تتلخص الإشكالية المثارة في هذا المقال في الإجابة عن سؤال مفاده: هل يمكن أن تكون هناك قراءة نقدية بمنهجية علمية للروايات المترجمة؟ ذلك لأن هناك مقولة شائعة إن النقد لا يعالج إلا النص الأدبي في لغته الأصلية فقط، ولا يلتفت إلى النص المترجم لأنه مصاغ بأسلوب المترجم وليس المؤلف الأساسي.
وبداية، علينا أن نقرر أن النقد الأدبي في الأساس إبداع على إبداع، إبداع من الناقد الأدبي على إبداع المؤلف السردي، ويتوقف النقد الأدبي على مهارة الناقد في كشف عوامل تميز النص، وما يفيض به من دلالات وأفكار، وما يكشفه من عوالم وشخصيات جديدة للقارئ. فالقارئ هو المستهدف في الحالتين، من قبل المبدع أولا، ومن قبل الناقد ثانيا. فإذا اطلع القارئ على النقد الأدبي بعد قراءته للعمل الروائي، فهو سيعيد اكتشافه من جديد في ما قرأه مسبقا، وقد يعيد قراءة النص الأدبي مرة ثانية، في ضوء ما توصل إليه من النقد. أما إذا قرأ المتلقي النقد الأدبي قبل قراءته للنص، فإن النقد سيعطيه تمهيدا مسبقا عن كيفية الولوج للنص، وسيعرفه بمدى تميز النص السردي عن غيره من النصوص. فالقراءة النقدية في الحالتين إضافة للقارئ، وهي أيضا إضافة للمبدع وكل من سار في طريق الإبداع.
أما مفهوم «القراءة النقدية المنهجية» فهو يشمل السبل والإجراءات التي ينتهجها الناقد في قراءته التطبيقية للنص السردي، موضع الدراسة، إيمانا منه أن لكل نص خصوصيته في القراءة النقدية، ويجب أن تأتي القراءة ملبية لهذه الخصوصية، لتكون نبراسا للقارئ ينير للقارئ سبل فهم النص، والوقوف على جمالياته، وأبعاده الفكرية، وأجواء الحكي التي يحتويها، خاصة إذا كان نصا مترجما عن لغة أخرى، ولكنه ذو جذور وثيقة بالثقافة العربية والإسلامية، وفيها كثير من الوشائج معها.
والمثال لدينا ثلاثية الروائي الصومالي نور الدين فارح في ثلاثيته الأخيرة «دماء في الشمس (1986- 1998) التي تشمل رواية «خرائط» Maps، ورواية «هدايا» Gifts ورواية «أسرار» Secrets . وقد صاغ هذه الروايات باللغة الإنكليزية، وتمت ترجمتها إلى اللغة العربية لاحقا بترجمات جيدة. وقد أبدع المترجمون في صياغة الترجمة العربية، لأسباب عديدة، منها أنها في الأساس صادرة عن مبدع عربي مسلم، كتبَ أعماله بالإنكليزية، ولكن بروح الثقافة العربية التي تشربها دينا وتصورات وقيما، وهو ما نجده مبثوثا في ثنايا أعماله، بنصوص دينية صريحة. كما أن أعماله معبرة عن الحياة الصومالية بكل مكوناتها الثقافية وتقلباتها السياسية، والإسلام والعربية جزء أساس منها.
فلا بأس من الاعتماد على النص المترجم إلى العربية، التي نرى أنها وافية ـ عند مقارنتها بالنصوص الإنكليزية ـ وأن مترجمي الثلاثية استطاعوا المحافظة على روح النص، وفكره ورؤاه، وأنهم تمثلوا المتلقي العربي وهم يصوغون ترجماتهم، فجاء النص فواحا بعبير العروبة، نابضا بروح الوطن الصومال، ناطقا بأزمة الشعب والأرض، خاصة أن القارئ العربي يحتاج إلى الاطلاع على الأدب الصومالي الحديث، والتعرف على مبدعيه، ونرى أن ثلاثية «دماء في الشمس» من أبرز عيون الأدب الصومالي الحديث، وفي حاجة إلى تقديمها نقديا للقارئ العربي، مثلما هو (القارئ العربي ) في حاجة إلى التعرف على أدب ما بعد الاستعمار، المعبر عن أزمة أحد الأقطار العربية الإسلامية، وهو الصومال، الذي يمثل امتدادا عربيا في منطقة القرن الافريقي، مثلما هو جسر لافريقيا إلى العالم العربي والإسلامي، بحكم موقعه الجغرافي المتميز، وبحكم تكوينه الاجتماعي الذي تلتقي فيه القبائل العربية مع القبائل الافريقية، لتصنع هجينا ثقافيا، يعبر عن تعايش بين ثقافات عديدة، جمع الإسلام بينها، وألف بين قلوبها، كما أنها تفاعلت مع الثقافة الافريقية غير المسلمة، تفاعلا حضاريا وثقافيا راقيا، وما الحروب بين شعوبها إلا بسبب الاستعمار.
القراءة النقدية المقترحة للثلاثية الروائية المترجمة، تبدأ من خلال منظور يبدأ بالكلي، مرورا بالفرعي، وينتهي بالتفاصيل، وذلك بعرض كل رواية على حدة، وتحليلها بوصفها وحدة نصية في كتاب مستقل، ثم النظر إليها بوصفها كلا واحدا
ويمكن الاستفادة من منهج السرد، الذي يرتكز على البنية والزمان والشخصيات، بالإضافة إلى تحليل الأجواء السردية لعالم الثلاثية، وعرض الأحداث وطبيعة الشخصيات ومآلاتها، متقدما ومرتدا مع الزمن، عارضا تفاصيل المكان، والأحداث السياسية، متوقفا عند الثقافة المحلية، بكل تشابكاتها وتقاطعاتها وروافدها الثقافية والاجتماعية، متخذا من النقد الثقافي والنقد الاجتماعي مناهج معززة، تجيب عن الأسئلة والشيفرات التي يطرحها النص.
أما قضية التحليل الأسلوبي للنص فينبغي التوقف عندها، لاعتبارات عديدة، أولها- وهو أهمها- أنه نص مترجم إلى العربية عن أصل إنكليزي، فالتحليل الأسلوبي هنا ليس للنص الأصلي، وإنما لأسلوب المترجم. ثانيها: أن المنهج السردي يركز على البنية السردية بكل مكوناتها من أحداث وشخصيات وأمكنة وأزمنة، تاركا المجال للمنهج الأسلوبي في التعامل مع لغة النص وأسلوبه وتراكيبه اللغوية. وهذا لا يمنع من التعامل الإيجابي مع الأيقونات والعلامات الواردة في النص، فكثير منها يعود إلى الثقافة العربية الإسلامية، فهي بضاعتنا ردت إلينا، والأمر نفسه مع الإشارات الثقافية المحلية من عادات وتقاليد، وملابس وسلوكيات.
إن المنهج السردي يوفر الكثير من الآليات والسبل التي تعين على قراءة النص السردي، إلا أن الناقد يقع عليه العبء في تكوين تصور له في قراءة النص، وهو التصور النابع من مفهوم استراتيجية القراءة النقدية المتقدم. وبعبارة أخرى: يوفر المنهج السردي الآلية والإجراء، ولكنه يعطي المجال واسعا لكي يضع الناقد لنفسه ويختط ما يشاء من سبل، لكشف حجب النص، والوقوف على أبعاده.
ونرى أن القراءة النقدية المقترحة للثلاثية الروائية المترجمة، تبدأ من خلال منظور يبدأ بالكلي، مرورا بالفرعي، وينتهي بالتفاصيل، وذلك بعرض كل رواية على حدة، وتحليلها بوصفها وحدة نصية في كتاب مستقل، ثم النظر إليها بوصفها كلا واحدا، تعبر عن حقبة من التاريخ الصومالي الحديث والمعاصر، ليس من منظور الحدث التاريخي وأبعاده، فهذا عمل التأريخ السياسي، وإنما من زاوية آثار الحدث السياسي على الناس، النخبة والعامة والبسطاء والمهمشين، هؤلاء الذين لا يعنيهم من الحياة إلا العيش في سلام، ينشدون الراحة والطمأنينة. فإذا تلاعب الساسة بالوطن، فإن أول الضحايا هم هؤلاء، وإذا تمزقت لحمة الوطن فإن المزق هم هؤلاء. وما نلامسه في الثلاثية. إن الكلي هنا هو فهم العالم السردي الذي تتناوله الثلاثية، وما تختص به كل رواية منها على حدة. كما أن الكلي يبدأ بالنظر إلى العالم الروائي، ثم البنية السردية للنص السردي، ومن ثم النظر في ما يتفرع عنها من بنيات فرعية، على مستوى الحكايات أو المواقف أو الأحداث أو الشخصيات. كما أننا سنرصد جماليات البنية السردية، ومهارة السارد في صياغة الحكي، مستخدما ضمائر متعددة، ونتوقف بالعرض والتأويل عند الإشارات الثقافية وما أكثرها، التي توضح طبيعة المجتمع الصومالي.
ومن خلال هذه القراءة النقدية سنتعرف على الرواية الصومالية الحديثة المقدمة إلى القارئ العربي، التي تأخذ في حسبانها الفرعيات والجزئيات والعلامات المعبرة عن ثقافة الإنسان ووعيه. تهتم بالجمالي، وتعزز الثقافي، ترنو إلى الخيال، وتهبط إلى الواقع، على يقين كامل أن الإنسان يحوي في جنباته العالم الذي يعيش فيه، فإذا أبحرنا في أعماق الفرد، رأينا العالم باتساعه، مكانيا وزمانيا، وعشنا التاريخ في نفسه كما عاشه الإنسان على الأرض.
٭ كاتب من مصر
نتمنى قراءة أدب صومالي باللغةالعربية، فهناك صوماليون كثيرون يعرفون العربية ويكتبون بها،ومع أن الصومال إحدى دول الجامعةالعربية،فلا يوجد لدينا ما يمكن تسميته بالأدب الصومالي العربي.