إن الاستغراق في تأمل المسألة العقدية من زاوية منفتحة، سوف يعمق لدينا القناعة بأنها البؤرة الموضوعية لتفجير سجالات وصراعات دائمة، بعضها معلن، وبعضها الآخر مؤجل، يتحين فرصته السانحة للكشف عن ضراوته. ومرد ذلك، هو انتماؤها إلى منظومة ذات مرتكز غيبي، تتجاوز أبعاده الآفاق الموضوعية للفهم والتأويل. إذ مهما ارتقت القدرات الفكرية والتأملية للذات، فإنها ستظل أسيرة حيرتها، أمام خطاب توغل مرجعياته في تعاليها، وفي قداستها، دون أن تقدم له بالضرورة الحد الأدنى من الضوابط المادية والملموسة، التي دأب على اعتمادها في قراءة أشياء الوجود.
وإذا حاولنا تتبع مسار هذه الحيرة، فإننا سوف نصطدم لا محالة بظاهرة تعددها وتنوعها. فثمة الحيرة المفضية إلى الإيمان المطلق دونما شرط أو قيد. وثمة أخرى، تفضي إلى إيمان قوامه تباين مستويات الاستجابة الروحية لدى الأفراد . إلى جانب قناعات مغايرة تجد سندها في المقاربات المنطقية، فضلا عن المواقف التشكيكية، المبررة بحججها العقلية. ويمكن تقصي مسارات هذه الحيرة المتعددة المشارب والمرجعيات، في مجموع ما راكمته وتراكمه المذاهب والفرق الدينية، عبر مختلف المراحل التاريخية، من خطابات تحكمها قوانين الفرقة والخلاف، حيث تظل تباشير أي هدنة محتملة، رهينة بدواعيها السياسية أو المجتمعية التي تكون حاضرة ضمنيا في خلفية الصورة، مهددة باحتمال الإعلان عن حضورها ولربما بشراسة مضاعفة، تعبيرا منها عن حالة الحيرة الكبرى، التي كثيرا ما تخرج عن سياقها المهادن، التي تعودت على الوجود فيه.
أما بالنسبة للقناعات المستندة على الحكامة العقلانية، فإنها وكما هو معروف، لا تشتغل ضمن منهجية ثابتة، مشتركة ومتفق عليها، بقدر ما تتلون بتلون القناعات الموجهة لها. بمعنى، إن القول في هذا السياق بآلية اشتغال العقل والعقلانية من قبل التوجهات المتباينة والمتعارضة، لا يحيل بالضرورة على تصور محدد لهذه الآلية، بقدر ما يحيل على تصورات قد تكون متضادة في ما بينها.
ومن جهة أخرى، وبصرف النظر عن حقيقة التباين الملموس في مفهوم هذه المنهجية للعقل، فثمة حقيقة مركزية يتعذر إغفالها، خلاصتها أن الإشكالات المعقدة والمحيرة المصاحبة للمسألة الدينية، تتحكم بشكل جذري في تكييف آليات اشتغال العقل، من خلال صهره في منظوماتها، بما يؤدي إلى انمحاء السمات الدالة عليه. وهي عوامل تساهم في عرقلة أي منهجية يراد منها وضع أرضية ثابتة، وموضوعية، لتحديد طبيعة اشتغال العقل في المجال الديني ككل.
والملاحظ أن اندماج العقل العربي الإسلامي بصيغة غير عقلانية، في المقتضيات السابقة، التي يفرضها السؤال الديني، تؤثر سلبا بشكل جد ملموس في مختلف تفاعلاته المفتوحة، مع جل المجالات المعيشية والمعرفية المحيطة به. ذلك أن انصهاره القبلي في إشكالية الإيمان المعقدة، يترك آثاره الواضحة والعميقة في كل مبادرة تأملية أو حياتية يكون بصددها. ما يدعونا إلى الإقرار بأهمية استحضارها منهجيا، كلما دعت الضرورة إلى مقاربة أسئلة العقل، في تفاعلها داخل محيطها العربي الإسلامي.
تأسيسا على هذا الاستطراد، نعود من جديد إلى مسألة الاختصاص المعرفي، لوضعها في سياقها الموضوعي، إذ بدل الحديث عنها كحظوة وكامتياز، ينبغي الحديث عن حق امتلاك المعرفة بالنسبة للذات المجتمعية وتعميمها. فضمن هذا الاختيار فقط، يمكن الحديث عن بنيات عقلانية مسؤولة عن إدارة وتدبير مشاريع، تصب حصيلتها في مجرى المصلحة العامة. علما بأن الإلحاح على مطلب الاختصاص في المجالات العلمية، بمعزل عن التفكير الجذري في مسألة التربية والتكوين المعرفي العام، لا يمكن بالضرورة إلا أن يحوله إلى «غيتو» مغلق على ذاته، ومنفصل جملة وتفصيلا عما تطرحه الحياة اليومية من أسئلة، هي بحاجة دائمة إلى المصاحبة التدبيرية، وفي الوقت نفسه، لا يمكن القول بإمكانية أجرأة أي اختصاص، ما لم يكن مصاحبا بمستوى معين من الوعي الجماعي، الذي يعتبر بحق أحد أهم روافده الأساسية.
إن الاختصاص المعرفي المنغلق على ذاته، والمحاط بكل عوامل الأمية والجهل، سيفتقر عمليا إلى شروطه التفاعلية، المساهمة في إغناء، وفي إثراء ما يتضمنه من مشاريع فكرية. وعكس ما هو متوقع منه، سيظل أسير معادلات معرفية، مؤرقة بسؤال الجهل الذي يحيط بها من كل حدب وصوب . في حين، يكون الاختصاص المشتغل في كنف الأجواء التنويرية، أكثر توثبا، وأكثر حركية وانفتاحا على مستقبل الخطابات الحية المحايثة له، كما هو الشأن بالنسبة للمجتمعات المتقدمة، بفضل تعميم المعرفة، وتكريس تقاليد التربية والتكوين، على أسس حداثية وعقلانية . مع التذكير دائما بمحدودية عامل الاختصاص، في إيجاد حلول ناجعة للمسألة الدينية، باعتبار أن الحيرة الأصلية التي يتلقى بها المؤمن أو غيره مقاصد الشريعة، تظل حاضرة في خلفية كل مبادرة مجتمعية أو ثقافية، خاصة منها تلك التي تتداخل فيها المصالح السياسية، ذات الطابع الظرفي، بالتوجهات الدينية المكرسة، حيث يصبح الوضع جد ملائم، لتفجير كل أنواع سوء التفاهم التي تصطدم فيها مصالح مختلف الأطراف المعنية ببعضها.
ومن المؤكد أن الإعجاز البياني الكبير الذي يتميز به النص القرآني، جسد الحد الأقصى للأفق التعبيري، الذي كان العقل اللغوي يحلم ببلوغه في تلك المرحلة.
في سياق هذه الإشكالات، سنجد أنفسنا مدعوين بشكل أو بآخر، لتأكيد بعض مقومات الخصوصية التي يتميز بها العقل العربي الإسلامي. ولعل أهمها تلك المتعلقة بالنبوغ اللغوي، المعبر عنه في الحجاجات الفكرية التي كانت قائمة بين الفرق الدينية، على مستوى تفسير النص وتأويله، خاصة منها تلك الصادرة عن المعتزلة والأشاعرة. وإذا كان هذا النبوغ قد أعلن عن سلطته شعرا، في مرحلة ما قبل الإسلام، فإنه في المراحل التالية، أي مباشرة بعد التنزيل القرآني، سوف يكشف عن مهارات جد متقدمة في إدارة الحجاج والجدال، بالاستفادة طبعا من المرجعيات المنطقية، وهي الظاهرة التي تعتبر استثناء حقيقيا بالنسبة لباقي الديانات، حيث يعتبر هذا النبوغ، أحد أهم الأسس التي يمكن على ضوئها فهم صيغة حضور العقل في الخطابات الفكرية والنظرية، المتمحورة حول المقاصد الدينية، بمعنى إمكانية الحديث عن خصوصية عقل لغوي، شبه منفصل عن مجال اشتغال العقل التجريبي والعملي.
ما يعنينا في هذا السياق، أن هذا العقل اللغوي شرع في الأفول منذ السنوات الأولى لعصور الانحطاط، حيث فقدت اللغة العربية الكثير من سلطتها نتيجة هيمنة اللغات الدارجة على المشهد بالنسبة لعملية التواصل، وهيمنة اللغات الأجنبية على مستوى البحوث العلمية المتخصصة. ولأن السياق لا يسمح بتفصيل القول في أسباب هذا الانحسار الطبيعي للنبوغ اللغوي الفصيح، فإننا سنكتفي بتسجيل نقطة أساسية بالنسبة للنسق الذي نحن بصدد بسطه. مفادها أن الانحسار التدريجي لسلطة اللغة العربية، أدى إلى تبدد وأفول أزمنة العقل اللغوي، حيث أمسى مجرد قيمة تراثية تؤرخ لأزمنة قديمة من أزمنة الذاكرة العربية. أما الجانب المأساوي في هذا الإطار، فهو عدم توفر الشروط العملية لظهور بدائل عقلية جديدة، تحل محل الامتياز القديم. ما أدى إلى سقوط الشخصية العربية في هاوية الاستعادة النوستالجية الدائمة لذاكرة وهوية لم يعد لوجودها أي مبرر يشفع باستمراريتها على الوتيرة القديمة. مع التأكيد، على أن انحسار العقل اللغوي هو انحسار ضمني لصيغة من صيغ الوجود لدى الإنسان العربي، ذلك أن نبوغه الاستثنائي الذي تميز به في العصور الذهبية القديمة عن باقي الشعوب، لا يتلخص في مجرد امتلاكه لكفاية لغوية، تمارس وظائفها العادية شأنها شأن غيرها من الكفايات، بقدر ما يتعلق بمنهجية معينة، في علم تخزين المعجم، توليده، وتقصي دلالاته، من أجل الانتقال باللغة إلى مستوى التركيب، الذي يستهدف خلال عملية انبنائه أدق العلاقات المعنية بالقول وبالتعبير، التي تخص الحالات النفسية الأكثر رهافة وغموضا. كما قد تشمل العلاقات التواصلية القائمة بين الفرد ومحيطه، في مختلف القطاعات، التي تتأسس وتتشكل بها حياته. والأكثر إثارة في الموضوع، هو قابلية هذا العقل اللغوي لممارسة أرقى مستويات التجريد، سواء في ملامسة الإشكاليات الفكرية، أو الروحية، أو الإبداعية، التي قل نظيرها في فضاءات لغوية أخرى. ولنا في النصوص الصوفية القديمة، والخطابات الفلسفية خير دليل على ذلك. وبإمكان الدراسات المختصة، أن تبحث عن مصدر نبوغ العقل اللغوي، في عمق تفاعل الخصوصية الطبيعية، بالخصوصية السوسيولوجية والعرقية، مع ما يتفرع عنهما من آليات ذاتية لاشتغال كل من البنيات الفكرية والشعورية. ومن المؤكد أن الإعجاز البياني الكبير الذي يتميز به النص القرآني، جسد الحد الأقصى للأفق التعبيري، الذي كان العقل اللغوي يحلم ببلوغه في تلك المرحلة. كما لو أن هاجس كل من النصوص الشعرية والخطابية المنجزة قبل العصر الإسلامي، هو البحث عن صيغة ممكنة لتحقيق أرفع درجات الكمال التعبيري، وهي المهمة الصعبة التي تكفّل النص القرآني بإنجازها، محققا بذلك أولا: حالة من الإفحام لكل الملكات اللغوية الأكثر نضجا.
وثانيا: حالة من إبهار المتلقي الممزوج بردود فعل تراوح بين الامتنان والاعتراف.
ثم ثالثا: حالة من الحيرة العامة، المشوبة بتساؤلها الصريح أو المكتوم، حول مصدر هذا الإعجاز.
ويمكن من وجهة نظرنا اعتبار مجموع هذه الحالات الثلاث، بمثابة تتويج لحلم العقل اللغوي، الذي كان يطمح إلى تحقيق النموذج الأكثر نضجا واكتمالا لهويته.
شاعر وكاتب من المغرب