إلى ملايين المغتربين: لا تؤجلوا سعادة الغـُربة إلى الوطن!

مهما طالت سنين الغربة بالمغتربين، فإنهم يظلون يعتقدون أن غربتهم عن أوطانهم مؤقتة، ولا بد من العودة إلى مرابع الصبا والشباب يوماً ما للاستمتاع بالحياة، وكأنما أعوام الغربة جملة اعتراضية لا محل لها من الإعراب.
لاشك أنه شعور وطني جميل، لكنه أقرب إلى الكذب على النفس وتعليلها بالآمال الزائفة منه إلى الحقيقة. فكم من المغتربين قضوا نحبهم في بلاد الغربة وهم يرنون للعودة إلى قراهم وبلداتهم القديمة! وكم منهم ظل يؤجل العودة إلى مسقط الرأس حتى غزا الشيب رأسه دون أن يعود في النهاية، ودون أن يستمتع بحياة الاغتراب! وكم منهم قاسى وعانى الأمرّين، وحرم نفسه من ملذات الحياة خارج الوطن كي يوفر الدريهمات التي جمعها كي يتمتع بها بعد العودة إلى دياره، ثم طالت به الغربة، وانقضت السنون، وهو مستمر في تقتيره ومعاناته وانتظاره، على أمل التمتع مستقبلاً في ربوع الوطن، كما لو أنه قادر على تعويض الزمان!
وكم من المغتربين عادوا فعلاً بعد طول غياب، لكن لا ليستمتعوا بما جنوه من أرزاق في ديار الغربة، بل لينتقلوا إلى رحمة ربهم بعد عودتهم إلى بلادهم بقليل، وكأن الموت كان ذلك المستقبل الذي كانوا يرنون إليه! لقد رهنوا القسم الأكبر من حياتهم لمستقبل ربما يأتي، وربما لا يأتي أبداً، وهو الاحتمال الأرجح!
لقد عرفت أناساً كثيرين تركوا بلدانهم، وشدوا الرحال إلى بلاد الغربة لتحسين أحوالهم المعيشية. وكم كنت أتعجب من أولئك الذين كانوا يعيشون عيشة البؤساء لسنوات وسنوات بعيداً عن أوطانهم، رغم يسر الحال نسبياً، وذلك بحجة أن الأموال التي جمعوها في بلدان الاغتراب يجب أن لا تمسها الأيدي لأنها مرصودة للعيش والاستمتاع في الوطن. لقد شاهدت أشخاصاً يعيشون في بيوت معدمة، ولو سألتهم لماذا لا يغيرون أثاث المنزل المهترئ، فأجابوك بأننا مغتربون، وهذا البلد ليس بلدنا، فلماذا نضيّع فيه فلوسنا، وكأنهم سيعيشون أكثر من عمر وأكثر من حياة!
ولا يقتصر الأمر على المغتربين البسطاء، بل يطال أيضاً الأغنياء منهم. فكم أضحكني أحد الأثرياء قبل فترة عندما قال إنه لا يستمتع كثيراً بفيلته الفخمة وحديقته الغنــّاء في بلاد الغربة، رغم أنها قطعة من الجنة، والسبب هو أنه يوفر بهجته واستمتاعه للفيلا والحديقة اللتين سيبنيهما في بلده بعد العودة، على مبدأ أن المــُلك الذي ليس في بلدك لا هو لك ولا لولدك!! وقد عرفت مغترباً أمضى زهرة شبابه في أمريكا اللاتينية، ولما عاد إلى الوطن بنا قصراً منيفاً، لكنه فارق الحياة قبل أن ينتهي تأثيث القصر بيوم!! كم يذكــّرني بعض المغتربين الذين يؤجلون سعادتهم إلى المستقبل، كم يذكــّرونني بسذاجتي أيام الصغر، فذات مرة كنت استمع إلى أغنية كنا نحبها كثيرا أنا وأخوتي في ذلك الوقت، فلما سمعتها في الراديو ذات يوم، قمت على الفور بإطفاء الراديو حتى يأتي أشقائي ويستمعوا معي إليها، ظناً مني أن الأغنية ستبقى تنتظرنا داخل الراديو حتى نفتحه ثانية. ولما عاد أخي أسرعت إلى المذياع كي نسمع الأغنية سوية، فإذا بنشرة أخبار.
إن حال الكثير من المغتربين أشبه بحال ذلك المخلوق الذي وضعوا له على عرنين أنفه شيئاً من دسم الزبدة، فتصور أن رائحة الزبدة تأتي إليه من بعيد أمامه، فأخذ يسعى إلى مصدرها، وهو غير مدرك أنها تفوح من رأس أنفه، فيتوه في تجواله وتفتيشه، لأنه يتقصى عن شيء لا وجود له في العالم الخارجي، بل هو قريب منه. وهكذا حال المغتربين الذين يهرولون باتجاه المستقبل الذي ينتظرهم في أرض الوطن، فيتصورون أن السعادة هي أمامهم وليس حولهم.
كم كان المفكر والمؤرخ البريطاني الشهير توماس كارلايل مصيباً عندما قال: « لا يصح أبداً أن ننشغل بما يقع بعيداً عن نظرنا وعن متناول أيدينا، بل يجب أن نهتم فقط بما هو موجود بين أيدينا بالفعل».
لقد كان السير ويليام أوسلير ينصح طلابه بأن يضغطوا في رؤوسهم على زر يقوم بإغلاق باب المستقبل بإحكام، على اعتبار أن الأيام الآتية لم تولد بعد، فلماذا تشغل نفسك بها وبهمومها. إن المستقبل، حسب رأيه، هو اليوم، فليس هناك غد، وخلاص الإنسان هو الآن، الحاضر، لهذا كان ينصح طلابه بأن يدعوا الله كي يرزقهم خبز يومهم هذا. فخبز اليوم هو الخبز الوحيد الذي بوسعك تناوله.
أما الشاعر الروماني هوراس فكان يقول قبل ثلاثين عاماً قبل الميلاد: «سعيد وحده ذلك الإنسان الذي يحيا يومه ويمكنه القول بثقة: أيها الغد فلتفعل ما يحلو لك، فقد عشت يومي».
إن من أكثر الأشياء مدعاة للرثاء في الطبيعة الإنسانية أننا جميعاً نميل أحياناً للتوقف عن الحياة، ونحلم بامتلاك حديقة ورود سحرية في المستقبل- بدلاً من الاستمتاع بالزهور المتفتحة وراء نوافذنا اليوم. لماذا نكون حمقى هكذا، يتساءل ديل كارنيغي؟ أوليس الحياة في نسيج كل يوم وكل ساعة؟ إن حال بعض المغتربين لأشبه بحال ذلك المتقاعد الذي كان يؤجل الكثير من مشاريعه حتى التقاعد. وعندما يحين التقاعد ينظر إلى حياته، فإذا بها وقد افتقدها تماماً وولت وانتهت.
إن معظم الناس يندمون على ما فاتهم ويقلقون على ما يخبئه لهم المستقبل، وذلك بدلاً من الاهتمام بالحاضر والعيش فيه. ويقول دانتي في هذا السياق:» فكــّر في أن هذا اليوم الذي تحياه لن يأتي مرة أخرى. إن الحياة تنقضي وتمر بسرعة مذهلة. إننا في سباق مع الزمن. إن اليوم ملكنا وهو ملكية غالية جداً. إنها الملكية الوحيدة الأكيدة بالنسبة لنا».
لقد نظم الأديب الهندي الشهير كاليداسا قصيدة يجب على كل المغتربين وضعها على حيطان منازلهم. تقول القصيدة: «تحية للفجر، انظر لهذا اليوم! إنه الحياة، إنه روح الحياة في زمنه القصير. كل الحقائق الخاصة بوجود الإنسان: سعادة التقدم في العمر، مجد الموقف، روعة الجمال. إن الأمس هو مجرد حلم انقضى، والغد هو مجرد رؤيا، لكن إذا عشنا يومنا بصورة جيدة، فسوف نجعل من الأمس رؤيا للسعادة، وكل غد رؤيا مليئة بالأمل. فلتول اليوم اهتمامك إذن، فهكذا تؤدي تحية الفجر».
لمَ لا يسأل المغتربون عن أوطانهم السؤال التالي ويجيبون عليه، لعلهم يغيرون نظرتهم إلى الحياة في الغربة: هل أقوم بتأجيل الحياة في بلاد الاغتراب من أجل الاستمتاع بمستقبل هـُلامي في بلادي، أو من أجل التشوق إلى حديقة زهور سحرية في الأفق البعيد؟
كم أجد نفسي مجبراً على أن أردد مع عمر الخيام في رائعته (رباعيات): لا تشغل البال بماضي الزمان ولا بآتي العيش قبل الأوان، واغنم من الحاضر لذاته فليس في طبع الليالي الأمان.
٭ كاتب واعلامي سوري
[email protected]

د. فيصل القاسم

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول طاهر فلمبان:

    تحية لمن كتب ولك من علق على هذا الموضوع

    والله انني عايش بين اهلي وبلدي ومسيور الحال ، لكن احوال العرب والمسلمين مشغله كل تفكيري وبالي … اعتقد غربة الوقت اسوء من غربة المكان .. والله مايهون علي اكلي وشربي وسعادتي واقراني من العرب والمسلمين تحت النار،،

    طاهر
    الرياض

  2. يقول حسام:

    خرجت من الوطن قبل ٢٠ عاما” بعد أن زرت أغلب أفرع المخابرات و الأمن وانا بالطائرة الى الان ادعوا الله العلي القدير ان لا ارى هذا الوطن حتى في المنام……. لعن الله الأوطان ان لم نحيا بها بكرامة و عزه نفس….صح لسانك يادكتور

  3. يقول لولو بريطانيا:

    كلام جميل بالفعل أستاذ فيصل .. لكن الواحد يكون وسط لايسرف ولا يبخل ع نفسه كما أمرنا صلى الله عليه وسلم

  4. يقول شَريف عبدُ الحكم ـــ مِصر ( باريس ):

    لا تُوحِش النفسَ بخَوفِ الظنون … وَاغنَم من الحاضرِ أمنَ اليقين
    فقد تساوى في الثرى … راحلٌ غدا وَماضٍ من ألوف السنين

  5. يقول مهاني فؤاد (المغرب):

    يا أخي فيصل وأنت كسوري عن أي وطن سيعود إليه هذا المواطن السوري المغترب،هل يعود إلى بلد منكوب دمرت مدنه وأحرقت مزارعه ويتم
    أبنائه ورملت نسائه واغتصبت حرائره وشرد وجوع شعبه وهتكت أعراضه.
    هذا الوطن وبكل أسف مات فيه كل شيء وأصبح هو الغريب وعندما تعود إليه الروح وتدب فيه الحياة إذاك يمكن التكلم عن غربة الوطن.

  6. يقول عبد الرازق علي - فلسطين:

    نسي الدكتور فيصل القاسم الآية الكريمة التي تغني عن مقاله وهي( ولا نجعل يدك مغلولة الى عنقك ولا تبسطها كل البسط فتقعد ملوما محسورا) صدق الله العظيم

  7. يقول غياث احمد:

    اخلق الله الانسان والحوان والطير وجعل حب الوطن فطرة في كل المخلوقات
    سمك السلمون يقطع الاف الاميال ليعود الى موطنه
    الطيور كذلك
    وكما قال الشاعر

    العين بعد فراقها الوطنا
    …………لا ساكـناً ألفت ولا سكنــا

    ريانة بــالدمع أقلقهــا
    …………ألا تحـس كــرى ولا وسنــا

    كانت ترى في كل سانحـــة
    ………… حُسناً وباتت لا ترى حسنـا

    يا موطناً عبث الزمان به
    ……….من ذا الذي أغرى بك الزمنا

    قد كان لي بك عن سواك غنى
    …………لا كان لي بسواك عنـك غنى

    ما كـنت إلا روضـة أنفـاً
    ………..كرمـت وطابت مغـرساً وجـنى

    عطفوا عليك فأوسعوك أذى
    ………….وهـم يسـمّون الأذى مـننا

    وجنوا عليك فجردوا قضـبا
    ………….مسنونـة وتـقدموا بقـنا

    والقلب لولا أنَّةٌ صعـــدت
    ………….أنكرته وشككت فيه أنــا

    يا طائراً غنى علـى غصـن
    ……….والنيـل يسقي ذلك الغصنــا

    زدني وهج ما شئت من شجني
    ………..إن كنت مثلي تعرف الشجـنا

    أذكرتني ما لست ناســيه
    …………..ولرب ذكرى جــددت حزنـا

    أذكرتني بـردى وواديــه
    ………….والطير آحـاداً به وثــنى

    وأحبة أسـررت مـن كـلفي
    …………..وهـواي فيـهم لاعجـا كمنا

    كم ذا أغالبـه ويغلبـني
    ………….دمـع إذا كفكـفـته هتنــا

    لي ذكريات فـي ربوعهـم
    ………….هـنّ الحيـاة تـألقاً وسـنا

    إن الغريب معذب أبــداً
    ……………إن حلَّ لم ينعم وإن ظعنا

  8. يقول سامي د.، الولايات المتحدة:

    كثيرون يحبون أن يجعلو من مكان إقامتهم وطنهم، لكن مانسي أو تناسى السيد فيصل ذكره هو أن أهم أسباب عدم شعور المغترب بأنه بموطنه هوعدم تسهيل بلده الجديد الإقامة والحصول على الجنسية، كما تفعل دول الخليج ب”أشقائهم” العرب.

  9. يقول م . حسن . هولندا:

    الآن وهنا , ليس في زمان آخر أو مكان آخر . كثيرا عادوا الي أوطانهم , وعاشوا غربة فوق غربة . بعد أن سادت نعمة النسيان . ما عدا ما هو جميل وسط العناء . في عصر العولمة الذى تصغر فية الأرض كل يوم , حتي أصبحت قريبة صغيرة , تسبح في فضاء بمليارات السنوات الضوئية , يبقي مسقط الرأس هو الوجدان والأهل والوطن البكر .

  10. يقول مراد العربي:

    لا ليس صحيحا البتة ما تفرضه في هذا المقال الذي يتطلب أن يسعد الانسان بأوقاته في أي مكان في الاغتراب ويكأن الانسان ماكينة بدون مشاعر واحاسيس ..ولكنني أدرك تماما بأن ما قلت ضربا من التهوين والتكسير على الذات ….ولنا في حديث الرسول محمد عن مكة اصدق الاقوال في حب الاوطان رغم الحفاوة والمكانة الرفيعة لسيدنا في المدينة المنورة قائلا عن مكة “والله أنك أحب البلاد إلى قلبي ولو أن أهلك أخرجوني ما خرجت .وعندما قويت شوكة الاسلام عاد النبي إلى مكة فاتحا مكبرا ……………..وأسأل الله أن يعيدك أنت والسوريين إلى أغلى البقاع على قلوبكم .

1 4 5 6 7 8 9

إشترك في قائمتنا البريدية