كيف يمكن لمواطن سوري أن يشتري لنفسه سيارة مستعملة؟ الجواب: لا يستطيع. حتى لو كان له مكان عمل معقول يكسب فيه 65 – 70 دولاراً في الشهر، فسيحتاج على الأقل إلى 500 راتب شهري كي يضع يده على سيارة “كايا” موديل 2009 التي ستكلفه 16 ألف دولار. وإذا رغب بسيارة جديدة سيضطر إلى توفير ثمنها الذي سيكون ما يعادل ألف راتب شهري.
تجار السيارات في دمشق يقولون إن سوق السيارات ميتة تقريباً. قبل الحرب، بلغ بيع السيارات المستعملة نحو ألف سيارة في اليوم. الآن يتم بيع 200 سيارة في اليوم بصعوبة. في ساحات السيارات التي اكتظت بها ذات يوم، يقف الآن عدد قليل، ويرتفع سعرها ليصل إلى عنان السماء. آلاف السيارات التي دمرت في سنوات الحرب الثماني خلقت طلباً كبيراً، لكن الحكومة قيدت استيراد السيارات الجديدة ومنعت تماماً دخول سيارات مستعملة كجزء من سياسة التوفير في العملة الأجنبية، وقررت عدم استيراد منتجات يمكن إنتاجها في الدولة.
منحت سوريا ترخيصاً لثماني شركات لتجميع السيارات في سوريا، وقررت أنها هي التي يحق لها تسهيلات في مخصصات الدولارات لشراء قطع غيارها. ولكن لا ينشط سوى ثلاث شركات فقط. وحتى هذه وجدت لنفسها مساراً التفافياً سهلاً، فهي تستورد سيارات مستعملة تنقصها الإطارات أو أجزاء بسيطة تقوم بتركيبها في مشاغل صغيرة، وبفضلها يمكنهم الحصول على المخصصات الحكومية. تجار السيارات يعتمدون الآن بالأساس على تهريب السيارات من لبنان أو من المناطق “المحررة” مثل الأقاليم الكردية في شمال الدولة التي تنخفض فيها أسعار السيارات إلى النصف عن سعرها في المناطق التي يسيطر عليها النظام. لوحات السيارات يتم تبديلها، وأرقام المحركات والهيكل الأساسي يجري محوها، وتحفر بدلاً منها أرقام جديدة. ويوضع النايلون والقليل من الدهان على المقاعد، وهكذا يمكن بيع هذه السيارات مرة أخرى وكأنها جديدة تقريباً شريطة وجود زبائن.
ليست السيارات هي التي توفرها الأقاليم الكردية للمواطنين السوريين. حسب تقرير نشره المركز السوري لحقوق الإنسان مؤخراً، فإن سوريا تشتري النفط والغاز من الحقول التي هي تحت سيطرة الأكراد. الأكراد الذين يسيطرون على 11 حقلاً نفطياً من بين 20، ينتجون نحو 14 ألف برميل يومياً، ثم يبيعونها للنظام بـ 30 دولاراً للبرميل، نصف السعر في السوق الحرة. عملياً، هم يبيعون لسوريا نفطها، بالضبط مثلما اعتاد داعش على بيع النفط للحكومة نفسه عندما سيطر على هذه المحافظات. الدخل المقدر للمحافظات الكردية من النفط هو نحو 12 مليون دولار في الشهر، حيث تتجاهل الإدارة الأمريكية في هذه الأثناء هذا البيع الذي يخالف العقوبات التي فرضتها الولايات المتحدة على سوريا. هذه المحافظات هي أيضاً مسار تهريب عشرات المنتوجات التي يمنع استيرادها للدولة. في الشهر الماضي، قلصت الحكومة ربع قائمة المنتجات المسموح استيرادها التي شملت 41 منتجاً أساسياً، ويبدو أنها تنوي قريباً توسيع قائمة الحظر، حيث -حسب تقارير البنك المركزي- ليس لدى الدولة ما يكفي من الدولارات لدفعها مقابل الاستيراد الضروري.
نقص المواد الأساسية يخلق بشكل طبيعي سوقاً سوداء نشطة تعتمد على التهريب، ومنها تخسر الدولة عشرات ملايين الدولارات من ضرائب الجمارك وضريبة الدخل. بسبب الإشراف الشديد الذي تستخدمه الحكومة على تجار المواد الغذائية وجهودها لمراقبة الأسعار الثابتة والمنخفضة، بحيث تحد من ارتفاع الأسعار، ويفضل المزارعون بيع منتوجاتهم للدول المجاورة مثل العراق والأردن للحصول على عائد أعلى بكثير من السوق المحلية. سلطات الرقابة تعمل على الأقل حسب تقارير الحكومة، ضد من يرفعون الأسعار، وهم يقتحمون المخازن ويدخلون إلى المحلات التجارية لفحص الأسعار والمخزون، ويقدمون دعاوى قانونية كثيرة ضد من يخرقون الأنظمة. ولكن هذا جهد سيزيفي لا يستطيع اجتثاث التهريب والتلاعب بالأسعار الذي يقوم به التجار.
النتيجة هي أن المواطنين يدفعون مقابل استهلاكهم أعلى بكثير مما كانوا يدفعونه مقابل البضائع نفسها في الأردن أو لبنان. وفي هذا المجال، مثلما في تجارة السيارات، الذي يعيش في مناطق لا تخضع مباشرة للنظام، سيحظى بمستوى معيشة أعلى بسبب القوة الشرائية لليرة السورية في هذه المحافظات. هذا التطور يؤدي إلى هجرة داخلية اقتصادية إلى المحافظات المحررة التي تطورت معاً مع هجرة جماهيرية أحدثتها المعارك والوضع الأمني.
يدور الحديث كما يبدو عن وضع مؤقت يمكن أن يتغير إلى الأفضل عند انتهاء الحرب وعودة النظام للسيطرة على جميع محافظات الدولة. ولكن لا يوجد لهذا الوضع المؤقت الذي استمر لسنوات أفق للانتهاءحتى الآن. ليس لاستمرار المعارك فحسب، بل لأن الجهود السياسية التي تقودها روسيا من أجل التوصل إلى حل سياسي متفق عليه تجد صعوبة في بلورة خطة عمل متفق عليها.
العملية الأولى التي تسعى لها روسيا هي الاتفاق على تشكيل لجنة إعادة صياغة الدستور الذي سيشكل قاعدة لإجراء انتخابات وتشكيل نظام ثابت ومتفق عليه. حتى الآن تم التوصل إلى اتفاق على أسماء الـ 150 عضواً في لجنة صياغة الدستور. ولكن الطريق لتغيير الدستور وتشكيل نظام متفق عليه ما زالت طويلة جداً. التقدير المتفائل يتحدث عن أشهر قبل أن تستطيع سوريا العودة إلى أداء إداري وسياسي، والتقدير الحقيقي يقول إنه ستمر على الأقل سنتان قبل أن يكون بالإمكان البدء في الحديث عن إعادة تأهيل الدولة. حتى ذلك الوقت يبدو أن التهريب سيستمر ليكون هو القاعدة الاقتصادية الثابتة الوحيدة التي ستستند إليها السوق.
بقلم: تسفي برئيل
هآرتس/ ذي ماركر 26/9/2019