القدس ـ «القدس العربي»: يفتخر بهاء عواد، مدير كلية قلنديا للتدريب المهني، التي تقع بين مدينتي رام والله والقدس، أن مكتبه وجميع الأثاث الذي يحتويه هو من إنتاج طلبة الكلية، ويشير بيده: «باستثناء هذا الكرسي الحديث فإن الطلبة نفذوا كل ما ترونه في هذا المكان الجميل» وذلك في إشارة إلى دور الكلية الجوهري في تمكين مئات الشبان والفتية اللاجئين من مهن تجعلهم منتجين لعائلاتهم ومجتمعاتهم المهمشة.
وكي تصل إلى مكتب عواد عليك المرور عبر طريق ممتد، على جانبيها عنابر ضخمة بنيت خصيصا من أجل أن تكون بنية حديثة لتدريب آلاف الطلبة القادمين من بيئات اللاجئين الأقل حظا من ناحية التعليم أو القدرات المادية في عموم الضفة الغربية.
وعند السير في الطريق تطالعك ملامح الطلبة في سن المراهقة، وهي تتفاوت بين الملامح البريئة والقاسية، فهم يأتون للمكان الوحيد الذي يقدم بيئة مثالية للتعليم المهني من عموم المناطق الفلسطينية وتحديدا مخيمات اللجوء الفقيرة.
يشدد عواد على أن الطلبة الذين أتقنوا تصنيع أثاث مكتبه أصبحوا في مهب الريح بفعل سياسات الاحتلال الإسرائيلي بحق وكالة غوث وتشغيل اللاجئين-الأونروا.
مسؤول آخر في مكتب عواد تحدث عن أنه يعمل بالوكالة منذ ما يقرب من 36 عاما، حيث مرت الوكالة بمجموعة من الأزمات الصعبة، «لكن الأزمة الحالية مختلفة تماما».
يضيف: «إنها من نوع من مختلف.. ربنا يستر». يخرج عواد من مكتبه برفقة «القدس العربي» ليلتقي مع وسائل إعلام أجنبية جاء أغلبها من القدس حيث تقيم، ويشرف على جولة في عنابر تدريب فسيحة توفرها الكلية التي تقع قرب مخيم قلنديا/ حي المطار حيث أصبح يتهددها الإغلاق.
يقف على المدخل بين الأشجار العالية ويقول بحماس: «نحن في المركز التدريبي الأول من نوعه في الضفة الغربية والقدس، الذي أنشأته الأونروا عام 1953. نتحدث عن 71 عاماً تخرج خلالها أكثر من عشرين ألفاً من المتدربين».
ويضيف: «نقدم في هذه الكلية التدريب المهني للشباب الفلسطيني اللاجئ، وذلك ضمن 16 برنامجاً من التخصصات المختلفة المقسمة إلى ثلاث مجموعات. الأولى تندرج ضمن تخصص الكهربائيات والاتصالات، والثانية تختص بقطاع الميكانيكا، أما المجموعة الثالثة فهي تختص في قطاع البناء والحدادة».
ويتابع: «تكمن حساسية هذا البرنامج وأهميته في كونه يستهدف فئة الشباب صغار السن، لم يجد معظمهم الرغبة أو الاهتمام في استكمال التعليم الأكاديمي التقليدي، كما أن عائلاتهم لا تملك المقدرة الاقتصادية الكافية لتغطية تكاليف التعليم المهني الخاص. فعملت كلية قلنديا للتدريب المهني على استيعاب هذه الفئات وتقديم فرصة مجانية لهم للانضمام إلى برامجها التدريبية. بحيث تمكنهم وتعزز فرصهم من الانضمام لسوق العمل خلال فترة قصيرة».
وتعتبر فرصة حصول هؤلاء الخريجين على العمل عالية «نتحدث عن نسبة توظيف تصل إلى 85 في المئة وهي تشكل قرابة ضعف نسب التوظيف على المستوى الوطني للمؤسسات التدريبية الأخرى».
وشدد على تنوع البرنامج التدريبي للكلية، «نقدم البرامج والأنشطة والخدمات الداعمة. لدينا سكن داخلي يغطي احتياجات 300 متدرب، ومطعم يقدم الغذاء للشبان الصغار القادمين من مناطق بعيدة وللمتدربين المقيمين في السكن الداخلي، كما أن لدينا برنامجاً للمناهج الدراسية المشتركة والذي يتعلم طلابنا من خلاله قضايا مهمة في العالم من حولهم تمس حياتهم، أو تعلمهم مهارات ذات فائدة في سوق العمل».
ويأتي حديث المدير عواد إلى جانب مجموعة من الموظفين بمثابة معركة أخيرة تخوضها الوكالة للدفاع عن حضورها وبقاءها في خدمة مجتمع اللاجئين وتحديدا في مدينة القدس والمنطقة المحيطة بها أمام مخاطر وقف خدماتها.
وقبل أسبوعين أقر «الكنيست» الإسرائيلي بشكل نهائي، بالقراءتين الثانية والثالثة، قانونا يحظر نشاط وكالة الأمم المتحدة لغوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين «أونروا» داخل إسرائيل، وذلك رغم التحذيرات الأممية والدولية من خطورة هذا التشريع الذي ينتهك المواثيق والقوانين الأممية والدولية.
وسبق التهديدات الأخيرة قرار من سلطات الاحتلال بعد تحريض عليها وطلب رسمي من نائب رئيس بلدية الاحتلال آريه كينغ بإخلائها، ودفع رسوم اشغال بأثر رجعي بقيمة 17 مليون شيكل تحت ذريعة أن الأرض المقام عليها المعهد لا تتبع للأونروا وانهما تتبع لما تسمى بـ«دائرة أراضي إسرائيل».
وتعتبر الكلية إحدى المؤسسات التابعة للأونروا التي تقع بين مدينتي رام الله والقدس، وهي تقع على أراضي تتبع بلدية القدس (أراضي دولة) وهو ما يضاعف من مخاطر إغلاقها.
يخبرنا الموظفون أن الأرض التي تقع عليها الكلية منحت للوكالة من الحكومة الأردنية منذ أكثر من سبعين عاما.
عن ذلك يقول جوناثان فاولر، هو كبير مديري التواصل في الأونروا، لـ«القدس العربي» إن الكلية هي «مكان مميز ومثير للاهتمام في نطاق عملنا، حيث نقدم فيها التعليم والتدريب المهني، في حين أن معظم مؤسساتنا التعليمية تقدم التعليم التقليدي للمتعلمين الأصغر سناً. لكن في هذا المكان، مدرسة التدريب المهني، نحن نعلم المراهقين الأكبر سناً مهارات مختلفة لتمكينهم من الاندماج في حلقة الاقتصاد. فهي زاوية مختلفة تماماً من الخدمات التعليمية التي نقدمها».
ويضيف فاولر، في حديث صحافي سابق: «لم يتم إبطال اتفاقية الإيجار مع الأردن من قبل السلطات الإسرائيلية بعد عام 1967. لدينا حقوق حصرية للمجمع في الشيخ جراح-القدس الشرقية (مقر الأونروا الرئيسي) ولدينا أيضًا حقوق حصرية لمركز قلنديا للتدريب». وتبدو الكلية مساحة استثنائية مقارنة مع محيطها حيث منطقة مخيم قلنديا وبلدة كفر عقب التي تضخمت كثيرا من دون أي أسس عمرانية أو خدماتية لتستوعب السكان الذين دفعتهم سياسات الاحتلال في مدينة القدس بالرحيل إلى إطار إداري يتبع بلدية الاحتلال لكن بعيدا عن المدينة.
ومن بين الأشجار العالية يمكن رؤية شاحنات صب الأسمنت تعمل من دون توقف في بناء عمارات ضخمة في ظل تضخم أعداد السكان القادمين مع تصاعد سياسات التضييق والتهويد.
وحتى اللحظة، لم تتحدث إدارة الكلية للطلبة الذين يبلغ عددهم نحو450 طالبا عن الخطر الذي يتهدد كليتهم بالإغلاق بشكل رسمي.
وحسب الإدارة فإن الطلبة جاءوا فرادى وجماعات من أجل السؤال عما سمعوه من أخبار تقول إن هناك احتمالات إغلاق الكلية بعد القرار الإسرائيلي الأخير الذي يقضي بمنع الوكالة من ممارسة عملها في خدمة مجتمع اللاجئين.
سألنا المدير عواد عن اللحظة الصعبة التي قد يضطر فيها إلى أن يخبر الطلبة بإغلاق الكلية فرد: «ان شاء الله لا نصل لهذه اللحظة، إنها لحظة مؤلمة لهم جدا. ليست لدينا مخاوف على أنفسنا. فنحن لدينا مهن وشهادات وسنوات خبرة وبالتالي سنجد العمل، أما هؤلاء الشباب فأين سيذهبون؟».
ينخرطون في الصراع
ويكمل عواد حديثه عن المستقبل المتوقع للطلبة في حال إغلاق المكان: «إنه مستقبل مجهول، إنهم شباب رأوا أن أخوة أو أقارب لهم جاءوا إلى الكلية سابقا وتعلموا مهنة وأصبحوا منتجين لأنفسهم ولعائلاتهم، وهم هنا من أجل التعلم وضمان الحياة الكريمة، ومن دون الكلية سيكون مصير نحو 450 شابا في الشارع بكل ما يحمل ذلك من احتمالات أن يكونوا عمالة رخيصة أو جزءا من حالة العنف أو من بطالة الشباب. كما يمكن ان يكونوا جزءا من الصراع حيث يتم تضليلهم، إنهم شبان من فئات حرجة وإغلاق الكلية يعني رميهم بالشارع».
ويشدد انه لا توجد أي مؤسسة تطرح التعليم المهني للاجئين غير كلية قلنديا في كل الضفة الغربية والقدس المحتلتين.
ويفتخر عواد بالقول إن الكلية عبر تاريخها الطويل خرجت آلاف الطلبة، «هؤلاء يعملون في كل المحلات والكراجات المحيطة، وفي المؤسسات الرسمية والأهلية ودول الخليج أيضا، وإغلاق المؤسسة سيدمر أحلام مجتمع اللاجئين، فانا أستقبل طلبة من كل الضفة، وهذه السنة استقبلنا أكثر من 600 طلب من أجل الالتحاق بالكلية، وهو ضعف ما كان سابقا».
وعن السبب في ذلك رأى أنه يعود إلى تواصل الكلية مع مجتمع اللاجئين، وزيارات الكلية إلى المدارس والمخيمات، وإلى الوضع الاقتصادي الصعب بفعل الحرب على غزة.
ويتابع: «هناك طلبة يمكن أن تذهب للجامعات أو مراكز تدريب خاصة، لكن الطلبة الذين يأتون إلى الكلية يفتقدون إلى هذه الإمكانيات، كما أنهم يستغربون الإمكانيات العالية التي تمتلكها الكلية، نحن نوفر لهم 28 ساعة مشاغل أسبوعيا (تدريب عملي) و7 ساعات مساعدة، وتدريب في المؤسسات الشريكة، وهذا يجعلهم يخرجون لسوق العمل مباشرة».
ويختم: «بعض الطلبة سمعوا عن أنباء إغلاق الكلية، وقاموا بمراجعتنا، وقلنا لهم «يا شباب نحن شغالين لآخر نفس، لن نقلق من أي شيء، سنبقى نخطط ونعمل كأن الأمر طبيعي حتى آخر لحظة. لن نجعل الأخبار تحبط الطلبة، وبذا لن أتحدث عن بدائل، همنا اليوم التركيز والاستمرار بالعمل مع الطلبة».
ولم تبدد تلك التصريحات مخاوف العاملين أو بعض الطلبة الذين أبدوا اهتماما بالقضايا العامة ومن ضمنها مصير كليتهم والأونروا عموما.
«الخير قادم»
تجولت «القدس العربي» في عنابر الكلية الكثيرة، والتي رمم بعضها بدعم سعودي وسويدي كما تشير يافطات على مداخلها، وكل عنبر يضم نحو 20 طالبا قريبي الأعمار، وأغلبهم دون الثامنة عشرة، سألناهم عن المخاطر التي تهدد الكلية، وجميعهم أجمعوا على أملهم بإن «الخير قادم» وأن «لا عمل أمامهم سوى العودة للشارع والبطالة في حال لم يكملوا تعليمهم».
أخبرنا طلبة من شمال الضفة وجنوبها عن المخاوف قائلين: «اليهود بدهم يوخذوا المكان… وهو ما يعني خسارة التعليم.. وعودتهم لأماكن سكنهم في المخيمات.. مش خايفين… الله بسهلها.. إن شاء الله خير».
ومن مخيم في الخليل يتحدث طالب حول الخيارات المتاحة، فيقول: «كله ع الفاضي، إسرائيل مش رادين على حدا» (لا يهتمون بأمر أحد).
وقال طالب ثالث: «شو طالع بدينا نعمل.. نريد أن نتعلم.. تركت المدرسة كي أتعلم مهنة.. وبالتالي لا يجوز التوقف عن التعلم هنا.. لا خيار أمامي غير الاستمرار».
وانعكست الأنباء المرتبطة بالإغلاق على المدرسين والمدربين في الكلية، تحدثنا مع بعضهم ممن رافضوا الإفصاح عن أسمائهم في ظل عدم التصريح لهم بالتحدث مع وسائل الإعلام، وجلهم شددوا على أن الصورة ضبابية وغير واضحة المعالم وهو ما ينعكس على خطط التدريس والراحة النفسية للطلبة المتدربين.
يقول أحدهم ومن حوله تحملق مجموعة من الشبان الذين يرتدون «أفرهولات» كحلية (ملابس خاصة بالعمل): «لدينا خطة عمل سنوية. التدريب مقسم على شهور، والسؤال: كيف أغطيه وأنا لا أعرف متى ينتهي الفصل الدراسي؟ قد ينتهي خلال شهرين، ولكننا عمليا ندرس الطلبة على أنه ليس هناك أي خطر يتهدد مستقبلهم. لا أريد تحطيم نفسيات الطلبة، وككلية هدفنا المعلن أن يكمل الطالب البرنامج الدراسي بأي آلية».
وأضاف: «أي إنسان يحتاج راحة نفسية كي ينتج. كمدرب وموظف في الكلية لا أستطيع منحه الراحة النفسية في ظل أنني أعاني من غياب الراحة وعدم وضوح صورة المستقبل».
وشدد مدرس آخر على أن التعليم عن بعد لا يناسب التعليم المهني، «إنه فعال في حال كان وجاهيا وعمليا في العنابر المخصصة لذلك، لا يمكن نقل المهارات عن طريق التعليم عن بعد. قد يكون أداة مساعدة، ولفترة زمنية محددة، وبالتالي إنه ليس حلا، إغلاق المكان يعني إنهاء السنة الدراسية وإنهاء مستقبل الطلبة».
وأضاف: «الوضع ضبابي لدرجة كبيرة. المعلومات محدودة جدا. الخطوات غير معروفة لنا، ولا معلومات كافية، والقضية ليست المعهد، إنما جميع خدمات الوكالة الدولية، فجميع الخدمات في الضفة والقدس تمر من تحت أيدي الاحتلال ومن القنوات الإسرائيلية، وبالتالي وقف التعاون مع الوكالة سيشل حركتها في كافة المناطق وليس فقط في القدس، وهذا سينقلب إلى مأساة لمئات آلاف اللاجئين».
وختم: «لا يمكن التنبؤ بشيء حتى هذه اللحظة. كلها توقعات وننتظر المجهول ولا نعلم ما هي الخطوة القادمة.
ورغم الأمل في تصريحات الطلبة وإنخرطهم في أعمالهم التدريبية بهمة وحماس إلا أن المكان الفسيح والمثالي بدا وكأن غيمة سوداء ثقيلة تظلله. فالقائمون على المعهد يتحسسون الخطر الحقيقي، «فالظرف الدولي مختلف هذه المرة» والاحتلال يعتقد أن «الفرصة سانحة للقضاء على الوكالة وتجفيف خدماتها تمهيدا لشطب حق العودة».
يذكر أنه تم تأسيس الأونروا في كانون الأول/ديسمبر 1949 بناءً على قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم 194 الذي يكرّس حق اللاجئين الفلسطينيين في العودة بعد طردهم من قبل القوات الصهيونية والإسرائيلية في 1947-1948.