إعدام الدولار ومستقبل التجاذب الأمريكي الإيراني

حجم الخط
0

قبل أيام أعلنت السلطة القضائية الإيرانية عن إعدام شخصين بتهمة «الإفساد في الأرض» بسبب احتكارهما لسوق العملة الذهبية «المسكوكات الذهبية» وهما وحيد مظلومين الملقب بـ»سلطان المسكوكات» وشريكه محمد سالم.
وبهذا الإجراء أصيب سوق العملة والقطع والذهب بصدمة مباشرة، نتج عنها تراجع سريع في سعر الصرف، وأحدث حالة من الخوف لدى تجار العملة، سمح للحكومة الإيرانية بالسيطرة النسبية على مسار انحدار قيمة العملة الذي أطاح بكل مقدرات الطبقات المتوسطة والفقيرة ولم تسلم منه بعض الطبقات الغنية، التي تقع خارج دائرة الجنة المالية للمتحكمين بهذا القطاع والسوق.
اللجوء إلى عنوان «المفسد في الأرض» لإصدار حكم الإعدام يعود للفراغ التشريعي في هذا الجانب، خاصة ما يتعلق بجانب الاحتكار في سوق العملة والمعادن الثمينة والاتجار بها، وإن إصدار حكم إعدام تحت عنوان الاحتكار، قد يحمل الكثير من الإشكالات، ويفتح العديد من الأزمات في المجال التشريعي والقضائي، وبالتالي فإن عنوان «الإفساد في الأرض» شكّل الغطاء الشرعي والديني الأشمل، الذي يسمح للقضاء بإصدار الحكم وتنفيذه بسرعة، ويؤدي دوره المطلوب في إحداث الصدمة في هذا القطاع، يعيد بعض التوازن المؤقت له. وهو ما حدث بالفعل، إذ تراجع سعر صرف الدولار بشكل ملحوظ في السوق الإيرانية، على الرغم من دخول الحزمة الثانية من العقوبات الأمريكية حيز التنفيذ، وعلى الرغم من التوقعات بانهيار سريع وكبير للعملة الإيرانية. عودة السيطرة النسبية للحكومة الايرانية ومؤسساتها المالية على سوق الصرف والذهب، ترافق أيضا مع عمليات اقتصادية معقدة في كل القطاعات الاقتصادية والصناعية والإنتاجية وحتى الإدارية والدبلوماسية. فقد قللت الحكومة الإيرانية الحصص المخصصة للمصانع الإيرانية من المواد الخام، ومنعت تصدير أي من المواد الأولية مع فتح الأبواب على مصراعيها لعمليات الاستيراد في مختلف القطاعات، متبعة سياسة تشجيعية تقوم على منح المستوردين الدولار بالسعر الرسمي، الذي حددته في شهر أبريل/نيسان الماضي بقيمة 4200 تومان للدولار الواحد.
على الصعيد الإداري، خاصة في ما يتعلق بالعاملين في البعثات الإيرانية في الخارج، فقد قامت الخارجية الايرانية والدوائرة والمؤسسات الرسمية التي تمتلك ممثليات في دول العالم بابلاغ السفارات والمكاتب التابعة لها بسياسة التقشف التي تبنتها، وعملية تقليص عدد الموظفين في السفارات والمكاتب، وبالفعل بدأ عدد من هؤلاء الموظفين بحزم حقائبهم والعودة إلى طهران، في إطار هذه السياسة الجديدة. وهي سياسة سبق أن لجأت إليها إيران وحكومة روحاني ما قبل التوصل إلى توقيع الاتفاق النووي، إذ عمدت إلى خفض ميزانيات السفارات في الخارج إلى أكثر من النصف، حتى إنها أوقفت نفقات أعمال الصيانة، أو البناء في العديد من سفاراتها حول العالم، إلى جانب تقليص عدد الموظفين المبتعثين من إيران.
بعض الخبراء الاقتصاديين الإيرانيين يعتقدون أن النجاح المباشر لبعض السياسات الاقتصادية، وإن كان قد حقق بعض الأهداف المباشرة للحكومة والنظام، في مواجهة الصدمة الأولى للعقوبات الأمريكية، واستطاعت على سبيل المثال تحريك الحجم الكبير من الأموال المجمدة داخل المنازل الإيرانية، التي لا تدخل في عمليات التبادل الاقتصادي، واستطاعت أيضا أن تسدد الجزء الأكبر من ديون إيران الداخلية، إلا أنهم يتخوفون على المدى المتوسط أن تتحول هذه السياسة إلى ما يشبه عملية ضغط «النابض – الراسور أو النفر» وأن يصل الضغط إلى الحد الأقصى، عندها لا يعود بمقدور القوى التي تحاول الحفاظ على الاقتصاد في قبضتها وتحت سيطرها الاستمرار في هذه السياسة وتكون مجبرة على إفلاته، عندها لا شك ستحدث عملية انفجار في قيمة صرف العملة، وبالتالي انهيار كبير وغير قابل للسيطرة في سعر العملة الإيرانية. ولا يستبعد هؤلاء أن تصل الحالة الايرانية، على الرغم من وجود بطانة مالية كبيرة من العملة الصعبة، إلى ما يشبه الحالة الفنزويلية، وأن تتآكل هذه البطانة وأن يصاب الاقتصاد والعملة الايرانية ما أصاب الاقتصاد في بلاد الحليف والصديق الفنزويلي.
ان ترسم الدولار على ارضية الشارع العام أمام السفارة الامريكية في ذكرى احتلال السفارة الامريكية وتدفع المتظاهرين المحتشَدين للدوس عليه، لا يمكن أن يصل إلى أن يكون سياسة علاجية لما ستكون عليه الأزمة الاقتصادية جراء العقوبات في المرحلة المقبلة، فالتصرف الأكثر تعبيرا عن موقف الشارع الايراني في التعاطي مع التصعيد الذي تعتمده طهران اتجاه واشنطن، جاء في تصرفات طلاب إحدى الجامعات في مدينة اصفهان (وسط ايران) عندما راحوا يتقافزون عن العلم الامريكي المرسوم على ارضية مدخل الجامعة، والامتناع عن الدوس عليه، في موقف يحمل رسالة إلى النظام عن الهوة الموجودة بين الموقف الرسمي للنظام وبعض الحكومة، والشارع الشعبي والشبابي وبعض الحكومة، الذين يرون ضرورة ان تنزل طهران عن شجرة رفض التفاوض والتوصل الى تسويات تقطع الطريق على خلق أزمات لا حاجة لها، ولا تنفع ولا تخدم سوى مصالح طبقة خاصة من المستفيدين من هذا التوتر في النظام.

عنوان «الإفساد في الأرض» شكّل الغطاء الشرعي والديني الأشمل، الذي يسمح للقضاء بإصدار حكم الإعدام وتنفيذه بسرعة

يتداول بعض الثوريين الإيرانيين ممن يرفعون الصوت ضد بعض سياسات النظام، سيناريو عن مشهدية شعبية افتراضية، لكنها قد تكون حقيقية في حال طبقت على أرض الواقع، وتقول هذه المشهدية «لنتخيل أنه وفي المكان المخصص لتظاهرات ذكرى احتلال السفارة الامريكية، أو يوم القدس العالمي أو انتصار الثورة، وهي تظاهرات تعلن العداء لأمريكا، أننا وضعنا إعلانا عن فتح مركز لتوزيع «البطاقة الخضراء الأمريكية بأعداد محددة» على مسار هذه المظاهرات، ماذا سيحدث؟ سنشهد هجوما من الشعب الثوري والحاضر دوما في ساحات المواجهة على هذا المكتب للحصول على هذه البطاقة، وأن عدد القتلى والجرحى للوصول إلى هذا المكتب لن يكون أقل من الذين سقطوا في حادثة التدافع التي وقعت في مشعر منى في الحج».
تدرك إيران بكل مستوياتها الحاجة لفتح قنوات حوار جدية مع الإدارة الامريكية، وعدم الاكتفاء باستيعاب هجمة هذه الادارة من خلال محاولة البحث عن مخارج اقتصادية مؤقتة، تبعد عنها شبح الحرب من جهة، وتلبي مطامح الرئيس الامريكي دونالد ترامب من جهة أخرى، كما في اعتقاد البعض في طهران، بما يبعد عنها ألم تجرع كأس الاعتراف بهذه الحقيقة، والتقليل من حجم التحديات، من خلال التأكيد على تحقيق الانتصارات الداخلية والإقليمية ان كان في العراق او سوريا او لبنان او اليمن، التي في ظاهر بعضها قد تكون نقاطا إيجابية لإيران، إلا أنها في الحقيقة تخدم الرؤية الامريكية. ولا يمكن ان تخفف من الأزمة التي تترصد إيران، تلك المشهدية في الدوس على الدولار، أو إعدام بعض المتاجرين به وبالذهب، واعتبارها إعداما للدولار.
لذلك يبدو أن المرحلة المقبلة ستكون معقدة على طهران التي ستجد نفسها أمام تحديات بتقديم تسويات ضخمة ودفعة واحدة لا تقتصر على الملف النووي، بل على العديد من الملفات الداخلية والاقليمية، ليس أقل تعبيرا عنها الجملة التي رددها نتنياهو تعليقا على زيارته لسلطنة عمان «نصنع التاريخ» .
كاتب لبناني

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية