■ عُرضت على خشبة مسرح باترسي للفنون في لندن مسرحية «إكس عدرا» للمُخرج السوري رمزي شُقير المقيم في مدينة مارسيليا حاليا، ونالت استحسان المُشاهدين البريطانيين، الذين ينتمون إلى جنسيات مختلفة.
لا تنتمي الشخصيات الست الرئيسة للعمل المسرحي إلى عالم التمثيل، لكنها تمكنت من تأدية أدوارها بمهارة معقولة لا يتوفّر عليها الناس العاديون. فهنّ لسنَ فنانات مُحترفات، ويمكن اعتبارهنَّ هاويات تماما لكنهنَ مُصرّات على تقديم هذا العمل الفني الذي يروينَ بواسطته حكاياتهنَّ المريرة ليكشفنَ عن بشاعة النظام السوري في عهد حافظ الأسد، والابن بشّار الذي سارَ على خطوات أبيه، وأوغل في القتل والتخريب والتشريد، وأمعنَ في مصادرة الحريات الشخصية، والعامة فأدخل البلاد في نفق مظلم يصعب الخروج منه إلاّ بخسائر جمّة، ومَنْ ينجو بجلده من سجون النظام ومعتقلاته، سيئة الصيت والسمعة، فإنه يحمل معه سجنه الانفرادي أو زنزانته الجماعية التي تحمل في العادة أسماء الأحزاب السياسية المناهضة للنظام مثل «زنزانة الإخوان المسلمين» أو «زنزانة الشيوعيين» وهكذا دواليك، فحزب النظام هو الصفوة والأنموذج، بالنسبة لرؤيتهم المِعوجّة، والآخرون جميعهم يقفون على الضفة المناوئة لهم، ولا يجدون حرجا في تسميتهم بالخندق المعادي للشعب مع أنهم يشكلّون الغالبية العظمى فيه، حيث تُنتهك حقوقهم وإنسانيتهم في كل لحظة أمام أنظار العالم من دون أن يُحرّك ساكنا ليُوقف هذا الدمار الكبير، الذي يلحق بأشقائنا السوريين القابعين تحت قصف الطائرات، ودويّ البراميل المتفجرة، أو المحشورين في سجونه ومعتقلاته المبثوثة في طول البلاد وعرضها.
تتمحور فكرة المسرحية حول سجن الناشطات السياسيات السوريات من مختلف المشارب والأعمار، وهنّ بكلمات أخر، النخبة الفكرية للمجتمع، وصفوته الثقافية التي تزاول حراكها السياسي بإصرار عجيب، على الرغم من قساوة النظام ووحشيته التي يندر أن تجد لها مثيلا في مجمل دول المعمورة. أما الزمان في المسرحية فيمتد من ثمانينيات القرن الماضي حتى انطلاق الثورة السورية المجيدة عام 2011 بتداعياتها المعروفة للجميع، الأمر الذي يتيح للمخرج وكاتب النص أن يسلّط الضوء على حقبة الطاغية حافظ الأسد ونجله في الوحشية والدمار الذي لم «يبشِّر» شعبه إلاّ بالقتل والتجويع والتشريد والاعتقال. تنفرد الشخصيات الست للعمل المسرحي بخصوصيات ذاتية دقيقة، لكنها تشترك جميعها بمحنة السجن والاعتقال، بغض النظر عن المُدد الزمنية، على الرغم من أهميتها وتأثيرها على شخصية السجينة، وقدرتها على تحمّل الظروف الشاقّة التي لم تعهدها من قبل. يتكئ العمل المسرحي على ست شخصيات وهي على التوالي: هند القهوجي، وعلي حامدي (عُلا سابقا) ومريم حايد، ورويدة كنعان، وهند مُجالي، وكندا زاعور، إضافة إلى المغنية هلا عمران، الآصرة التي توحّد شخصيات العمل المسرحي وتشدّ بعضها بعضا.
تأخذنا الشابة التي اُعتقلت في سن الثامنة عشرة في عام 2009 إلى تُهم غرائبية من قبيل «إضعاف الشعور القومي» أو «المساس بهيبة الدولة»، وقد تعرّضت هذه الضحية لشتّى أنواع التعذيب.
تستهل المطربة هلا عمران المسرحية بأغنية معبّرة جدا تلامس شغاف القلوب مفادها:» يا نجمة الصبح فوق الشام علّيتي/ الجْواد أخذتي، والنِذال خلّيتي/ نذرا عليّ إن عادوا حبابي ع بيتي/لأضوّي المشاعل وحنّي العتاب». ثم تتوالى الشهادات، ويتعمّق البوح، فالسجينة «إكس» لا تعرف مكان سجنها وكأنهم زجّوها في تجربة اللامكان، الذي سوف يفضي بالضرورة إلى اللازمان أيضا، وربما تنتهي إلى المنطقة العائمة التي تتوارى فيها الأبعاد الأربعة، وهذا الضياع ناجم عن فظاظة الجلادين، الذين يُنزلون بضحاياهم أقسى العقوبات، ولم يبقَ أمامها سوى خيارين لا ثالث لهما، فإمّا الموت بشرف أو نيل الحرية بكرامة، وينبغي على هذه السيدة أن تغادر هذا المكان اللعين.
ليس بالضرورة أن نتوقف عند السجينات الست، إذا ما استثنينا المطربة هلا عمران، فهند القهوجي، وهي أكبرهن سنا تعود بذاكرتنا إلى بداية الثمانينيات، حيث سُجنت مرتين بسبب انتمائها لحزب العمل الشيوعي السوري، ففي عام 1982 زُجت في السجن لمدة سنة واحدة تحمّلتها على مضض، لكن هذه المدة ستطول عام 1984، وسوف تقبع في السجن لمدة سبع سنوات وسبعة أشهر تقضي بعضها في زنزانة انفرادية، ثم تُنهي بقية محكوميتها في سجن «قَطَنة» المخصص للنساء، ولعلها المرة الأولى التي ينقلون فيها معتقلة سياسية إلى سجن مدني. وعلى الرغم من معاناتها الشديدة خلال هذه السنوات الطوال، إلاّ أن وجود الطفلة «سُميّة» سوف يخفّف عنها وطأة الألم، والتوحّد، والشعور بالغربة وهي في دمشق، قلب بلدها النابض. إذا كانت قصة هند القهوجي تذكّرنا بمحنة الأطفال الذين يولدون ويترعرعون بين جدران السجون المُوحشة، فإن حكاية الإعلامية رويدة كنعان تُحيلنا إلى الغياب القسري لصديقها خالد، الذي سُجن بسببها ولم تعرف مصيره حتى هذه اللحظة، مع أنها كانت تحبه بصمت، لكنها قطعت على نفسها عهدا بعد غيابه بأنها سوف تظل تحبه وتنتظره إلى الأبد.
تأخذنا الشابة التي اُعتقلت في سن الثامنة عشرة في عام 2009 إلى تُهم غرائبية من قبيل «إضعاف الشعور القومي» أو «المساس بهيبة الدولة»، وقد تعرّضت هذه الضحية لشتّى أنواع التعذيب. وحينما أُفرج عنها أجبرها والدها على الزواج من ابن خالها رغما عنها. أما القصة الموازية لها فهي قصة صديقتها «منال» التي تعرضت للاغتصاب على يد السجّان باسل بطريقة بشعة، بعد أن ثبّتها في دولاب سيارة، وقيّد معصميها بجامعة يدوية، ثم نال وطرهُ منها بخسة ودناءة، تاركا إياها تتخبّط في يأسها وانكسارها وكرامتها المجروحة. لا تخلو قصة عُلا التي تحولت جنسيا إلى علي، وبعث في خاتمة المطاف رسالة إلى أمه المتوفاة يخبرها بأنه لم يكن بنتا ذات يوم ولن يكون في المستقبل، وقد علّمه السجن بأن يكون رجلا، أما عُلا الـــسابقة فقـــد ماتت ولن تشرئب برأسها ذات يوم.
أفادَ المخرج المبدع رمزي شُقير من تقنيات الفوتوغراف، والكتابة، والشاشة البيضاء في عرضِه المسرحي، الذي عزّزه الدراماتورغ وائل قدّور، كما لعبت الإضاءة المتقنة لفرانك بيسون دورا مهما في التناغم مع المناخ السردي المؤلم. ويبدو أن المخرج أخذ بعين الاعتبار الجمهور الإنكليزي، فلا غرابة أن يسند عملية الترجمة الدقيقة إلى أربعة مختصين وهم فرح عليمي، وعمّار حاج أحمد، وأميلي سكاريت ونادين لطيف، الذين لم يَفُتْهُم شيء من المعاني الحقيقية والمجازية، ولهذا تفاعل الجمهور مع العرض المسرحي، وظل يصفق لدقائق طويلة مُعربا عن إعجابه بقدرات الممثلين الأدائية، والتقنيات الصوتية والبصرية التي تألق فيها الفنيون، هذا إضافة إلى الرؤية الإبداعية المُرهفة لمخرج النص وكاتبه، الذي استطاع أن يطوّع مادته السردية إلى هذه الدرجة الاحترافية، بحيث لم يشعر المتلقون بأي نوع من الملل، بل بالعكس كان الجميع متفاعلين مع قصص الضحايا، ومتعاطفين معهم إلى درجة أن البعض منهم كان ينشج في بعض المواقف المؤلمة، سواء في التعذيب أو الاغتصاب، أو القتل الوحشي اللامبرر.
٭ كاتب عراقي