رئيس حكومة العراق الجديد مصطفى الكاظمي، دشّن ولايته بسلسلة خطوات بانية للثقة. لقد أمر المحاكم بإطلاق سراح المعتقلين الذين يمثلون أمامها بتهمة المشاركة في المظاهرات، وطلب من سلطات السجون إطلاق سراح السجناء الذين حكموا لمخالفات كهذه، والمتحدث باسم وزارة العدل أوضح بأن هذه الخطوة جاءت بسبب “أن التظاهر حق مكفول في الدستور العراقي، بشرط ألا يمس المتظاهرون بمؤسسات الدولة”. وأمر الكاظمي أيضاً بتعويض عائلات حوالي 550 مدنياً قتلوا في المظاهرات التي بدأت في 1 تشرين الأول، وتعهد بأن يتم التحقيق مع كل من تورط في قتل المتظاهرين.
بموازاة ذلك، عين رئيس الحكومة الجنرال عبد الوهاب الساعدي رئيساً لجهاز مكافحة الإرهاب، بعد أن عزل على يد رئيس الحكومة السابق عادل عبد المهدي، وقد اعتبر الساعدي “بطل الموصل” بعد أن وقف على رأس القوات التي حررت المدينة من سيطرة داعش، وردد اسمه المتظاهرون الذين طالبوا بإعادته إلى وظيفته بعد عزله.
الكاظمي، وهو صحافي سابق ورئيس لجهاز المخابرات أثناء اندلاع المظاهرات، وقف إلى جانب المتظاهرين وعارض أعمال القمع التي نفذها رجال المليشيات الشيعية بتوجيه من إيران. وهو الآن، كرئيس للحكومة، يعدهم بعراق ديموقراطي يمنحهم مكانهم المناسب في السلطة. الروح الجديدة التي تهب من مكتب رئيس الحكومة تعدّ بداية متفائلة، وتدل على احتمالات نجاحه في إدارة الدولة التي جربت طوال خمسة أشهر أن تجد لنفسها رئيس حكومة بعد ثلاثة فشلوا.
دعم استثنائي
بصورة استثنائية، تعيين الكاظمي يحظى بتأييد إيران والولايات المتحدة. وقد سبق أن انتشرت تقديرات في هذا الاتفاق، من بينها التقدير القائل بأن كلتا الدولتين الغارقتين في أزمة كورونا وتداعياتها الاقتصادية الضخمة، انهكت من الانشغال بالسياسة. خلال فترة زمنية قصيرة نسبياً نجح الكاظمي في الحصول على مصادقة البرلمان العراقي على 15 من بين الـ 22 وزيراً الذين اقترحهم. 5 آخرون ما زالوا ينتظرون المصادقة، في حين أنه لم يعرضحتى الآن مرشحين لمنصب وزراء النفط والخارجية – وهما حقيبتان مهمتان .
التجديد هو أن كبار شخصيات المليشيات الشيعية انضموا إلى الدعم، وخلافاً للنداءات السابقة التي طالبت بإخراج القوات الأمريكية من العراق، صرّح محمد الربان، رئيس تحالف “الفتح” وهو الجسم السياسي الذي يمثل المليشيات الشيعية، بأنه يتطلع إلى أن تساعد الولايات المتحدة العراق ولا تنحاز إلى أي طرف.
ولكن الدعم الكاسح الذي يحظى به الكاظمي، مثلما خطواته الأولى المشجعة التي اتخذها، ستكون على المحك قريباً عندما سيطلب منه إثبات قدرته القيادية. في بداية حزيران من المتوقع أن يكون له جولة محادثات مع ممثلي الإدارة الأمريكية، والتي ستتركز على مسألة استمرار وجود القوات الأمريكية في العراق بعد أن صادق البرلمان على المطالبة بانسحابها. سيبحث الطرفان أيضاً في طريقة عمل القوات العراقية ضد مهاجمة أهداف أمريكية، وتجديد التدريب السياسي للجيش العراقي بعد أن جمد في أعقاب وباء كورونا، والمساعدة المدنية التي يطلبها العراق من مؤسسات تمويل دولية. تنوي واشنطن عرض مطالب عملية ولن تكتفي بإعلانات إدانة، كما أوضحت شخصيات رفيعة في الإدارة الأمريكية لرئيس الحكومة. وأعلن مساعد وزير الخارجية لشؤون الشرق الأوسط، ديفد شنكار، بأن “الولايات المتحدة خاب أملها جداً من أداء حكومة العراق في كل مما يتعلق بالدفاع عن قوات التحالف”.
إن القيام بخطوات عسكرية ضد المليشيات الشيعية قد يضع الكاظمي على مسار التصادم مع أحزاب شيعية تؤيدها، وأمام إيران التي ترى فيها ذراعاً تنفيذياً لتطبيق سياستها في العراق. الكاظمي مثل سابقيه، سيضطر لمواجهة معضلة مركبة. هل عليه أن يتبنى المطالب الأمريكية وبهذا يضمن المساعدة المالية الدولية التي يحتاجها لغايات التمويل الجاري ولدفع رواتب تأجل دفعها لعدة شهور ومكافحة كورونا، أم أنه سيسمح لإيران بمواصلة إملاء سياستها وبهذا يضمن التجارة الثنائية الحيوية مع إيران، والتي قدرت قبل الوباء بأكثر من 12 مليار دولار، ويضمن استمرار تزويد الكهرباء والماء من إيران وكذلك الهدوء السياسي الذي يحتاج له من جانب الأحزاب المؤيدة لإيران.
لغز متفجر
أعلن الكاظمي بأنه يتطلع لتوسيع التعاون الاقتصادي مع إيران ولن يسمح بتحويل العراق إلى منصة إطلاق هجمات ضدها، ولكنه أيضاً لا يتطلع إلى تحويل العراق إلى ساحة تحسس بين إيران والولايات المتحدة، فيفقد القناة الوحيدة التي يمكنها مساعدته في التغلب على الأزمة الاقتصادية. حسب تقديرات اقتصاديين عراقيين، يحتاج العراق إلى حقنة تمويل بحجم حوالي 50 مليار دولار، في حين أن شركة تدريج الاعتماد “بيتش” قدرت في نيسان بأن عجز الموازنة في 2020 قد يصل إلى 30% من الناتج المحلي الخام، وسيصل الدين الوطني لأكثر من 80% منهم. لا تستطيع إيران أن تضع تحت تصرف العراق مساعدة بالحجم المطلوب، وبدون تمويل دولي بضوء أخضر أمريكي سيجد الكاظمي نفسه أمام احتجاج جماهيري جديد كما الاحتجاج السابق، وقد يؤدي إلى إسقاط الحكومة.
ليست هذه فقط هي معضلة رئيس الحكومة العراقي. فرغم الخطاب الهجومي؛ فالولايات المتحدة مثل إيران، تفضل الاستقرار في العراق وحكومة تقوم بعملها على فوضى ربما تجرهما إلى مواجهة وإنبات ميليشيات مسلحة جديدة، بل وربما تقدم فرصة لبقايا داعش أن تجدد نشاطها. إيران التي بدأت بسحب جزء من قواتها من سوريا، والولايات المتحدة التي تسعى لتقليص وجودها في الشرق الأوسط ستضطران للتعايش في العراق من أجل الحفاظ ولو على جزء من نفوذهما هناك.
اللغز المتفجر الذي تضعانه إيران والعراق غير منفصل عن حقل الألغام السياسي الذي يسعى الكاظمي لتفكيكه بواسطة قانون انتخابات جديد وإجراء انتخابات مبكرة. وسيكون هدفه منح تمثيل مناسب للنساء والشباب الذين أظهروا قوتهم في المظاهرات، وتفكيك الاحتكارات السياسية التي تمسك بخناق خزينة الدولة والتي لجزء منها ميليشيات خاصة. إن صياغة دستور جديد من شأنه أن يوقف كل ذوي المصالح الطائفية والسياسية على أرجلهم الخلفية في حين أن التراجع عن المبادرة قد يخرج مئات الآلاف إلى الشوارع. وإذا كانت هذه لا تكفي لملء أجندة الكاظمي فهناك ما ينتظره خلف الزاوية.. مواجهته مع الإقليم الكردي الذي يطالب بتطبيق اتفاق النفط مقابل موازنة تم التوقيع عليها مع رئيس الحكومة، والتي بموجبها على حكومة العراق أن تحول للإقليم الكردي حوالي 14% من مجمل مدخولات الدولة مقابل جزء من النفط المستخرج من الإقليم الكردي. لن يكون الوضع مملاً في بغداد في الشهور القريبة المقبلة.
بقلم: تسفي برئيل
هآرتس 12/5/2020