كانت بداية الاستعراض قوية فعلا، فقد ظهر فجأة وبرع في انتزاع الأشواك من قلوب يعتصرها الرعب، وأبدع في صناعة آمال يفتقدها الشعب، مسح الدموع من عيون الرجال قبل النساء، وحمل على كتفيه هموم وطن كامل، وتحمل وحده ما لم تطقه سنوات الجمر. هكذا كانت بداية العرض، فقد جاء رجل الإنقاذ وبطل المهمات المستحيلة، لم ينس الشعب الجزائري إطلالته الساحرة، منذ حوالي عقد ونصف العقد، عندما كانت أشلاء الجزائر مبعثرة وقـامتها مكسرة، لم ينس خطاباته التي أعادت الأحلام الى إحياء جزائر العزة والكرامة. ودعت الجزائر الألفية السابقة على وقع انطلاقة مشوار عبد العزيز بوتفليقة رئيسا للجمهورية، بمسيرة من التحديات في خوض معارك القطيعة مع الماضي الأليم والبحث عن الذات تطلعا للمستقبل، وقد كان العالم كله شاهدا على أن الشعب الجزائري استنفر كل جوارحه وهو يقتفي خطواته لحظة بلحظة حاملا لواء الوئام، ثم المصالحة، وتحت الأقدام وحلٌ من الدماء. نعم هكذا كانت بداية العرض، ومن بعده توالت السنوات وتراكمت العهدات واحدة فثانية ثم ثالثة، وفجأة توقف المشهد وانتزعت الصورة، فتبدد الغطيط وفاق من فاق، ليكتشف أن ‘كل ذلك كان حلما’ فمرارة الواقع تفوق كل التصورات، والحماسة إلى رجل الدولة تبددت أمام دولة الرجل الواحد، وها هي الجزائر الآن تصارع في غرفة الإنعاش بحثا عن رجل إنقاذ آخر. قيل إن فخامة الرئيس كان مطلعا على كل شيء، وقيل أيضا إن حاشيته كانت تمنع عنه حقائق كل شيء، وقيل إن التجاذب في خلفية المشهد يخالف ما في ظاهر كل شيء، وأقول إنه لا مانع من الحديث عن أشياء أخرى، سأترك سجالات المرحلة الراهنة رغم حساسيتها لأنه لم يعد لدينا شاغل سوى مرض رئيس الدولة أو ربما الأصح دولة الرئيس. إن هموم الجزائر كثيرة، وبات علينا أن نقف عند انشغال يجمع بين أبناء هذا الوطن؛ ألا وهو مستقبل الجزائر، لم نعد نبالي كثيرا بهوية من يصنع القرار السياسي، قدر ما تشغلنا انعكاسات القرارات على المصلحة العامة، لم نعد نتألم من تصريحات سخيفة لدى بعض كبار المسؤولين قدر ما نتحسر على شعب خانه المنتفعون، لم نعد نبالي بعظمة الإنجازات التي يتباهى بها السذج، قدر ما نستصرخ من في الوجود لفظاعة التكاليف التي فاقت حدود المنطق والخيال معا، وقد قفزت الجزائر فجأة من زمن الاحتكار على السكر والزيت، إلى عهد السطو على المال العام كمشروع للربح السريع، ويبدو أن من تعمد إغراق الجزائر بالفساد الفاحش تعمد أيضا أن يضيع الغريم الحقيقي لهذا الوطن. قد لا يكون من شيم المروءة انتهاج سبيل التشفي أو السخرية ولست ممن يستغلون الفرصة في ضعف الرجل، لكن شؤون الجزائر أهم وأعظم، لأن الوطن لا يمثله العابرون رجالا أو أنظمة، بل إن الوطن بتاريخه وإنجازاته. ولعل مما يعيب جزائرنا اليوم هو اختزال دولة في رجل وتغييب كلي للمؤسسات، وكم أصبح من السهولة خلال هذه المرحلة ملاحقة صحافي يبحث عن الحقيقة بدل إعطاء الأولوية لتفعيل قوانين متابعة الفساد قبل فوات الأوان. لقد عـُلقت آمال كثيرة في فترات حكمه المتراكمة كي يتم إنقاذ جيلنا ‘الجيل الضحية’، الذي حلت عليه لعنة الإرهاب في سنين الجمر، لكن أهمية المرحلة الحالية تفرض علينا التركيز على مستقبل جيل أبنائنا ‘الجيل الضائع’، لم نعد نبالي كثيرا بمشاريع المحاسبة على الفساد؛ قدر ما تؤرقنا الحاجة إلى تكريس مفهوم همشته القيادة طويلا بوعي أو بغير وعي، وهو إعادة تعمير البنية الأخلاقية للمجتمع. إن الفارق بين الأجيال الآن يشكل شرخا عظيما في لحمة المجتمع الجزائري بسبب الظروف المتغيرة، فالجيل الضحية رغم كل شيء كان محظوظا بطفولة تمتعت بالبراءة والرخاء عندما كانت الجزائر شامخة تنفض عن عباءتها غبار ثلاثة عشر عقدا من الاحتلال، وأما الجيل الضائع فقد دفع الثمن وسيدفع ما تبقى من وجوده إذا لم تستدركه الإغاثة بالإسعافات، فقد عاش سياسة التجهيل والتهميش، وتجرع مفاهيم الظلم والدم، وغرق في العنف المدني حتى تمرد على كل الضوابط، كيف لا؟ ومن ولد مع شرارة ‘الإرهاب’ أضحى شابا يناهز عمره الربع قرن. إن الجزائر الآن تقف أمام جيل جديد بحاجة إلى من يأخذ بيده إلى مستقبل آمن، ويؤمن له صروح التربية والتعليم حتى يكون حاميا لهذا الوطن لا عبئا عليه، وحتى يحمل لواء الولاء لهذا الوطن بوفاء يعكس نزاهة الجيل الذي صنع ملاحم ثورة التحرير، إن الجزائر الآن بحاجة إلى إحياء خطط التنمية التربوية لإعادة إعمار العقول بعد أكثر من عقدين من التشرد الفكري والفكر الشارد. نحن في مرحلة يجب فيها على القيادة الجزائرية أن تنظر إلى الواقع بجدية أكثر وتقدم مبادرة حقيقية وشجاعة، واضعة الأولوية لتغذية العقل والبطن معا، ساعية إلى إعادة الهيبة إلى القدوة المفقودة في المجتمع الجزائري، ومثلما يجب أن يعاد الاعتبار إلى معلم في المدرسة الابتدائية يجب أيضا أن تعاد الهيبة إلى الشرطي، والنزاهة إلى السياسي، والاحترام والتقدير والطيبة والثقة إلى تفاصيل الحياة اليومية. تلك صفات دفنت حلاوتها سنواتُ الجشع في ذاكرة القدامى، ولا شك أن من القيادة من يحن إلى جزائر الأمس، تلك الجزائر التي يحلم بها كل شريف لأن تعود وتعيد معها الرحمة إلى قلوبنا. لا خاتمة لكل هذا الكلام، فكل كلمة وراءها حكاية، وكل حكاية لها حتما بداية، وما نحلم به الآن هو أن نقوى على وصل الحاضر بالماضي كي نستمر في أمان، ومن ليس له تاريخ يستمد منه قوته فلا ينتظر أن يكون له مستقبل معطاء. نحن الآن في مرحلة انتقالية حساسة وإن أمامنا فرصة ثمينة لا خيار لنا فيها سوى قلب صفحات مسودة، فهل من قرارات شجاعة يا رجال الجزائر؟ لقد ترددت كلمة في وجه الثورات ونكررها لكم بلهجة صارخة: أنقذوا الجزائر قبل فوات الأوان.