مهما طالت سنين الغربة بالمغتربين، فإنهم يظلون يعتقدون أن غربتهم عن أوطانهم مؤقتة، ولا بد من العودة إلى مرابع الصبا والشباب يوماً ما للاستمتاع بالحياة، وكأنما أعوام الغربة جملة اعتراضية لا محل لها من الإعراب.
لاشك أنه شعور وطني جميل، لكنه أقرب إلى الكذب على النفس وتعليلها بالآمال الزائفة منه إلى الحقيقة. فكم من المغتربين قضوا نحبهم في بلاد الغربة وهم يرنون للعودة إلى قراهم وبلداتهم القديمة! وكم منهم ظل يؤجل العودة إلى مسقط الرأس حتى غزا الشيب رأسه دون أن يعود في النهاية، ودون أن يستمتع بحياة الاغتراب! وكم منهم قاسى وعانى الأمرّين، وحرم نفسه من ملذات الحياة خارج الوطن كي يوفر الدريهمات التي جمعها كي يتمتع بها بعد العودة إلى دياره، ثم طالت به الغربة، وانقضت السنون، وهو مستمر في تقتيره ومعاناته وانتظاره، على أمل التمتع مستقبلاً في ربوع الوطن، كما لو أنه قادر على تعويض الزمان!
وكم من المغتربين عادوا فعلاً بعد طول غياب، لكن لا ليستمتعوا بما جنوه من أرزاق في ديار الغربة، بل لينتقلوا إلى رحمة ربهم بعد عودتهم إلى بلادهم بقليل، وكأن الموت كان ذلك المستقبل الذي كانوا يرنون إليه! لقد رهنوا القسم الأكبر من حياتهم لمستقبل ربما يأتي، وربما لا يأتي أبداً، وهو الاحتمال الأرجح!
لقد عرفت أناساً كثيرين تركوا بلدانهم، وشدوا الرحال إلى بلاد الغربة لتحسين أحوالهم المعيشية. وكم كنت أتعجب من أولئك الذين كانوا يعيشون عيشة البؤساء لسنوات وسنوات بعيداً عن أوطانهم، رغم يسر الحال نسبياً، وذلك بحجة أن الأموال التي جمعوها في بلدان الاغتراب يجب أن لا تمسها الأيدي لأنها مرصودة للعيش والاستمتاع في الوطن. لقد شاهدت أشخاصاً يعيشون في بيوت معدمة، ولو سألتهم لماذا لا يغيرون أثاث المنزل المهترئ، فأجابوك بأننا مغتربون، وهذا البلد ليس بلدنا، فلماذا نضيّع فيه فلوسنا، وكأنهم سيعيشون أكثر من عمر وأكثر من حياة!
ولا يقتصر الأمر على المغتربين البسطاء، بل يطال أيضاً الأغنياء منهم. فكم أضحكني أحد الأثرياء قبل فترة عندما قال إنه لا يستمتع كثيراً بفيلته الفخمة وحديقته الغنــّاء في بلاد الغربة، رغم أنها قطعة من الجنة، والسبب هو أنه يوفر بهجته واستمتاعه للفيلا والحديقة اللتين سيبنيهما في بلده بعد العودة، على مبدأ أن المــُلك الذي ليس في بلدك لا هو لك ولا لولدك!! وقد عرفت مغترباً أمضى زهرة شبابه في أمريكا اللاتينية، ولما عاد إلى الوطن بنا قصراً منيفاً، لكنه فارق الحياة قبل أن ينتهي تأثيث القصر بيوم!! كم يذكــّرني بعض المغتربين الذين يؤجلون سعادتهم إلى المستقبل، كم يذكــّرونني بسذاجتي أيام الصغر، فذات مرة كنت استمع إلى أغنية كنا نحبها كثيرا أنا وأخوتي في ذلك الوقت، فلما سمعتها في الراديو ذات يوم، قمت على الفور بإطفاء الراديو حتى يأتي أشقائي ويستمعوا معي إليها، ظناً مني أن الأغنية ستبقى تنتظرنا داخل الراديو حتى نفتحه ثانية. ولما عاد أخي أسرعت إلى المذياع كي نسمع الأغنية سوية، فإذا بنشرة أخبار.
إن حال الكثير من المغتربين أشبه بحال ذلك المخلوق الذي وضعوا له على عرنين أنفه شيئاً من دسم الزبدة، فتصور أن رائحة الزبدة تأتي إليه من بعيد أمامه، فأخذ يسعى إلى مصدرها، وهو غير مدرك أنها تفوح من رأس أنفه، فيتوه في تجواله وتفتيشه، لأنه يتقصى عن شيء لا وجود له في العالم الخارجي، بل هو قريب منه. وهكذا حال المغتربين الذين يهرولون باتجاه المستقبل الذي ينتظرهم في أرض الوطن، فيتصورون أن السعادة هي أمامهم وليس حولهم.
كم كان المفكر والمؤرخ البريطاني الشهير توماس كارلايل مصيباً عندما قال: « لا يصح أبداً أن ننشغل بما يقع بعيداً عن نظرنا وعن متناول أيدينا، بل يجب أن نهتم فقط بما هو موجود بين أيدينا بالفعل».
لقد كان السير ويليام أوسلير ينصح طلابه بأن يضغطوا في رؤوسهم على زر يقوم بإغلاق باب المستقبل بإحكام، على اعتبار أن الأيام الآتية لم تولد بعد، فلماذا تشغل نفسك بها وبهمومها. إن المستقبل، حسب رأيه، هو اليوم، فليس هناك غد، وخلاص الإنسان هو الآن، الحاضر، لهذا كان ينصح طلابه بأن يدعوا الله كي يرزقهم خبز يومهم هذا. فخبز اليوم هو الخبز الوحيد الذي بوسعك تناوله.
أما الشاعر الروماني هوراس فكان يقول قبل ثلاثين عاماً قبل الميلاد: «سعيد وحده ذلك الإنسان الذي يحيا يومه ويمكنه القول بثقة: أيها الغد فلتفعل ما يحلو لك، فقد عشت يومي».
إن من أكثر الأشياء مدعاة للرثاء في الطبيعة الإنسانية أننا جميعاً نميل أحياناً للتوقف عن الحياة، ونحلم بامتلاك حديقة ورود سحرية في المستقبل- بدلاً من الاستمتاع بالزهور المتفتحة وراء نوافذنا اليوم. لماذا نكون حمقى هكذا، يتساءل ديل كارنيغي؟ أوليس الحياة في نسيج كل يوم وكل ساعة؟ إن حال بعض المغتربين لأشبه بحال ذلك المتقاعد الذي كان يؤجل الكثير من مشاريعه حتى التقاعد. وعندما يحين التقاعد ينظر إلى حياته، فإذا بها وقد افتقدها تماماً وولت وانتهت.
إن معظم الناس يندمون على ما فاتهم ويقلقون على ما يخبئه لهم المستقبل، وذلك بدلاً من الاهتمام بالحاضر والعيش فيه. ويقول دانتي في هذا السياق:» فكــّر في أن هذا اليوم الذي تحياه لن يأتي مرة أخرى. إن الحياة تنقضي وتمر بسرعة مذهلة. إننا في سباق مع الزمن. إن اليوم ملكنا وهو ملكية غالية جداً. إنها الملكية الوحيدة الأكيدة بالنسبة لنا».
لقد نظم الأديب الهندي الشهير كاليداسا قصيدة يجب على كل المغتربين وضعها على حيطان منازلهم. تقول القصيدة: «تحية للفجر، انظر لهذا اليوم! إنه الحياة، إنه روح الحياة في زمنه القصير. كل الحقائق الخاصة بوجود الإنسان: سعادة التقدم في العمر، مجد الموقف، روعة الجمال. إن الأمس هو مجرد حلم انقضى، والغد هو مجرد رؤيا، لكن إذا عشنا يومنا بصورة جيدة، فسوف نجعل من الأمس رؤيا للسعادة، وكل غد رؤيا مليئة بالأمل. فلتول اليوم اهتمامك إذن، فهكذا تؤدي تحية الفجر».
لمَ لا يسأل المغتربون عن أوطانهم السؤال التالي ويجيبون عليه، لعلهم يغيرون نظرتهم إلى الحياة في الغربة: هل أقوم بتأجيل الحياة في بلاد الاغتراب من أجل الاستمتاع بمستقبل هـُلامي في بلادي، أو من أجل التشوق إلى حديقة زهور سحرية في الأفق البعيد؟
كم أجد نفسي مجبراً على أن أردد مع عمر الخيام في رائعته (رباعيات): لا تشغل البال بماضي الزمان ولا بآتي العيش قبل الأوان، واغنم من الحاضر لذاته فليس في طبع الليالي الأمان.
٭ كاتب واعلامي سوري
[email protected]
د. فيصل القاسم
كلام واقعي من احلى د.فيصل
كلامك هذا لا يفيد يا دكتور فيصل
يبقى الرجوع للوطن الأصلي الهدف الرئيسي لكل مغترب
لا تحلى الحياة بدون أمل الرجوع – ألم تسمع بالجذور
تمنيت منك أن تقرأ من قصائد تراثنا العربي عن الاشتياق للأطلال
ولا حول ولا قوة الا بالله
إلى غادة الشاويش.
للأسف جئت متأخرا للبيت ولم يكن في وسعي الرد على تعليقك الموجه إلي مباشرة فيما يخص مقال السيدة إبتهال الخطيب ” أنا أفعى”.
سوف لن أطيل, إستوقفني فقط كلامك كوني دافعت عن الكاتبة لمجرد أنها كاتبة وكتبت ماكتبت ولو أنه مطابق لأفكاري ولم أناقش في الموضوع وما إلى ذلك, صحيح دافعت عن الكاتبة شخصيا لأنني أرى وأشاهد كيف تحاولين إخراس صوتها وهذا لايجب أن يحدث, أنا وبعض الإخوة معي يروق لهم بل وينتظرون اليوم الذي تكتب فيه الأستاذة إبتهال, لماذا؟ لأنها ببساطة ليست كالآخرين, لاتحاول دغدغة مشاعر البعض, لاتحاول اللف والدوران , إنسانة تكتب ماتراه وماتلمسه في المجتمع العربي المتخلف للأسف هي حقيقة, وليس كما يريد لها الآخرون, أمثالها يمنعون من الكتابة في بعض الأوطان العربية, ذاك مانريد قراءته نحن , المختلف, الجديد وليس العويل والنباح على هذا وذاك.
شاهدت حوارا مطولا مع السيدة إبتهال على قناة البي بي سي عربية , أعجبت فأفكارها وفي كل الميادين , وليس في مجال واحد , الدنيا والآخرة .
لاأريد وإخوة آخرون معي بحسب تعليقاتهم, لانريد أن تفكر السيدة إبتهال في الإعتزال أو التخلي عن الكتابة هنا على الأقل على الصفحة الإلكترونية لأن غادة الشاويش لها رسالة سماوية في محاربة فكرها وأفكارها.
سؤال بسيط في الخاتمة, لماذا يصعب على بعض الإسلاميين تقبل الرأي المخالف؟ لماذا يضيق صدرهم ويحاولون إرهاب الآخر لبسط رأيهم الوحيد والأوحد , كيف سيصبح هذا الموقع إن إجتمع فيه فقط منهم على رأي وفكر واحد؟ التنوع غنى, لكن ليس في البلاد العربية , التنوع مشكل عويص لذلك يقتلون بعضهم البعض.
الغربة كما كتب الأخ فيصل القاسم تعلم أشياء كثيرة , الغربة تجعلك ترى الأشياء من خارج الزاوية الضيقة التي يعيش فيها العربان ظانين بأن ذاك هو كل مافي الكون والسيدة إبتهال مغتربة لذلك كلماتها غير معتادة تخلق بعض التشويش على أصحاب الفكر الأوحد.
جميل المقال لو اقراه لعشرات المرات كاني اقراه لاول مرة اللحظات الجميلة لا تفوت ولا تعني اين نكون صدقت علينا الاستمتاع في كل مكان السعادة لا تكون في الوطن فقط المقال يعطي دفعة الامام لناس التي تعيش في قوقعةالعودة وان لغربة فقط لجمع المال تحياتي دكتور
مقال جميل لو اقرأه لعشرات المرات كأني اقرأه لأول مرة صدقت دكتور السعادة لاتفوت وتعني اين نكون اللحظات الجميلة لا ترجع ولا تنتظر علينا الاستمتاع في حياتنا في كل مكان الله خلق الكرة الارضيّة للبشرية جميعا ا. المقال يعطي دفعة الامام لناس ما زالت تعيش في قوقعة العودة للوطن وتحرم نفسها من لذة العيش وجمال الدنيا الوطن جميل والاجمل ان نعيش الحظة في اي مكان . تحياتي دكتور فيصل
مقال يحمل روح الحديث النبوي الشريف:
اغتنم خمساً قبل خمس
شبابك قبل هرمك
صحتك قبل سقمك
غناك قبل فقرك
فراغك قبل شغلك
وحياتك قبل موتك
(أصبت في مقتل أيها (الفيصل
لان الغربة في القرب هي امر وأدهى من غربة البعد
لا فض فوك يا فيصل…
مقال اجا على جرح يا استاذ فيصل نؤجل الاستمتاع بالحياة على امل العودة ويطول الامل ويقصر العمر لكن عزائي اني فلسطيني ولا وطن اعود له .
شكرا لك .. فقد عبرت عن شيء كان يجول دوما في خاطري وودت لو هتفت في اذن كل مغترب “عش حياة كريمة في بلاد الغربة .. من دون امساك وكذلك من دون اسراف او تبذير ، فانك لاتدري اتعود لبلدك على متن طائرة ضمن المسافرين او ضمن البضائع” ..
مقالة لاتحتاج الى وصف سلمت يداك دكتور فيصل
هذه هي الحقيقة يا أستاذ فيصل