بعيدًا عن الكلام المعتاد والمقارنات التي كان يحلو للبعض من أتباع الرئيس الراحل محمد مرسي عقدها بين خوف النخب من حكمه وواقع اليوم، فإننا نقر أن طرفًا من تلك النخب كان يرى ما لم يره ويفهمه على معناه المخيف بل المريع كثير من أتباع الراحل ـ رحمه الله ـ، ومن ذلك على سبيل المثال ذهاب الكاتب المسرحي الراحل الموالي للكيان الصهيوني علي سالم لأحد مقرات “شركة مصر للطيران” في القاهرة سائلًا الموظف عن تذكرة لمصر، كان هذا بعد تولي مرسي الحكم وقبل إزاحته بالقوة عنه، رأى سالم أنه خارج مصر لأن فصيلًا معارضًا يحكمها، ولأن الفصيل منتمٍ للإسلام فيجب أن تكون مصر كلها قد تغيرت عن تلك التي يعرفها.
جريدة الأهرام
وغير بعيدًا عن الموقف السابق كتابة الكاتب الراحل محمد حسنين هيكل في “جريدة الأهرام” المصرية شبه الرسمية قبيل أيام قليلة من تولي مرسي، وفي عنوان يعد الثالث بعد الرئيسي وآخر لعله لم يكن موجودًا في ذلك اليوم: “الولايات المتحدة لن تسمح بحكم لدولة على ضفاف المتوسط”، لقد كان يشير ويغمز من طرف واضح لتجربة الجزائر العشرية المريرة، وهو ما لم يغب “للأمانة” عن بعض “المتربحين” المنتمين في غفلة من الحقائق والتاريخ للتيار الإسلامي نفسه ، إذ إنهم بعد مرور سبع سنوات على أحداث 2013م الدامية بشر بعضهم بسبع أخريات مختلفات، فلما مرت عشر سنوات والحال يزداد سوءًا قالوا إنها “العشرية الجزائرية الخاصة بمصر” ـ والعياذ بالله وحمى تعالى الجزائر ومصر، أي أنهم كانوا يستخدمون معاجم وقواميس أعدائهم بجدارة للانتصار لترهات للأسف، وللحقيقة فإن كبار نخب كانت تعد الحكم العسكري أفضل لمصر من حكم الإخوان أو حكم الدين، ومما شاهدناه وراقبناه مليِّا على مدار 11 عامًا فإن تلك النخب العلمانية أو أيًا ما يكون اتجاهها برفضها لحكم الصندوق الذي أتي بمرسي أجرمت في حق الأمة قبل مصر ونفسها؛ وأثبت لهم كثير من المتضامين مع الراحل مرسي أن مخاوفهم كانت في محلها للأسف المريع.
لكن الجملة قبل الأخيرة عن فاحش أخطاء وخطايا التيارات المدعية للوطنية في مصر بداية من تحقق ثمار ثورة 2011م لا تكتمل الجملة دون التذكير بالخطيئة الأبرز للإخوان المسلمين، وهي مختلفة بالطبع عن تطلعهم لحكم مصر، فمن حقهم أن يتطلعوا ويحلموا بالأمر سواء أكنا متفقين أو مختلفين معهم.
حب الخير للأمة
وقد كنا في الأعم المطلق نؤمن بالفكرة العامة من حب الخير للأمة ومصر والعالم، نسير في هداها معهم رغم باهظ الاختلافات حول الخطايا الممتدة منذ 1949م وأدت لمقتل الإمام حسن البنا ـ رحمه الله ـ وفق أوضاع دامية مرتبكة لم يردها الرجل فضلًا عن أن يختارها، ولكن طرفًا من الجماعة فرضها بالقوة عليه، وللأمانة فقد كان الرجل مُصلحًا نابغة في التنظير والحراك، وهو ما يندر أن يجتمع لوطني قبل مجدد للإسلام، لكنه لم يكن قادرًا على جمع متغيرات عصره والسيطرة على أطماع وترهات بعض أتباعه هذا قبل 1949م فما بالنا ببعدها على امتداد نحو 75عامًا، كانت فكرة البنا الأساسية قائمة للأسف على حلم “الخلافة الفاضلة” التي تحتوي الأسرة، الحي، المدينة، المحافظة، الدولة، القارة، والعالم، وكأن الشيطان والاختلاف ليس لهما وجود في العالم، ولم يستطع الحلم بما حلم البنا به كبار الأنبياء والمصلحين والرسل ولم يحققه حتى الرسول العظيم، صلى الله عليه وسلم، ولم يتفق اجتماع بشري حتى على الخالق تعالى في علاه، فكان علو الهمة الأكثر من نشاهق مؤذنًا بعدم تطبيق البنا لمنهجه في حياته أو بعدها، والأمر يحتاج تطويرًا فتيًا عفيًا يعالج ويسد الخلل ويلغي جوانب القصور؛ ويؤذن بارتقاء الجماعة فوق أخطائها المميتة من تعجل السيطرة على مصر لمحاولتين مريرتين كادتا أن ترديا الأمة لا مصر وحدها في الخمسينيات ثم في بداية العشرية الثانية من القرن الحالي.
أعتقد أن كل عاقل منصف يتفق معنا فإننا لسنا ضد حكم الجماعة أو غيرها طالما جاء بها أو بغيرهم الصندوق؛ وطالما قدموا خدمات وحافظوا على نقاء مبادئهم وكانوا أهلًا للتحديات وإضافة للحكم، ولم يكن الحكم مهلكة لأغلبهم باعثًا لانفصالهم عن الحياة وما حولها، ثم مؤذنًا بتحول طرف منهم إلى المزيد من محبة المال والسيادة والنفوذ ولو على حساب أقرانهم الذين لفتهم السجون أو حتى حبال المشانق او ذاقوا الإصابة، إذ تنكروا حتى لأهل المتوفين إلى رحاب الله من أصدقائهم، فضلًا عن غيرهم.
وللحقيقة فإن أزمة حكم الجماعة لم ترهق أعدائهم فحسب ولا مصر أو حتى الأمة بل أرهقت الإخوان أنفسهم أولًا، فلم يكونوا مؤهلين له على أي مستوى ولو كان تحقيق شعارهم القرآني الذي يدعو للإعداد للأعداء، فضلًا عن تخبطهم وظنهم أن الله ناصرهم رغم تخاذلهم وتيّه طرقهم وعدم مناسبة منهجهم للواقع حتى أنه أودى بالإمام المؤسس.
نخب فاسدة
و كما أسفر الواقع المتغلب بالقوة على حكم مصر عن نخب فاسدة حذرت وكرهت حكم الجماعة وبطش الجيش بجميع معارضيه بالداخل، بطشت قيادات صفوف ثالثة ورابعة وهلم جرًا بقدرات الجماعة بل الأمة لما فضل أغلبهم إلا القليل النادر أنفسهم على مقدرات الجماعة وحتى الأقران من الأساتذة فضلًا عن التدين ومبادئ الجماعة.
إن التيار الغالب في عالم اليوم المادي الاستهلاكي لا يعين مجموعة تريد الاستناد على الربانية، سواء أكانت عقيدتها صادقة أو غير هذا، وإنما في عالم السياسة تحديدًا كي لا تتشتت الطرق بنا أكثر فإنما نتحدث عن أسس وقدرات ومكانة؛ إن لم يكن البعض أهلًا لها وجب عليه أن يتركها ليتعلم، لا أن يعاند ويكابر ويكاد يذهب ببهاء مقدرات الأمة لا قدراته الشخصية فقط، ثم يبقى من بعدها نادبًا حظه لأن ما أراده لم يتحقق، والأصل في المخطئ الاعتذار والبحث عن خطو بديل لا أن يبقى أحد عشر عامًا معيدًا كلمات فقدت معناها وينقسم ويوغل في الاستهانة بموقفه ومذكره بسوئه.
انتصارات مزيفة
إن أجيالًا قضى الله أن تواجه موقفًا بالغ القسوة في مصر وغيرها إذ إن الطغاة الباطشين يعرفون طريقهم جيدًا، وإن المفترض أنهم أعداؤهم يتقوتون على المظلومية والقضية ورفع رايات وشعارات وهمية لانتصارات مزيفة مضت ومقبلة، وحتى يأذن الله بأمر ستظل هذه المعمعة منتشية، ولربما بعث لنا تعالى قريبًا رجالًا شداد العزيمة يزيلون الالتباس ويرفعون الغبن عن مناصري جميع الأطراف فقد تشابه البسطاء في تجرع المرارة من جميع الاتجاهات والأوان طيف السياسة رغم اختلافها، وعدا الذين في السجون والذين لقوا الله وقليل الثابتين يكاد علية القوم المدعين سواء من المقربين من السلطة أو الوطنيين الوهمين أو حتى رموز الإخوان الباهتة المطلقة السراح ـ النادر اليسير من الجميع ـ؛ يكادون يتشابهون في جنى المكاسب ونسيان أهمية الأمانات وأولها الأوطان والدين!
كاتب مصري