يفترض ياسمينة خضرا أن الجزائر يحكمها إله، يُطلق عليه «رب الدزاير» تارة أو «رُبوب» تارة أخرى. فهو الواحد والمتعدد في آن، الفرد والجماعة. تجاوز الثمانين ويحكم رقاب الناس ويحركهم كما يحرك لاعب قطع الشطرنج. لا نعرف اسماً له، ولا صورة واضحة لوجهه، ويُسميه الكاتب حمر العين. لا نراه في شارع سوى في سيارات مصفحة، ولا نلمحه ـ قط ـ يتسكع على قدميه في أمكنة عامة. كل من يحوم في فلك «رب الدزاير» إما يصير مسؤولاً كبيراً في الدولة، أو يُسحق ويُرسل إلى النسيان، إذا غضب منه الرجل الأعلى. لا أحد يُقاسمه السلطة ولا يخشى قانوناً أو شرطة. ذلك هو التوصيف الذي كتبه عنه ياسمينة خضرا في روايته «ماذا تنتظر القردة»، التي صدرت خمس سنوات قبل بدء الحراك الشعبي السلمي، ورسم فيها بورتريه مركزا عن جمهورية الظل، التي تمد ساقيها في الجزائر.
«حمر العين لا يخرج من بيته كثيراً. يفضل أن يتمتع بأوتوقراطيته. لقد أحضر العالم كله إلى الداخل. وأنشأ مستشفى في القبو. الحاج حمر العين لا يكتفي بعدم دفع الضرائب، بل يسرف في اللعق من الخزينة العامة. في الجزائر نبرر هذا التصرف بالشرعية التاريخية». ياسمينة خضرا يحكي ما يدور خلف الستار، بدون أن يسمي الأشياء بمسمياتها، ومع قليل من النباهة نفهم ما يرنو إليه، فمنذ الصفحات الأولى للرواية قرر أن يكون نداً للجماعة الحاكمة، أن يفضحها في رواية، تجنباً للملاحقات القضائية، أن ينزع عنها الشرعية التاريخية التي تتفوق بها على بقية الشعب، وهي الاستعانة بالماضي، بسنوات الثورة ضد الاحتلال الفرنسي، فكل الذين خرجوا سالمين من الحرب، بدون أن يطلقوا رصاصة واحدة، لم يكتفوا بنصيبهم من الغنائم، بل قرروا أن يحكموا البلد، ولا يزالون كذلك منذ خمسة عقود ويزيد.
حمر العين رجل واحد برؤوس متعددة، كما لو أنه كائن خرافي. رجله في مكان ورجله الأخرى في مكان آخر أبعد.
العتبة الأولى كي يستمر «رب الدزاير» في الحكم، ويكسب معاركه الجانبية، ويكسر سطوة منافسيه، هي السيطرة على الإعلام، هي أم المعارك في الأنظمة الأوتوقراطية، لذلك ابتكر المؤلف شخصية أخرى تحضر، في الرواية، بحضور حمر العين نفسه وهو «عبد الدائم»، مدير مؤسسة إعلامية، لا تهتم بنقل الخبر بل بنقل ما تؤمر به. وحين يصعد نجم مُعارض يسرع عبد الدائم إلى فيلا حمر العين، كي يسمع منه التعليمات ويطبقها، كما حصل في واحدة من المرات وأمره بدون أن يسمح له بالرد: «لقد طلبتك كي تسكت هذا الأبله إلى الأبد. فتش في حياته الشخصية، ولا بد أن تجد فضيحة ما. وإذا لم تجدوا شيئاً رقعوا له فضيحة تليق به». هكذا يأمر إله الجزائر وليس على مدير الجريدة سوى الاستماع والتطبيق. فمن خلال شبكة المصالح التي تجمع بين الطرفين، يسرد ياسمينة خضرا جبل الجليد الخفي من قطاع الإعلام، الذي تحكمه المكالمات الهاتفية وصكوك بنكية وامتيازات عينية، وليس الصدق أو التحري أو البحث عن المعلومة الصحيحة. فحمر العين هو رئيس تحرير كل الجرائد، ومديروها ليسوا سوى منفذين.
حمر العين رجل واحد برؤوس متعددة، كما لو أنه كائن خرافي. رجله في مكان ورجله الأخرى في مكان آخر أبعد. فهو من يعين مسؤولين في مؤسسات الدولة، ومن يُريد أن ينال شيئاً من بركاته، فليس عليه سوى إرسال وسيط له إلى بيته، أو التودد إليه شخصياً، حيث يحكي المؤلف عن شخصية تبوأت مناصب دبلوماسية تفشل فيها كلها، وتنتهي بإقالتها، قبل أن يلتمس شفاعة «رب الدزاير» كي يعينه في مجلس الأمة، هكذا ينوب حمر العين عن رئيس الجمهورية في مهمة من صلاحيته حصرياً، هذا الأخير يصوره خضرا كغائب أزلي، نسمع باسمه ولا يصدر عنه أي صوت أو فعل.
في محيط حمر العين يصنف الناس بشكل هرمي، من الأقرب إلى الأبعد، من الأكثر أهمية إلى أقلها، وفي الرواية يجد المثقفون والكتاب أنفسهم في الدرجة الأدنى، لا قيمة لهم ولا حضور سوى في التنكيت عليهم أو توظيفهم في مهمات سريعة الالتهاب، وغالبا لا يمنحهم حمر العين وقتاً للحديث معهم أو ملاقاتهم، بل يفضل أن يوفد لهم خدمه كي يسمعوا منهم ما يريدونه، وفي أفضل الحالات يقذفونهم بفتات إذا كثر ضجيجهم وشكواهم وزاد استياؤهم من الوضع العام. قابل عبد الدائم أحد هؤلاء المثقفين وأبلغه بما يفكر فيه إله الجزائر اللامرئي: «لا نحب المثقفين لأنهم نرجسيون. يتصارعون في ما بينهم ويعتقدون أنهم أفضل من الآخرين». لقد كان ياسمينة خضرا جارحاً في توصيفاته، وفي تصويره لما يحدث في الجزائر، لكنه لم يُجانب الواقع، وذلك ما نتأكد منه ـ نسبياً ـ مع الحراك الشعبي الذي تشهده البلاد، الذي أطاح بالرئيس بوتفليقة، فهناك إسقاطات لكل الشخصيات التي كتب عنها في روايته، التي مرت في صمت حال صدورها، رغم أنها نُشرت أيضاً في الجزائر وليس فقط في فرنسا، كما هي عادة رواياته التي سبقتها. فهل كنا ـ آنذاك ـ نخاف من النظر في صورتنا؟ نخشى أن ننتقد ذواتنا قبل أن يجتاح الشوارع ملايين المواطنين ويعيدوا كتابة تلك الرواية على الأرض بشعارات ويافطات؟
ابتعد ياسمينة خضرا عن محيط بوتفليقة، وكتب هذه الرواية، التي توفر لقارئها طوبوغرافية واقعية عن الفساد والحكم في الظل في العشرين سنة الماضية، في الجزائر.
لا يكتفي ياسمينة خصرا بتوصيفات للحياة العادية لرب الدزاير، التي يمكن أن يوشوش بها أي جزائري آخر، بل ينفذ إلى سهراته الخاصة، إلى لقاءاته الليلية، وطرقه في تعيين مسؤولين بحسب جودة خدماتهم لشخصه. لقد ركز الكاتب في رواية «ماذا تنتظر القردة» على إعادة تجسيد الحاكم بأمره في الجزائر، قسم روايته إلى حكايتين، بين رب الدزاير وقصة اغتيال شابة اسمها نجمة، لكنه في كل مرة يضعنا في مواجهة الإله، الذي يحكم في الظل، في ديكور كافكاوي، الذي يسير البلد بعيداً عن الأعين والكاميرات.
حين كتب ياسمينة خضرا هذه الرواية، التي تتساءل فيها واحدة من الشخصيات: «ماذا تنتظر القردة كي تصير بشراً؟» كان وقتها قد أكمل مرحلة من علاقة مباشرة مع الرئيس بوتفليقة ومحيطه، فمنذ مصافحته للرئيس المستقيل عام 2007، صار خضرا مديراً للمركز الثقافي الجزائري في باريس، اقترب من محيط الحاكم، ووصفه ـ في مقال له في جريدة فرنسية ـ أنه أشبه بممثل، يمتلك قدرة على الإقناع وتحوير النقاش وتبرئة نفسه. ابتعد ياسمينة خضرا عن محيط بوتفليقة، وكتبت هذه الرواية، التي توفر لقارئها طوبوغرافية واقعية عن الفساد والحكم في الظل في العشرين سنة الماضية، في الجزائر.
٭ روائي وصحافي جزائري