إلى الشيخ راشد الغنوشي

حجم الخط
69

سمعتها مرارا وقد يكون سمعها هو نفسه: ليت راشد الغنوشي وقد نجح في أن يبقى رئيسا لمجلس النواب في تونس، بشكل ديمقراطي اعتبره هو نفسه تجديدا للثقة في شخصه، أن يفكر جدّيا الآن في ترك هذا الموقع عساه يفتح بذلك أفقا جديدا أمام الحياة السياسية في بلاده فيسحب البساط من تحت أقدام من جعل من استهدافه وحزبه برنامج عمل لا يملك سواه.
سيرد بعضهم: ولماذا يفعلها طالما أنه جاء إلى هذا المجلس بإرادة الشعب وبقي رئيسا له بإرادة النواب فهو لم يأته على ظهر دبابة كما كررها بنفسه؟
طبعا بإمكانه أن يبقى حتى تنتهي مدته النيابية، أو يُحل البرلمان، أو يستمر معارضوه داخله في تنغيص مهمته حتى يترك منصبه… ولكن ماذا لو استبق الرجل الجميع وقرر أن يخرج طواعية، ومن الباب الكبير، لضرب أكثر من عصفور بحجر واحد؟
صحيح أن لائحة سحب الثقة من الغنوشي من رئاسة المجلس لم تنل العدد المطلوب لإزاحته (109 من بين 217) لكنها بيّنت، مع ذلك، أن أكثر من نصف نواب البرلمان لم يعودوا متحمسين، بدرجات مختلفة، لبقائه رئيسا. عندما نأخذ بالحسبان مجموع الــ 97 الذين صوتوا مباشرة ضده من بين الــ 133 الذين شاركوا في التصويت، زائد الأوراق الــ 20 التي أُعتبرت ملغاة لأن أغلب أصحابها صوتوا في نفس الورقة بـ (نعم) و(لا)، أو تركوها بيضاء… يمكن القول، بلغة الرياضة، أن الانتصار الذي حققه الغنوشي، هو رغم كل شيء، انتصار بطعم الهزيمة.
المعطى الأساسي الذي أتمنى على راشد الغنوشي أخذه بعين الاعتبار لجعل كل مناهضيه أمام تحدٍ حقيقي، إذا ما استقال من منصبه، هو أن رئاسته التي كانوا يتحججون بها لتبرير الاخفاق والعثرات لم تعد قائمة، وبالتالي عليهم أن يثبتوا من الآن فصاعدا كيف سيتألقون بدونها في جعل المجلس يعود بوجه آخر غير الذي ذاك الوجه البائس الذي تابعناه. هنا فليتنافس المتنافسون وقد سقطت أي تعلّة تحجج بها خصومه في الداخل، أو استأسد بها أعداؤه في الخارج من الذين لا يريدون للديمقراطية في تونس سوى الانكسار.
المعطى الثاني الذي يُفترض أن يحفّز الغنوشي على ترك «وجع الرأس» الذي تورّط فيه، هو أنه بمغادرته المنصب سيزيح عبئا ثقيلا من على أكتاف نواب كتلة حزبه في البرلمان، بحيث يصبح بالإمكان محاسبة نواب حركة «النهضة» على أدائهم، وليس على ما فعله أو قد يفعله رئيسهم من على منصة المجلس، أو حتى ما يفعله مدير مكتبه ومساعدوه.

بعض النواب الذين جعلوا من الغنوشي همَّهم الأول والأخير هم في سن أبنائه أو أحفاده، ومنهم من لم يستسغ عقله الإقصائي أبدا أن يرى يوما «إخوانجيا» يعتلي منصة البرلمان في تونس

المعطى الثالث، والأهم بلا جدال، هو أن الإقدام الطوعي للغنوشي على مغادرة رئاسة البرلمان سيعطي انفراجة حقيقية لمشهد التوتر السياسي الحالي ويجعل الجميع أمام مسؤولياتهم الحقيقية دون البحث عن أعذار. أول هؤلاء رئيس الدولة قيس سعيد الذي بات يكرر بمناسبة وبدونها أن لتونس رئيسا واحدا، وكذلك بقية الأحزاب التي ستجد نفسها مدعوة لتقديم المقترحات والحلول لمشاكل البلاد بعيدا عن «علكة» الغنوشي.
ليس سرا القول اليوم إن الغنوشي اليوم إنما يحصد تبعات قراره الخاطئ بالترشح لمنصب رئيس البرلمان، فالرجل لم يتعسّف فقط على نفسه، وهو يقترب من الثمانين، لتحمل أعباء موقع يتطلب جهدا خاصا وإنما وضع نفسه، وهو المفكر المبجل بين جماعته الذي يفاخر بأنه لم يتأخر قط في التضحية بأي مصلحة حزبية كلما تعلق الأمر بتونس واستقرارها، في موقع يتعرض فيه إلى التنمّر من قِبل من كانت تلك مهمته في عهد الراحل بن علي أو»التشبيح» من قِبل من يعرف من دمشق معناه بالضبط. بعض النواب الذين جعلوا من الغنوشي همَّهم الأول والأخير هم في سن أبنائه أو أحفاده، ومنهم من لم يستسغ عقله الإقصائي أبدا أن يرى يوما «إخوانجيا» يعتلي منصة البرلمان في تونس حتى ولو وصل إلى البرلمان بأضعاف مضاعفة من الأصوات التي أوصلته هو بالصدفة.
ليس هنا مجال بحث أسباب وخلفيات التصوّر الغالب داخل المجتمع التونسي في النظرة إلى راشد الغنوشي، وإلى أي درجة كان منصفا أو ظالما، ولكن ما لا يمكن نكرانه باختصار شديد هو أن قطاعات لا بأس بها من التونسيين لم تتقبل الرجل، قبل أن نتحدث عن تقبل أفكاره. دليل ذلك أن وجوها أخرى من حركة «النهضة» من أجيال مختلفة لم تكن النظرة إليها بتلك السلبية، مع أن التيار السياسي واحد.
كتبت من قبل طالبا من الرئيس منصف المرزوقي ألا يرشح نفسه ثانية وأن يكتفي بأن يُذكر كأول رئيس بعد الثورة ولكنه لم يفعل، وكتبت راجيا ألا يترشح المرحوم الباجي قايد السبسي لفترة رئاسية ثانية حتى لا يعرف مصير بورقيبة لكن القدر كان أسرع.
كلاهما لم يأخذا الأمر بحساسية شخصية راجيا أن يكون الأمر كذلك مع راشد الغنوشي، خاصة لما لمستُه فيه مباشرة من رحابة صدر وقدرة على تحمل النقد القاسي. لقد سبق للرجل أن رضي قبل سنوات بانسحاب حزبه كله من الحكم والتخلي عن رئاسة الحكومة، بل إنه زار القاهرة أيام الأزمة مع الرئيس الراحل محمد مرسي في محاولة لم تثمر لإقناعه بالتنازل لمصلحة مصر.
من يفعل ذلك مع مصر لا يستكثرها طبعا على بلاده، لعله بذلك يقيم الحجة على الجميع ونرى…

كاتب وإعلامي تونسي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول الكروي داود النرويج:

    إنسحاب الشيخ الغنوشي الآن ليس في صالح العملية السياسية!
    ولكن من يمنع من محاسبة الجميع بما فيهم الغنوشي؟ ولا حول ولا قوة الا بالله

  2. يقول علي:

    السؤال: هل سيكف حزب فرنسا عن التحرش بالإسلام إذا استقال الغنوشي؟ وهل سيتوقف الأعرابي الجلف عن شراء الأصوات والذمم وأتباع العهد الإرهابي الذي كان بن على رمزا له؟ وهل ستزدهر الديمقراطية من خلال الرئيس الواحد الذي جعل احتلال فرنسا لتونس وإذلال شعبها مجرد حماية فرنسية لبلد أبي القاسم الشابي؟ وهل كان الحبيب بورقيبة يناضل من أجل رفع الحماية وليس الاستعمار؟
    لينسحب لغنوشي، ولينسحب حزب النهضة من الحياة السياسية تماما، فهل ستتوقف محاولات السيدة الطروب ونوابها الأحد عشر؟ متى نقول إن هناك جريمة يرتكبها حزب فرنسا المدعوم من الأعراب والأغراب؟ وهذه الجريمة اسمها فوبيا الإسلام؟

  3. يقول Aly Ayad:

    صح لسانك !

  4. يقول خالد الكردي:

    القصيه في تونس هي ليست راشد الغنوشي لرءاسة البرلمان بقدر ما هي حقد وكراهية اي اسلامي ويتهم بانه اخواني …هم بصراحة يسبون ويخونون واستعمال الالفاظ البذيئة ضد التيار الاسلامي .الذي اتى بانتخابات حرة ونزيهه…
    لكن ماذا لو حزب النهضه والاحزاب الاخرى تبدا حمله لاقتلاع البورقيبيين العلمانيين من الحكم بحجه انهم اتباع نظام بن علي الاستبدادي والذي قتل وعذب الالاف ودمر الإقتصاد ودعم الديكتاتوريه

  5. يقول د. اثير الشيخلي - العراق:

    اتفق تماماً مع رأي الاستاذ كريشان…
    .
    خاصة بعد أن سقطت ورقة الإسقاط، و لُطمت صاحبة الأجندة الخارجية، و ممثلة الدولة العميقة على وجهها، و التي لم ترقب في من مثل عمر ابيها إلاً و لا ذمة.
    .
    ستحسب بشكل كبير للرجل و خاصة وهو في هذا العمر و بعد سنوات طويلة من النضال و الجهاد ضد الطغيان.
    .
    مصلحة تونس اليوم ان يتعالى الجميع على المصالح و الامجاد الشخصية.
    .
    مبدأ ، أنني لا اخلع قميصاً قمصني اياه الشعب.. حين يتطلب الظرف و الموقف التنحي، رأينا كيف أن الاصرار على هذا مبدأ قد يقود إلى نتائج كارثية، و الأمثلة عديدة عبر التأريخ!
    .
    احب الشيخ الغنوشي في الله
    و معجب بطروحاته و نضاله عبر تأريخه
    و لكنني احب تونس و مصلحتها اكثر
    .
    قد يقول قائل ان هذا ما كانت تريده عبير و من خلفها، فكأنكم تقدمون لهم ما يسعون اليه بالضبط
    اقول، العكس تماماً، هذا هو ما سيلقمهم حجراً
    لأنهم فشلوا في مسعاهم أصلاً
    الخروج الان سيكون بالرغبة و التخطيط بهدوء و بذكاء لما هو قادم من خلال اختيار البدائل الصح
    .
    لهذا بالذات انا متفق مع الاستاذ كريشان.

  6. يقول خالد مصطفى علي:

    مقترحك في نكانه
    قد اصبت كبد الحقيقة اتمنى ان ينظر الغنوشي الى اقتراحك بجدية ونراه واقعا ملموسا

  7. يقول تيسير خرما:

    حل معضلة “الإخوان المسلمين” عربياً يتطلب منهم تغيير التسمية الإقصائية المستفزة لتسمية شرعية “المسلمون إخوة” وصولاً لتجنب السياسة والحكم وسرقة أصوات الناخبين المسلمين، وإلتزام روح الإسلام المكتمل غير المجزأ قبل وفاة محمد (ص) وعدم تضييق واسع وعدم تحريف الدين بمبدأ الغاية تبرر الوسيلة بل يجب أن تكون الوسيلة صحيحة والغاية صحيحة، ويجب إلغاء إتحاد عالمي علماء المسلمين فهو مجرد جمعية لمعارضي أنظمة الحكم العربية ويتموضع بدول أعداء العرب ويجب إلغاء التنظيم الدولي فهو يستهدف مصالح العرب لصالح أعداء العرب

    1. يقول أحمد:

      ودع فيفي عبده وأمثالها يحكمونك

  8. يقول عبدالبديع:

    أتمنى بقاء السيد الغنوشي حتى تأخد العدالة مجراها واجب علينا التحقيق في الرشاوي و معاقبة المرتشين طريق الديمقراطية مفتاحه العدالة التامة بدون رحمة

  9. يقول أحمد حمدي:

    شكرا لك يا أستاذي محمد كريشان على ما ذكرته في هذا المقال الرائع.
    كان لنا في مصر وضعا مشابها، ونهايته معروفة للجميع.
    ليكن في علم القراء الأعزاء أن للديمقراطية في تونس أعداءا كثيرين، منهم الظاهر (أبو ظبي / القاهرة / الرياض) ومنهم الباطن (سأسميهم مجازا “أشباح”) وسأترك التعرف عليهم لتقدير القارئ، وهم ممن لا يشك فيهم كثيرون، وهذه بلوة!
    الغنوشي لن ترضى عنه هذه الجهات حتى لو أشعل أصابعه كشموع يهتدي بها من لا يدرك أن تونس في خطر.
    ولكن في المقابل أليس من الحكمة أن يعتزل رجل قرابة الثمانين من عمره العمل العام المباشر، إلى عمل هادئ (كمستشار مثلا لمريدين المناصب الكبرى من تياره من ذوي الأعمار الأقل)؟

    كان لنا في القاهرة شجون! انتخب الدكتور مرسي رئيسا فجاء “الأشباح” بأشياء مثل:
    أخونة الدولة، سرقة الثورة، القفذ على مكتسبات الثورة، إفلاس مصر، سد النهضة، ثم السب المتواصل للرئيس المنتخب: لا يستطيع أن يتحدث باللغة الانجليزية، شكله ليس شكل رئيس، حينما يتحدث أنت لا تشعرأن رئيسا يتحدث، نحن نريد رئيسا لا خطيبا … الخ.
    يتبعأحمد حمدي / ألمانيا

  10. يقول أحمد حمدي:

    إن بقي في البلد يقال: لماذا يجلس في القصر؟ لماذا لا يذهب إلى بلاد الدنيا يدعوهم للاستثمار في مصر؟ الرئيس يسافر في خدمة البلد. وإذا سافر يقال: هو يتفسح في بلاد الدنيا و تارك مصر تغرق في الوحل، الرئيس لابد أن يكون متواجدا في كل مكان يحدث به مشاكل، الدولة بدون كهرباء وهو يدور في بلاد الدنيا، و و و .

    العجيب أن المشاكل التي تحدث عنها هؤلاء ما زالت موجودة حتى الآن، فمصر غارقة في الوحل بدون كهرباء ورئيسها لا يستطيع أن يتحدث لا إنجليزي ولا حتى عربي، وسد النهضة أصبح مشكلة حقيقية ولا حياة للأشباح!

    أدعو الله أن ينقذ تونس وأن يُبقي لها ديمقراطيتها الوليدة التي أراها حقا في خطر!

    أحمد حمدي / ألماني

1 2 3 6

إشترك في قائمتنا البريدية