نُشرت في القدس المحتلة، الأسبوع الماضي، وثيقة سياسية وفكرية وحقوقية غير بعيدة عن أن تكون الأولى من نوعها، وعدد الموقعين عليها وجنسياتهم واختصاصاتهم وأماكن عملهم الأكاديمية؛ حملت اسم «إعلان القدس حول العداء للسامية» ووقّع عليها حتى الساعة أكثر من 200 مختصّ بالدراسات السامية واليهودية والإسرائيلية والفلسطينية والشرق ـ أوسطية. ولعلّ أبرز العناصر التي تميّز هذه الوثيقة هي أنها تنطلق أصلاً من معارضة التعريف الآخر، المشؤوم والقاصر والخاطئ والاختزالي، الذي صدر في سنة 2016 عن «التحالف الدولي لاستذكار الهولوكوست» خلال اجتماع بوخارست؛ والذي تستند إليه دولة الاحتلال الإسرائيلي ومعظم مجموعات الضغط المناصرة لها في تصنيف أيّ نقد لممارسات الاحتلال العنصرية والاستيطانية تحت صفة العداء للسامية.
تعريف بوخارست تتبناه اليوم 29 دولة، بينها الولايات المتحدة وفرنسا وألمانيا وبريطانيا وإيطاليا وإسبانيا والسويد والنمسا واليونان؛ إلى جانب الأمين العام للأمم المتحدة، والمجلس والبرلمان والمفوضية في الاتحاد الأوروبي، ومنظمة الدول الأمريكية، وسواهم. النصّ، في إحدى حيثيات التعريف، على اعتبار المقارنة بين السياسات الإسرائيلية والنازية عداء للسامية، أتاح لدولة الاحتلال أن تسحب التعريف على أيّ موقف مناهض لأيّ من سياسات دولة الاحتلال، أو ناقد للصهيونية؛ حتى إذا كان للأمر صفة قانونية قاطعة، مثل قرار محكمة العدل الأوروبية الذي يُلزم منتجات المستوطنات بحمل لصاقة تشير إلى المنشأ؛ أو اعتبار منظمة حقوقية إسرائيلية مثل «مركز المعلومات الإسرائيلي لحقوق الإنسان في الأراضي المحتلّة» معادية للسامية. وثمة، إلى هذا، حيثية أخرى أكثر غرابة تضع في باب العداء للسامية أي «معايير مزدوجة تطلب [من دولة الاحتلال] سلوكاً غير منتظَر أو مطلوب من أيّ أمّة ديمقراطية أخرى»!
تعريف القدس، الذي يقول الموقعون إنّ العمل عليه استغرق سنة كاملة واقتضى تشاوراً واسع النطاق، يُعلي شأن حرّية التعبير والنقد، ويعتمد مبادئ حقوق الإنسان والمواثيق التي أقرتها الإنسانية، وينصّ على التالي: «العداء للسامية هو تمييز، وتعصّب، وعداء أو عنف ضدّ اليهود بوصفهم يهوداً (أو ضدّ مؤسساتهم بوصفها يهودية)». وعلى الصعيد الفلسطيني ـ الإسرائيلي، يشير الإعلان إلى أمثلة «يلوح على مظهرها» العداء للسامية، بينها مثلاً تطبيق الرموز والصور والتنميطات السلبية المقترنة بالعداء الكلاسيكي للسامية على دولة الاحتلال؛ أو اعتبار اليهود مسؤولين بصفة جماعية عن السلوك الإسرائيلي، لمجرد أنهم يهود؛ أو مطالبة الناس، لمجرد أنهم يهود، بإدانة دولة الاحتلال أو الصهيونية علانية؛ أو افتراض أنّ اليهود غير الإسرائيليين، ولمجرد أنهم يهود، أشدّ ولاء لدولة الاحتلال من ولائهم لبلدانهم الأصلية. كذلك يشير الإعلان إلى أمثلة أخرى «لا يلوح على مظهرها» العداء للسامية، بينها مساندة المطلب الفلسطيني حول العدل والحيازة التامّة لحقوقهم السياسية والمدنية والإنسانية، كما ينصّ عليها القانون الدولي؛ أو نقد الصهيونية ومعارضتها كنزعة قوموية، أو المساجلة بترتيبات دستورية لليهود والفلسطينيين في المنطقة بين نهر الأردن والبحر الأبيض المتوسط، إذْ ليس من العداء للسامية دعم الترتيبات التي تمنح مساواة تامة لجميع السكان «بين النهر والبحر» سواء في إطار دولتين، أو دولة واحدة ثنائية القومية، أو دولة ديمقراطية توحيدية، أو دولة فدرالية، أو في أية صيغة أخرى.
«إعلان القدس» خطوة أكاديمية لا تخفى جسارتها الفكرية والأخلاقية، وقد لا يجد المرء كبير عناء في تلمّس حرص عدد كبير من المشاركين فيها على انتشال العداء للسامية من ابتذال إسرائيلي يجعل المفهوم رهينة التعميم والاختزال والتسخيف
هامّ، على نحو خاص أيضاً، ما يُخرجه الإعلان من باب العداء للسامية، ويدخل في إطار «النقد المعلل» لدولة الاحتلال؛ وهذا يتضمن «مؤسساتها ومبادئ تأسيسها. ويتضمن سياساتها وممارساتها، داخلياً وخارجياً، على غرار السلوك الإسرائيلي في الضفة الغربية وغزّة، والدور الذي تلعبه في المنطقة، أو بأيّ سبيل آخر يجعل الدولة تؤثر في أحداث العالم. فليس من العداء للسامية أن يُشار إلى التمييز العنصري المنهجي. وبصفة عامة فإنّ المعايير ذاتها التي تنطبق على دول ونزاعات أخرى حول تقرير المصير الوطني، تنطبق على إسرائيل وفلسطين. وبذلك فإنه ليس عداء للسامية في ذاته ومن أجل ذاته أن تُقارَن إسرائيل مع حالات تاريخية أخرى، بما في ذلك الاستعمار الاستيطاني والأبارتيد». واضح، هنا، أنّ ما «يلوح على المظهر» يستبطن أيضاً إحالة السياسات الإسرائيلية إلى نظائر نازية وفاشية، وفي هذا خطوة كبيرة فارقة، كما يتوجب الإقرار.
ليست أقلّ أهمية إشارة «إعلان القدس» إلى أنّ «المقاطعة، وسحب الاستثمارات، وفرض العقوبات [وهذه هي حركة الـBDS دون سواها، التي يجرّمها تعريف بوخارست] أمور شائعة، وأشكال غير عنفية من الاحتجاج السياسي ضدّ الدول. وهي في الحالة الإسرائيلية ليست، ولن تكون في ذاتها، معادية للسامية». وضمن إيضاح حاسم لا يقبل الالتباس، حول حرّية التعبير تحديداً، يقول تعريف القدس: «التعبير السياسي لا يتوجب أن يكون منضبطاً، أو متناسباً، أو ملطفاً، أو متعقلاً كي يحظى بالحماية حسب المادة 19 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان أو المادة 10 من الميثاق الأوروبي لحقوق الإنسان وسواهما من وثائق حقوق الإنسان الأخرى. والنقد، الذي قد يراه البعض مغالياً أو خلافياً أو يعكس معايير مزدوجة، ليس في ذاته معادياً للسامية. وفي العموم فإنّ الخطّ الفاصل بين العداء للسامية وغير العداء للسامية مختلف عن الخطّ الفاصل بين الخطاب غير العقلاني والخطاب العقلاني».
سعت السطور السابقة إلى تقديم «بيان القدس» بأمانة، تليق بالحدث ذاته، وبحقّ إنصاف المنخرطين فيه، الذين ينتمون إلى مؤسسات أكاديمية في مشارق الأرض ومغاربها، والراجح أنهم تمتعوا بجسارة عالية في تسجيل الحقائق وفي تبيان الاضاليل أيضاً؛ وكلّ هذا في مدينة لا تفتقر إلى الشحنات التاريخية والرمزية القصوى، ولا تفتقر أيضاً إلى سياقات فلسطينية وإسرائيلية ليست البتة أقلّ اكتظاظاً بالدلالات. لكنّ الحقائق، ذاتها التي حفّزت ولادة التعريف، والأخرى التي غابت عن حيثياته، تقتضي وضع الحدث في سياقاته الأكاديمية الصرفة بادئ ذي بدء، وتثمينه من هذه الزاوية على نحو شبه حصري ربما؛ قبيل الانتقال إلى أكثر من جوهر سياسي وحقوقي وثقافي يؤكد أنّ «تعريف بوخارست» ما يزال هو الذي يملك اليد العليا، في واشنطن وباريس ولندن وبرلين وفيينا ومدريد… قبل مدينة القدس، بل من دون أيّ أوهام حول إمكانية دخول «تعريف القدس» في منافسة عادلة. لم يمض زمن طويل على نقل السفارة الأمريكية إلى القدس المحتلة، وإطلاق تصريح جاريد كوشنر (مستشار الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، قبل أن يكون صهره) بأنّ العداء للصهيونية هو عداء للسامية، ونقطة على السطر!
«إعلان القدس» خطوة أكاديمية فارقة حقاً، لا تخفى جسارتها الفكرية والأخلاقية قبل تلك السياسية والثقافية؛ وقد لا يجد المرء كبير عناء في تلمّس حرص عدد كبير من المشاركين فيها على انتشال العداء للسامية من ابتذال إسرائيلي، وآخر أكاديمي بالطبع، يجعل المفهوم رهينة التعميم والاختزال والتسخيف، من جهة أولى؛ أو حليف القوى والأنظمة العنصرية والشعبوية الكارهة لليهود وللأقليات عموماً من جهة ثانية؛ أو الفزّاعة التي تحجر على العقل النقدي وحرّية التعبير وتغلق «الكتاب على أهل الكتاب أنفسهم» حسب تعبير المفكر اليهودي جورج شتاينر، من جهة ثالثة. وفي غمرة هذا التصارع حول سرديات لم يعد فيها غموض كثير، أو التباس يستدعي التأويل والتأويل المضاد، استشعر غالبية الموقعين على بيان القدس أنّ الخطر يطال أوّلاً أناس مفهوم العداء للسامية، ولا مفرّ من وقف الانحدار نحو هاوية في ابتذاله لا يرقص على حوّافها سوى أمثال بنيامين نتنياهو؛ اليوم كما في الأمس، وحسبما يدلّ الغد أيضاً.
كاتب وباحث سوري يقيم في باريس
وأخيراً، بدأنا تقليد حكمة وأسلوب (الصين)، بخصوص كيف تم تصميم (محتوى) متحف الهولوكوست في (شنغهاي)، لنسف أي حقوق في المستقبل،
هو أول ما خطر لي عند قراءة ما ورد تحت عنوان («إعلان القدس» والعداء للسامية: جسارة أكاديمية لا تغلق صراع السرديات)، الذي نشره (د صبحي حديدي)، في جريدة القدس العربي،
وأضيف عليه، ما نشره الإعلام الإيراني بخصوص، اتفاقية (مقايضة) نفط إيران، بإعادة إعمار إيران بواسطة المال والعقل والجهد الصيني في 2021،
ولكن الذي أثار انتباهي، ما دخل (إيران)، من التعاون مع (الصين)، بخصوص ثروات العراق، بالذات،
ليتم ذكره بينهما، والإعلان عنه في وسائل الإعلام؟!
تماماً، أو هل هناك تشابه، مع أسلوب اليهود بخصوص الهولوكوست؟!
السبي البابلي، يختلف عن تعامل دول أوربا مع الآخر المختلف (اليهودي والمسلم)، إن كان في القرن الماضي، أو قبل خمس قرون،
مؤتمر مدريد للسلام بواسطة أمريكا، جورج بوش الأب، لأنها تمثل عقلية العولمة، وعقلية مشروع مارشال في عام 1945،
ولكن عقلية (نتنياهو) بالذات في عام 1991، رفضت المعاهدة، مع الأسف (ياسر عرفات ومحمود عباس)، كذلك خان الوفد الفلسطيني المفاوض في مدريد،
وقبل بمهزلة أوسلو، ومن يومها، خرج القطار عن السكة، ولا حول ولا قوة إلا بالله.??
??????
شكرًا أخي صبحي حديدي. لماذا يتبنى الأمين العام الأمم المتحدة تعريف بخاريست ولايتبنى إعلان القدس، أو بالأحرى لماذا لاتضع الأمم المتحدة نفسها إعلان في هذا الشأن وليكن أيضًا في إجتماع خاص تنظمه الأمم المتحدة في القدس مدينة السلام.