إيران: أزمة تلد أخرى

صادق الطائي
حجم الخط
0

تتوالد أزمات إيران بشكل متسارع، إذ يبدو أنها والمنطقة مقبلة على عام مليء بالمفاجآت. فبعد ما كان العام الماضي عسيرا على الشعب والقيادة الإيرانية لعدة أسباب نتيجة مواقف إدارة ترامب من الملف النووي وتداعيات حزم العقوبات الأمريكية على إيران، يبدو العام الجديد أشد وأقسى. ففي غضون أسبوعين شهدت إيران العديد من الكوارث السياسية والعسكرية والاقتصادية. فالتوتر الأمريكي-الإيراني بلغ حدا لم يصله من قبل، إذ تحول النزاع من تهديدات متبادلة إلى قصف صاروخي، فقدت إيران أحد أهم جنرالاتها، قاسم سليماني قائد فيلق القدس الذي اغتالته الولايات المتحدة بقصف صاروخي حال وصوله إلى مطار بغداد قادما من دمشق. التلويح الإيراني بالرد أرعب المنطقة وأصاب الرأي العام العالمي بالتوتر، لكنه جاء محدودا في ضربات صاروخية وجهت لقواعد عراقية تتواجد فيها قوات أمريكية، بدون أن تخلف الهجمات خسائر بشرية في الجانب الأمريكي أو العراقي.

الطائرة الأوكرانية

تزامن مع إطلاق صواريخ الرد الإيراني على القواعد العسكرية في العراق في الثامن من كانون الثاني/يناير أن سقطت طائرة رحلة الخطوط الجوية الدولية الأوكرانية PS752 وهي في طريقها إلى كييف، بالقرب من مطار الخميني في طهران بعد فترة وجيزة من إقلاعها، وقد كان على متنها 176 راكبا أغلبهم كنديون من أصول إيرانية بالإضافة إلى جنسيات أخرى، وطاقم الطائرة المكون من تسعة أفراد، كل هؤلاء قتلوا في الحادث الذي لم ينج منه أحد من ركاب الطائرة المنكوبة، وقد أعلنت سلطات الطيران المدني الإيرانية مباشرة إن سبب سقوط الطائرة هو عطل فني.

 الطائرة الأوكرانية كانت من طراز بوينغ 737-800 الذي يعد أحد أكثر نماذج الطائرات استخداما في صناعة الطيران الدولية، لذلك شككت شركة الطيران الأوكرانية في الرواية الإيرانية، وذكرت إن طائرتها حديثة وسليمة، وقد دخلت الخدمة منذ أربع سنوات فقط، وطالب الأوكرانيون بفتح تحقيق دولي لمعرفة أسباب الحادث. وردت الجهات الرسمية الإيرانية إنها ما تزال في طور التحقيق في ملابسات ما حدث، وإن العثور على الصندوقين الأسودين الخاصين بالطائرة سوف يسلط الضوء على كل تفاصيل كارثة سقوطها.

يبدو إن هناك جهات إيرانية متنفذة سعت إلى طمس مسرح الحادث عبر جمع أشلاء الطائرة باستعجال، كما تم رفع الجثث وتنظيف المكان بسرعة، قبل وصول المحققين الأوكرانيين والكنديين، ما أثار شكوك الكثير من خبراء حوادث الطيران، لأن مثل هذا الإجراء يشير إلى محاولة إخفاء أدلة من ساحة الحدث، ولم يطل الأمر سوى أيام، لتعلن جهات رسمية من الحرس الثوري الإيراني مسؤوليتها عن إسقاط الطائرة المنكوبة نتيجة “خطأ بشري” كما وصف البيان الإيراني ما حدث.

فقد أطلق صاروخ على الطائرة نتيجة غياب التنسيق بين الجهات العسكرية والجهات المدنية الإيرانية، كما كشفت تصريحات إيرانية لاحقة، إن كل الرادارات الإيرانية وقطاع سلاح الصواريخ كان على أعلى مستوى من الحيطة والتوجس والحذر في ليلة توجيه الضربة الصاروخية للقوات الأمريكية المتواجدة في قاعدتي عين الأسد وحرير في العراق، وقد توقع المسؤولون عن الرصد ردا أمريكا على الضربة الإيرانية الصاروخية، لذلك توهموا بأن الطائرة الأوكرانية كانت صاروخ كروز أمريكيا، ما أدى إلى إسقاطها.

كارثة إسقاط الطائرة الأوكرانية نتيجة قرار عسكري خاطئ زاد من الطين بلة بالنسبة للأزمات الإيرانية، فبالرغم من تصريح الرئيس الإيراني روحاني باستعداد بلاده لتحمل مسؤولية ما حدث بالكامل سياسيا واقتصاديا وأخلاقيا، إلا أن الأمر شكل ضربة اخرى لجسد مثخن بالجراح.

موجة غضب شعبي

الكذب ومحاولة التغطية على الجريمة من جهات إيرانية رسمية أطلق موجة غضب شعبي في الشارع الإيراني قاده طلبة الجامعات هذه المرة، إذ خرج مئات الشباب مرددين شعارات ضد قادة البلاد، وقاموا بتمزيق صور قاسم سليماني الموجودة في الشوارع. طلبة جامعتين في طهران على الأقل خرجوا في مظاهرات شموع تأبينا لقتلى حادثة الطائرة الأوكرانية، لكن سرعان ما تحولت مسيرة الشموع إلى مسيرة غاضبة، وهتف المحتجون بضرورة “تنحي القائد الأعلى للقوات المسلحة” في إشارة إلى المرشد الأعلى ‏علي خامنئي، كما هتفوا أيضا “الموت للكاذبين‎”. وكادت أزمة جديدة ان تندلع نتيجة توقيف قوات الأمن الإيرانية للسفير البريطاني في طهران روب ماكير، الذي كان مشاركا في مسيرة الشموع، والذي تم توقيفه لمدة قصيرة، وسرعان ما أطلق سراحه وقد كاد الأمر أن يتحول إلى أزمة دبلوماسية بين البلدين.

وقال مسؤولون إيرانيون حسب وكالة “ايرنا” الإيرانية شبه الرسمية إن الشرطة اعتقلت روب ماكير باعتباره “أجنبيًا مجهولا في تجمع غير قانوني” وقد أُطلق سراحه بمجرد التأكد من هويته. لكن ماكير بدوره أصر على أن الأمر مدبر، أذ قال لوسائل إعلام إنه “لم يشارك في أي مظاهرات” لكنه بدلاً من ذلك “ذهب إلى حدث تم الإعلان عنه لتأبين ضحايا مأساة الطائرة الأوكرانية”. كما أكد أنه احتُجز “بعد نصف ساعة من مغادرته منطقة” الاحتجاج، وهو ما يتناقض مع ما قالته بعض وسائل الإعلام الإيرانية شبه الرسمية بأنه قد تم اعتقاله في وسط الحشد. وفي بيان رسمي تعليقا على الحدث، قال وزير الخارجية البريطاني دومينيك راب “إن اعتقال سفيرنا في طهران بدون أي سبب أو تفسير يعد انتهاكًا صارخًا للقانون الدولي”.

الأزمة النووية

الأزمة النووية الإيرانية بدورها دخلت مسارات تصعيدية مرعبة، إذ أعلنت طهران في الخامس من كانون الثاني/يناير أنها لم تعد ملتزمة بأي قيود على عدد أجهزة الطرد المركزي المستخدمة لإنتاج الوقود النووي. وجاء ذلك بعد يومين من اغتيال واشنطن الجنرال قاسم سليماني في بغداد، إذ اعتبرت إيران الدول الأوروبية غير مستعدة لحماية الاتفاق النووي، كما إنها غير قادرة على الوقوف بوجه تنمر ‏ترامب على إيران منذ انسحابه من الاتفاقية النووية، وفرضه المزيد من حزم العقوبات عليها ما أصاب الاقتصاد الإيراني بأضرار كبيرة، ولم يقف الأمر عند هذا الحد، بل تطور إلى افعال عسكرية مباشرة منها اغتيال جنرال بأهمية سليماني.‏

وقد صرح الرئيس الإيراني حسن روحاني في لقاء تلفزيوني يوم الخميس 16 كانون الثاني/يناير، قال فيه إن” طهران لم يعد لديها أي التزامات بالاتفاق النووي، وأنه لا قيود على البرنامج النووي الإيراني، بعد انسحاب الولايات المتحدة منه”. وأضاف، إن “الأمريكيين انتهجوا خططا سقيمة وخاطئة ضد إيران، وإن الشعب الإيراني أصبح اليوم أكثر قوة وعزيمة في مواجهة الحظر والمؤامرات الأمريكية”.

وهذه هي المرة الأولى التي تعلن فيها إيران موقفها بهذا الوضوح، وتقول على لسان رئيس جمهوريتها، بأنها لم تعد ملزمة بأي بند من بنود الاتفاق النووي. لكن ماذا يعني هذا الكلام على الصعيد العملي؟ وما هو رد الأوروبيين على الموضوع؟ وما هو الموقف الإسرائيلي مما وصل إليه الأمر من تصعيد؟

الترويكا الأوروبية (فرنسا وبريطانيا وألمانيا) دعت إيران يوم الأحد 12 كانون الثاني/يناير الجاري إلى العودة و”الامتثال الكامل” لالتزاماتها بموجب الاتفاق النووي، وقال الأوروبيون في بيان مشترك في سياق التوتر بين طهران وواشنطن، رسالتنا واضحة “ما زلنا ملتزمين بالاتفاق النووي ونريد الحفاظ عليه، ونحض إيران على إلغاء جميع التدابير التي تناقض الاتفاق، كما ندعوها إلى الامتناع عن أي أعمال عنف جديدة، وسنظل على استعداد للدخول في حوار مع إيران على هذا الأساس من أجل الحفاظ على استقرار المنطقة”.

كما أكدت أكدت لندن وباريس وبرلين “استعدادها” للعمل “من أجل خفض التصعيد و(ضمان) الاستقرار في المنطقة” مكررة ضرورة “الرد، عبر الدبلوماسية وفي شكل ملحوظ، على القلق المشترك المتصل بأنشطة إيران الإقليمية المزعزعة للاستقرار، وبينها تلك المرتبطة ببرامجها الصاروخية”.

الرد الإسرائيلي على الأمر جاء سريعا، إذ صرح مسؤولون إسرائيليون بالقول إن إيران تحتاج إلى “أكثر من ستة أشهر بقليل” لصنع قنبلة نووية، حسبما ‏نقلت وسائل إعلام إسرائيلية محلية مساء الثلاثاء 14 كانون الثاني/يناير‏، فيما أكد رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو أن “إسرائيل لن تسمح ‏لطهران بحيازة القنبلة النووية”‎.‎

وقد أوضح الخبراء الإسرائيليون الأمر بقولهم إن إيران تخصّب ما بين 100 و180 كلغ من ‏اليورانيوم شهرياً بنسبة 4 في المئة وهو معدّل سيسمح لطهران بأن تحصل بحلول نهاية العام الحالي على ما يقرب ‏من 25 كيلوغراماً من اليورانيوم عالي التخصيب، وهذا يمثل العتبة اللازمة لصنع قنبلة نووية.

تصاعد الازمة باضطراد دفع الأوروبيين إلى التلويح باحتمالية التوجه إلى مسار فرض العقوبات على طهران لمنعها من خرق الاتفاق النووي، فعلى ضوء تصريح وزير الخارجية الفرنسي جان إيف لودريان ‏إبان اجتماع وزراء خارجية الاتحاد الأوروبي يوم الجمعة 10 كانون الثاني/يناير الذي أعلن فيه إن” إيران في ظل هذه الظروف بإمكانها في غضون سنة أو سنتين امتلاك المواد النووية اللازمة لإنتاج أسلحة نووية”. بدا ان الترويكا الأوروبية تسير بأتجاه تطبيق ما يعرف ببنود التحكيم في الاتفاقية النووية.

وقد صرح جوزيب بوريل مفوض الاتحاد الأوروبي للسياسة الخارجية، قائلا “يجب إيجاد سبل لدفع إيران مجددا للتمسك بالتزاماتها في الاتفاقية النووية”. ويأمل بوريل من خلال تفعيل آلية التحكيم المنصوص عليها في الاتفاقية أن ينفتح الباب أمام نقاشات جديدة مع الحكومة في طهران. ويبقى الخوف من تصعيد جديد في المنطقة هو العامل المسيطر على الأجواء في منطقة الشرق الأوسط نتيجة توالد الأزمات من بعضها البعض وبدون ان تلوح في الأفق بوادر تهدئة يمكن الركون إليها.

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية