بناء على ما تقدم، فإن الهوية الجمعية العربية لا تلغي التنوع الثقافي والسكاني والاجتماعي بين شعوب العالم العربي، وهو أمر يصب في صالح الأدب العربي عامة، والروائي منه خاصة، فقد عكست الرواية العربية هذا التنوع، وبات كل قطر عربي، أو إقليم عربي له رواياته المعبرة عن خصائص شعبه الثقافية والاجتماعية والجغرافية والفكرية، وهذا لا يضاد خصوصية الرواية العربية، وإنما يضيف لها أنها رواية مصاغة بالعربية لغة، وتعبر عن جموع الشعوب العربية والأقليات التي تعيش في كنفها، ويعتزون جميعا بالثقافة العربية بوصفها ثقافة رئيسية، تحتوي – ولا تنفي- الثقافات الفرعية، وتعتز بكل الاختلافات والتنوعات على المستوى الإنساني والبيئي.
كاتب مصري