أبواب وطاولات وكراسي مهشمة، نوافذ مكسرة الزجاج أو مستبدلة بقطع من الكرتون، أوساخ منتشرة على الأرض، مفردات بذيئة مكتوبة على الجدران والطاولات، جدران وسقوف مقشرة وآيلة للسقوط وراء القاعات طاولات قديمة مكدسة، فئران، أعشاب، أشجار ميتة أو في حاجة للاعتناء، أسوار خارجية مهدمة، كلاب سائبة..
هذه ليست صورة لمدينة تشهد الحرب، إنها الصورة اليومية ومنذ سنوات لأغلب المعاهد الثانوية في تونس ما بعد الثورة، يضاف إلى ذلك غياب الحماية الصحية للتلاميذ، فقد سجلت الكثير من الإصابات بمرض التهاب الكبد بدرجاته الثلاث داخل المعاهد.. في هذا المنظر القبيح والمهين للإنسان يحشر في هذه القاعات والجدران أستاذ أو أستاذة مع 33 و40 تلميذة وتلميذا في سن المراهقة ومنهم من يتعاطى المخدرات. داخل هذه الأوضاع المزرية ينفر التلميذ من التعلم والمعرفة ويعاني الأستاذ من الإرهاق والأمراض.. وقد فقد الإطار التربوي أكثر من 120 مدرسا للسنة الدراسية 2017 / 2018. وزارة التربية تعترف بهذه الأوضاع المهينة التي يعانيها التلاميذ والأساتذة على حد السواء، لكن الحلول لم تقدم لمعالجتها، وهو ما يدفع الأساتذة ليضربوا لإصلاح التعليم العمومي، وإنقاذ ما تبقى من المدرسة العمومية، لأن التعليم، إضافة إلى انه حق مدني هو أيضا الأساس لتطور الشعوب، إذ لا يخفى عن أي عاقل أن المنظومة التعليمية في تونس تستدعي إصلاحا لا يقبل التأجيل.
عقب الاستقلال اهتم الرئيس الحبيب بورقيبة بالتعليم العمومي، وسخر له ميزانية محترمة للارتقاء به، لأنه كان يؤمن أن التعليم العمومي هو المشروع الأساسي لبناء مجتمع متطور وقادر على اللحاق ببقية الدول المتقدمة، ومنافسة الدول الأخرى في التحصيل الأدبي والعلمي والتكنولوجي للتونسيين. الرئيس السابق زين العابدين بن علي بدأ في ضرب المنظومة التعليمية، وتهميش الأستاذ لأنه ديكتاتور ويحلم بأن يحكم شعبا جاهلا، ويعلم أنه لن يصل إلى هدفه إلا بجعل الأجيال المتعاقبة جاهلة معرفيا، ولن يتحقق ذلك إلا باضعاف المستوى التعليمي. تغير الرئيس بن علي، ولم يحدث أي إصلاح للمنظومة التعليمية المعترف بتراجعها لدى جميع التونسيين، رغم الانهيار المتواصل للمنظومة، فإن وزارة التربية مع كل الحكومات التي جاءت بعد الثورة لم تقدم مشروعا جديا لإصلاح التعليم. وبقيت عبارة إصلاح التعليم مجرد وعود انتخابية تنتهي بانتهاء الحملة الانتخابات، أو شعارات ترفعها كل وزارة مع كل حكومة ووزير جديد. تتكرر الشعارات نفسها ومعها الإيهام بالشروع في الإصلاح، ويغادر الوزير من دون أن يبدأ أي خطوة فعلية وذات قيمة. لا حكومة خصصت ميزانية توافق متطلبات الإصلاح. ولتبرهن على عدم اهتمامها بإنقاذ التعليم العمومي تتراجع نسبة الموارد المالية المخصصة لميزانية وزارة التربية من سنة إلى أخرى. ويصوت عليها النواب في مجلس البرلمان وهو ما يعري الحقيقة المأساوية، في أن السياسيين الذين مهمتهم تنفيذ مشاريع إصلاحية لا يهتمون لما آل إليه التعليم في تونس.
إضراب الأساتذة كشف الحقيقة المرعبة، وهي أن التعليم العمومي في طريقه إلى الانحدار أكثر ولن يتم إصلاحه وإنقاذه
عادة ما يكون المتعلمون هم من يبنون أوطانهم بعد التخلص من الديكتاتورية بالدفاع عن مشاريع ترتقي بأوطانهم، لكن ما يحدث في تونس ما بعد الثورة الصورة مشوهة وعكسية. الحقيقة لا مشاريع للمتعلمين. إذ بقي الأستاذ هو الوحيد الذي يواجه الوزارة ويطالب بالإصلاح، باستثناء حزب الجبهة الشعبية، وبعض المثقفين وأفراد من المجتمع المدني، الذين لن يتجاوز عددهم المئة شخص، الذين نبهوا لخطورة وضع المدرسة العمومية. أما البقية فهم غير مبالين بالوضع التعليمي الكارثي من البنية التحتية للمؤسسات التعليمية إلى مستوى التلاميذ المتدني. والنتيجة المنطقية تراجع قيمة الشهادات العلمية، وبذلك سيتراجع عدد الكفاءات بعد سنوات قليلة. وإن دل ذلك على شيء فإن الثورة لم تكن إلا وهما لأنها تفتقر إلى مشروع إصلاحي تعليمي قادر على تكوين وتأهيل كفاءات بشرية لخدمة الأجيال القادمة. ما سيحدث هو ازدياد تأخر وتخلف تونس عن دول العالم المتقدمة، وحتى الدول التي كانت تونس تسبقها في مستوى التعليم.
إضراب الأساتذة كشف الحقيقة المرعبة، وهي أن التعليم العمومي في طريقه إلى الانحدار أكثر ولن يتم إصلاحه وإنقاذه. وعوضا عن تحسين مستوى التعليم العمومي من البرامج التعليمية ووضعية المدرسين والبنية التحتية في تونس، تقوم وزارة التربية بالتهجم على الإطار التربوي، رغم أنها تعترف بمشروعية المطالب. أي متفرج موضوعي وعاقل يتوقع أن المجتمع التونسي سينادي باحترام المدرسين وتحسين أوضاعهم والمطالبة الفورية بجعل المؤسسات التعليمية لائقة لتحفز التلاميذ وتجلبهم للمعرفة. لكن في تونس ما بعد الثورة انقلبت الصورة. تقريبا، كل فئات المجتمع دائما تصطف إلى جانب الوزارة مع كل الحكومات المتعاقبة، لأنهم يروون أن التعليم هو فقط دخول التلاميذ إلى قاعات الدرس ولا يهم تحت أي ظرف مهما كان مزريا وخطيرا. وليكون الموقف كوميديا سوداء، كل الذين يتهجمون على المدرسين ويستنكرون إضرابهم وينعتونهم بالانتهازيين وغير الوطنيين، هم أشخاص أصحاب امتيازات غير مستحقة، مقارنة بالعمل والمجهود الذي يؤدونه، فهم يعملون داخل مكاتب لائقة بنوافذها وستائرها ومكيفاتها، ويطالبون المدرس بالتدريس في هذه الأوضاع غير اللائقة إنسانيا.
يقف دائما إلى جانب الوزارة مهما اختلفت الحكومات، للتهجم وشيطنة المدرسين، تقريبا كافة المتعلمين والمتخرجين من المدارس العمومية، ومن بينهم السياسيون الطامعون في غنيمة ما، وأولياء الأمور الذين لا يهتمون بالمخاطر التي يتعرض لها أبناؤهم داخل المعاهد، التي قد تصل إلى سقوط سقف في أي لحظة على كل من في القاعة، ليستولي على نصيب الأسد في التهجم، الإعلاميون المأجورون فكلما دفع لهم أكثر شتموا أكثر، وهذا هو المكسب الأهم للثورة في تونس، وهو حرية التعبير.
والحقيقة أن حرية التعبير لم تتضمن إلا التفاهات والهراء، ولا تحمل إلا صورة لخواء أصحابها الفكري، فلم تنتج الثورة إلا انتشار خطاب إعلامي ضئيل وفارغ، ويعكس عجز هؤلاء الإعلاميين عن استعماله في تناول القضايا التي يمكن أن تبني مجتمعا متطورا، لأن الإعلام دائما يكون وسيلة ضغط لإرساء وتنفيذ مشاريع تخدم الأوطان، وليس مثل الإعلام في تونس بلا مشاريع إصلاحية. إضراب الأساتذة ووصول الأزمة إلى ذروتها مع وزارة التربية، أكد على أن ما حصل في تونس لم تكن ثورة بالمعنى الحقيقي للثورة وإنما تغيير أشخاص. هؤلاء السياسيون لا يملكون مشروعا تعليميا في برامجهم السياسية. الأزمة الحادة ليست معركة شخصية بين الأساتذة والوزارة، هي في الأساس حول إصلاح التعليم. التعليم مشروع وطن ومستقبل دولة، الأزمة لا تتطلب الحياد. كان عليهم التحرك وإيصال موقفهم للحكومات، أو يمكن تفسير الحياد بأنه غياب الكفاءة المهنية لتناول القضايا الكبرى التي تهم تونس، بل يجب على كل إعلامي أن يسعى إلى تغيير وتطوير الوضع التربوي، فالانحدار الرهيب لا تخدمه السلبية والحياد.
أستاذة تعليم ثانوي تونسية
مقال عميق ويظهر غور الأزمة ؛ نتمنى للشعب التونسي كما عودنا دائما ان يخرج منها كالعنقاء من رمادها، وحتما الغد اجمل .